وليد شقير: منصة بوتين السورية/أمير طاهري: لماذا تأخذ الحرب الصحيحة منحى خاطئًا/راغدة درغام: هدف موسكو فرض التسويات في المنطقة بشروطها

337

لماذا تأخذ «الحرب الصحيحة» منحى خاطئًا؟
أمير طاهري/الشرق الأوسط/09 تشرين الأول/15
دأب وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قبل أشهر قليلة فقط، على تقديم أفغانستان بوصفها قصة نجاح في السياسة الخارجية لإدارة باراك أوباما، حيث كانت خطة الرئيس الرامية لاستكمال الانسحاب العسكري الأميركي من البلاد على وشك الانتهاء، كما كان الحديث يدور حول تأسيس «حوار» مع طالبان بوساطة قطرية. بيد أن نوبة محدودة من الذعر أصابت البيت الأبيض أوائل هذا الشهر مع وصول أنباء حول استيلاء طالبان على قندوز، سادس أكبر مدينة أفغانية، في حين ولّى الجيش الأفغاني الذي درّبته الولايات المتحدة، الأدبارَ من دون قتال. لقد كانت هزيمة مذلّة لحقت بحامية قندوز المؤلّفة من 7 آلاف رجل، الذين تركوا وراءهم أسلحتهم الأميركية الجديدة لتغنمها قوة طالبان المكونة من ألف رجل فقط. واضطرت قوة «الناتو» التي تقودها الولايات المتحدة، والتي ما زالت في أفغانستان، إلى أن ترضى بما تيسّر من جنود لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف ونحو 12 طائرة مقاتلة، لكي تشنّ هجومًا مضادًا في قندوز، حيث تمكّنت من استعادة السيطرة على أجزاء من المدينة بعد أسبوع من القتال. إلا أن طالبان كانت قد أثبتت بالفعل وجهة نظرها. لقد برهنت طالبان على أن الرئيس الأفغاني أشرف غني وحلفاءه في «الناتو» لا يستطيعون، بفضل الانسحاب الذي قاده أوباما، الدفاع عن كل شبر من الأراضي الأفغانية. واضطر غني وحلفاؤه إلى سحب القوات من مزار شريف وبادخشان لشنّ الهجوم المضاد في قندوز، لتغتنم طالبان الفرصة وتبسط سيطرتها على إقليم واردوج و13 قرية استراتيجية أخرى بالقرب من الحدود مع طاجيكستان.
وتسجل طالبان بالفعل حضورًا قويًا في عدة ولايات أفغانية، لا سيما فراه، ونيمروز، وهلمند، وقندهار، وباكتيكا، وأوروزغان، حيث تغيب الحكومة المركزية عنها فيما عدا المدن الرئيسية التي لا تعفيها طالبان من دخولها من حين لآخر، ولو لبضعة أيام فحسب، كي تستعرض علمها وترهب العناصر الموالية للحكومة، ولا مانع من ارتكاب بعض أعمال النهب قبل المغادرة.طالبان نفذت ذلك بالضبط الصيف الماضي في «موسى قلعة»، على الحدود مع باكستان، وفي لشقرغاه، عاصمة ولاية هلمند. كما نفذت هجومًا مثيرًا، وإن باء بالفشل في نهاية المطاف، ضد أتشين، وهي قاعدة كبيرة للجيش الأفغاني في نانغارهار. كما شنّت عملية نهب كبرى في منطقة تيرغاران الشمالية، حيث سلبت مخزونات من الطعام والأسلحة المقدمة من الولايات المتحدة. فلماذا إذن عادت طالبان إلى المبادرة بالهجوم في هذا التوقيت؟ ربما كان من المخطط أن يتزامن هجوم قندوز مع الذكرى التسعين لقيام أفغانستان دولةً مستقلةً. ولا تعترف طالبان بالدول، حيث تعدّ الأمة الإسلامية بالنسبة إليها حقيقةً مفردةً، كما أن الإيمان وحده، وليست الجنسية، هو الذي يحدد هوية شخص ما. كان الملا محمد عمر، مؤسس حركة طالبان وأول زعيم لها، قد نصّب نفسه أميرًا للمؤمنين، إلا أن خليفته الملا محمد أختر منصور الذي تولّى القيادة الربيع الماضي فقط، لم ينسب إلى نفسه هذا اللقب بعد.
وينعت منصور نفسه بـ«أمير الجهاد»، مؤكدًا بذلك البعد العسكري وليس السياسي في مسعى طلبان الجديد لاقتناص السلطة. السبب الثاني وراء نشاط طالبان المحموم في الآونة الأخيرة هو شعورها بضعف الولايات المتحدة، الذي تأكد إلى حد كبير بعد إبرام الرئيس أوباما «اتفاقه النووي» مع ملالي طهران.
وكانت محادثات تقاسم السلطة الموعود بين الرئيس غني وطالبان، التي جرت بتشجيع من الولايات المتحدة، من أوائل ضحايا هذا الشعور. وأسدل الملا منصور الستار على تلك المحادثات الشهر الماضي، وقال في بيان للقيادة الجديدة في طالبان، إن «الأميركيين يرحلون ولم يعودوا ذوي صلة. فلماذا نتقاسم السلطة عندما نستطيع عما قريب أن نحصل عليها كلها في كابل؟». السبب الثالث قد يكمن في رغبة الملا منصور في تقديم نفسه في مظهر القائد القوي. كان قادة طالبان تكتّموا على نبأ وفاة الملا عمر لأنهم لم يستطيعوا الاتفاق على خليفته. وبينما كانت تدعو إيران إلى تولية محمد، أحد أبناء الملا الراحل، كانت باكستان تساند الملا منصور. بل إن الفصيل الموالي لإيران ومنافسه الموالي لباكستان تقاتلا، ولا سيما في ولاية هرات، غرب البلاد، حتى أصبح من الواضح أن إيران لن تتمكّن من السيطرة على حركة سنية مثل طالبان.
وقد يكون ظهور جماعات مؤيدة لـ«داعش» تحاول منافسة طالبان أحد أسباب نشاط المسلحين المتشددين مؤخرًا. وتقول الحكومة الإيرانية، إن أكثر من 80 جماعة من هذا التيار موجودة بالفعل في أفغانستان أو المناطق الباكستانية القريبة من حدود إيران وأفغانستان.
وما زالت هذه الجماعات صغيرة الحجم وعاجزة عن حجز مكان لها وسط كبار «الجهاديين». ويتعاون بعضها مع طالبان، بينما تمد جماعات أخرى يد المساعدة إلى المتمردين البلوش في باكستان وإيران. لكنّ الجماعات على شاكلة «داعش» يمكن أن تنمو سريعًا بفضل تدفّق المتطوعين من كل أصقاع الأرض والدعم المالي الكبير من بعض الأفراد الأثرياء في البلدان الإسلامية. وقد يحاول الملا منصور، عبر التحول إلى الهجوم، أن يثبت لأنصاره أنه لا توجد حاجة إلى جماعات على شاكلة «داعش»، وأن الحكم الإسلامي يمكن أن يعود إلى كابل عبر طالبان.
وأخيرا، وعلى الرغم من النفي الروتيني، فإنه لا مجال للشك في أن باكستان تلعب دورًا في إعادة تنشيط طالبان.. ففي ضوء سحب الولايات المتحدة نفسها من المعادلة، يمكن أن تسقط أفغانستان تحت نفوذ تحالف إيراني – روسي – هندي، يعزل باكستان التي يعدّها غالبية الأفغان الذين ليسوا جميعهم من البشتون مثل طالبان، قوة معادية.
يذكر أن البشتون هم أكبر طائفة في أفغانستان، حيث يشكّلون ما بين 38 و40 في المائة من عدد السكان. وتحتاج باكستان إلى أفغانستان بوصفها ظهيرا يوفر لها عمقًا استراتيجيًا وقناة موصلة إلى الدول الإسلامية في آسيا الوسطى. ولا يمكن لأي حكومة باكستانية أن تسمح بسقوط أفغانستان تحت سيطرة تحالف من القوى المعادية. ولطالما وصف الرئيس أوباما أفغانستان بأنها «الحرب الصحيحة» في مقابل «الحرب الخاطئة» في العراق. وحتى لو قبلنا بهذه الأوصاف الغريبة، فلن يصعب علينا تبيّن أنه يفرض «السلام الخاطئ» على «الحرب الصحيحة». ومن شأن انسحابه المبكّر من أفغانستان أن يؤجّج النيران الخامدة لحرب مزّقت هذا البلد منذ عام 1979. إن الوجود الأميركي القوي هو الضامن للسلام والعملية الديمقراطية في أفغانستان ما بعد طالبان. لكنّ مهمة إنشاء أفغانستان جديدة أفضل لم تُنجز بعد، والانسحاب الآن سوف ينظر إليه بوصفه حيلة بائسة للهروب الجبان، ونموذجا آخر لاقتناص أوباما الهزيمة من بين أنياب النصر. ومما يدعو إلى السخرية أن أوباما يمتلك الآن عددًا أكبر من القوات في العراق، أرض «الحرب الخاطئة»، مقارنة بأفغانستان بحربها «الصحيحة». وتعد طالبان بالفعل لهجمات ضد باغلان وسامانغان ومزار شريف. وتهدف بذلك إلى تحويل البلاد إلى قاعدة أخرى لتصدير الإرهاب إلى آسيا الوسطى والصين في البداية، ثم إن عاجلاً أو آجلاً، إلى بقية العالم.

هدف موسكو فرض التسويات في المنطقة بشروطها
راغدة درغام/الحياة/09 تشرين الأول/15
بعد أسبوع على بدء العمليات الروسية العسكرية في سورية، أين تقف الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والدول العربية؟ وماذا بعد؟ بدأت روسيا عملياتها العسكرية تحت عنوان «الحرب على الإرهاب» واستثنت «الجيش السوري الحر» من هذا التصنيف. لكن التشكيك رافق الغارات الروسية وانطلقت الاتهامات بأن الغارات الروسية استهدفت المعارضة وأنها كادت تركز عليها بدلاً من «داعش» أو «جبهة النصرة». موسكو لم تكن في حاجة لمن أراد تقنين عملياتها العسكرية في الحرب على الإرهاب لأنها، منذ البداية، أوضحت – علناً – ان احد ركائز تدخلها العسكري هو دعم نظام بشار الأسد. أبلغت كل من يعنيهم الأمر ان هدفها الإستراتيجي ذو شقين أساسيين: توفير الغطاء الجوي لقوات النظام البرية لكي يستعيد قواه ليكون لاعباً في المستقبل السوري – أقله في حال التقسيم. وثانياً، القضاء على التنظيمات الإرهابية الإسلامية في عقر الدار السوري كي لا يتطاول التطرف الإسلامي على روسيا في عقر دارها أو في جيرتها المسلمة في الجمهوريات الخمس المعروفة بالـ «ستان». الصمت العربي النسبي على الدور الروسي العسكري في سورية له دلالات، وكذلك التصريحات – على نسق ما قاله وزير الخارجية المصري سامح شكري – التي تضمنت شبه مباركة للغارات الروسية على «داعش» في سورية. قراءة المواقف العربية ليست سهلة سيما ان المواقف المعلنة تتمسك برحيل الرئيس السوري فيما المواقف الروسية تتمسك به. هناك قراءتان أساسيتان: إما أن الدول العربية الأساسية تفاهمت ضمناً على أولوية سحق «داعش» الذي يهددها وجودياً حتى لو كلّف ذلك تقوية النظام في دمشق بما في ذلك بقاء بشار الأسد لفترة زمنية، وبالتالي توصلت هذه الدول الى اقتناع بأن عليها القفز على «عقدة الأسد» والكف عن اعتبار رحيله أو بقائه مسألة مركزية. أو أن هذه الدول العربية حصلت على تفاهم ضمني من موسكو – ومن واشنطن أيضاً – بأن المعادلة الآن هي بقاء النظام من دون الأسد على المدى البعيد انما مع تفهم ضرورة بقاء الأسد في المرحلة الآتية.
المشكلة الرئيسية في السيناريو الثاني تكمن في ما يسمى إما «الضمانات» أو في عقدة الثقة. وهذه العقدة ليست فقط بين الروس والأميركيين ولا بين الأتراك والروس والعرب أو الأميركيين والعرب. انها عقدة الثقة المفقودة بين جميع اللاعبين بلا استثناء. ولذلك انها اللعبة السياسية على انقاض سورية وعلى جثث السوريين. إيران ليست جزءاً من لعبة الثقة. انها واضحة في انها لا تثق، واضحة في دعمها القاطع، منذ البداية، لبشار الأسد ونظامه بكل امكانياتها العسكرية – عبر «حزب الله» و»الحرس الثوري» – وسياسياً، عبر رفضها البصم على عملية جنيف الداعية الى هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة لأنها تعني الانتقاص من سيطرة الأسد. تركيا وأوروبا تتصدران قائمة اللاوضوح. تركيا زايدت ثم تراجعت، وساهمت في ما آلت اليه الأوضاع في سورية. وهي بذلك تقع في الخندق ذاته مع دول خليجية توعّدت وتقهقرت بكلفة باهظة على سورية.
روسيا وتركيا لهما تاريخ في اللاثقة وفي المنافسة. روسيا ورثت العظمة عن الاتحاد السوفياتي، وتركيا تريد أن تحيي العظمة العثمانية. كلاهما يفكر ليس فقط في أهمية الدور الإقليمي والدولي في المعادلة السياسية – الجغرافية. انهما يفكران في المصالح الاقتصادية بما فيها أنابيب الغاز وسبل تصدير الطاقة الى أوروبا والقوقاز. كلاهما يرأسهما رجلان يعتبران نفسهما عازمين على صنع التاريخ. وسورية اليوم ساحة للشخصية النرجسية، الروسية والتركية. أحد مراكز القوة لدى تركيا هو جيرتها المباشرة مع سورية بما ينطوي ذلك عليه من سيطرة على الهجرة السورية والكردية وكذلك العراقية الى الدول الأوروبية – تلك الهجرة التي ترعب الأوروبيين. وكما يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسألة الهجرة كجزء من استراتيجيته السورية، كذلك يفعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. إنما النقطة الأخرى في مراكز القوى التركية هي انتماء تركيا الى حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأمر الذي يضع أية تجاوزات روسية عسكرية في عملياتها العسكرية في سورية موضع قلق لموسكو – وأنقرة واعية جداً لتلك الورقة المهمة. لذلك، لن يحدث صدام بين روسيا وتركيا مهما آلت اليه الأمور. موسكو لن تتجاوز. وأنقرة لن تتمكن من جرّ الناتو مهما فعلت. فالقرار الأوروبي، كما القرار الأميركي، ليس في وارد التورط مع روسيا في سورية، بل ليس في وارد التورط في سورية بروسيا، أو من دونها. ألمانيا صريحة في وقوفها مع روسيا وإيران حتى لو تضمن ذلك وقوفها مع نظام الأسد و «حزب الله» معه. فرنسا متأرجحة دائماً ولقد حان لها ان تستقر لأنها في هذا التأرجح لا تخدم نفسها ولا تساعد سورية أو الدول العربية التي تعيرها أهمية. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يحذر من حرب شاملة لن تكون أوروبا بمنأى عنها. يقول ان الإقدام العسكري الروسي يهدد التوازن الإستراتيجي وإن الحرب «ستصبح شاملة» ما لم تتحرك أوروبا. لا يتقدم بإستراتيجية متكاملة ويكتفي بخطوة هنا وخطوة هناك، معظمها متأخرة. فرنسا تطرح اليوم مشروع قرار في مجلس الأمن ضد استخدام البراميل المتفجرة. اليوم؟ ولماذا ليس قبل سنة؟ فرنسا تتحدث بلغة التصدي داخل الاتحاد الأوروبي وفي وجه تلكؤ الولايات المتحدة. لكنها ما تلبث ان تهرول، كما فعلت في أعقاب الاتفاق النووي مع ايران.
لذلك. ليس مريحاً للرئيس الفرنسي أن يكشف الرئيس الروسي انه اقترح عليه صيغة «خلاقة» هي المزيج بين قوات «الجيش السوري الحر» وقوات النظام في دمشق من أجل تشكيل جبهة ضد «داعش». بوتين كشف عن ذلك للازدراء بهولاند وبالطبع، هولاند ينفي لأن مثل هذا الاقتراح منتهى السخافة.
بريطانيا لها أسلوبها لكن سياستها لا تخفى على أحد. إنها الملهم والملبّي لواشنطن. رئيس الورزاء ديفيد كامرون يتحدث اليوم بلغة تقوية قوات النظام وقوات «الجيش السوري الحر» معاً. وهو بذلك، عملياً، يتحدث بنفس لغة هولاند. وربما هذه هي المعادلة الأوروبية الجديدة التي إما لها دعم من واشنطن أو أن واشنطن صاحبة الوحي بها. الصين لها حساباتها الخاصة. إنها في تحالف مع روسيا في الشرق الأوسط ولن تتدخل في الإستراتيجية الروسية ما لم تضطر إلى ان تقوم بذلك. وبما أن العلاقة الاقتصادية الصينية – العربية على ما يرام، لا داعي لبكين ان تفعل أكثر مما تفعله وهو النأي بالنفس عن أحداث المنطقة العربية.
أما الولايات المتحدة، فإنها في حال انفصام كما يبدو في المشهد العام، إلا أنها في غاية التماسك عند النظر في إستراتيجياتها البعيدة المدى.
رأي روسيا هو أن الولايات المتحدة في حال ضعف وتردّد وتراجع في البنية التحتية السياسية وكذلك مع فرصة نادرة لموسكو تتمثل في إدارة أميركية قرّرت عدم الانخراط في صراعات الشرق الأوسط والانسحاب منه طوعاً.
لا يهم روسيا أن يقول وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر إن واشنطن غير مستعدّة «للتعاون» مع روسيا في سورية طالما يقرّ بضرورة «التوافق على إجراءت السلامة» عند التنسيق في الطلعات الجوية. لا يهمها أن يقول ان السياسة الروسية في سورية «معيبة في شكل مأساوي» طالما أن واشنطن أوضحت أنها لن تفعل أي شيء إزاء تلك السياسة «المعيبة». من الواضح لموسكو أن واشنطن أعطتها الضوء الأخضر في سورية وأنها، كما أوعزت لها عملياً، تنوي التنديد علناً. ما يهم روسيا هو أن أمامها فرصة تاريخية لنحت جغرافيا جديدة لدورها السياسي في الشرق الأوسط عبر سورية. إنها في صدد بناء محور أو محاور في الشرق الأوسط بقيادة روسية. وهي تريد أن تقود تسويات سياسية لأزمات الشرق الأوسط وفق الشروط الروسية بدءاً ببقاء نظام بشار الأسد في السلطة رغم أنف الادعاءات الأميركية والأوروبية والعربية بأن ذلك مستحيل لأنه، وفق رأيهم، «جزار» دمشق ومن المستحيل إعادة تأهيله سورياً أو إقليمياً أو دولياً.
بغض النظر إن كانت «النهاية» استبعاد الأسد من الحكم أو الاكتفاء برئاسته لجزء من سورية المقسّمة، موسكو تريد اليوم «إشراك» نظام الأسد في المستقبل السوري. ولذلك تتدخل عسكرياً، بشراكة مع النظام، لتقوية الأسد كي يكون جزءاً من الحكم في سورية الغد بأية صيغة كانت. إنها تنفّذ إستراتيجية إنقاذه وإعادة تمكينه كي يكون ورقة قوية في مفاوضاتها المستقبلية مع واشنطن وعواصم أوروبية وعربية. واقع الأمر أن لا أحد، سوى الكرملين، يعرف إن كانت الإستراتيجية الروسية تقوية بشار الأسد لإنقاذ النظام من دونه وبالتالي الاستغناء عنه، أو إن كانت تنوي التمسك به مهما كان.
الواضح اليوم هو أن فلاديمير بوتين أبلغ كل من يعنيه الأمر أن روسيا تعتبر الأجواء السورية متاحة لها فقط على أسس شرعيّة لأن الغارات الروسية تتمّ بطلب رسمي من الحكومة السورية الشرعية. شرعيّة لأن الاتفاق الأميركي الروسي الرسمي المعني بالأسلحة الكيماوية السورية شرّع رسمياً الحكومة السورية رغم نعتها بأنها «لا شرعية» في تصريحات أوباما أو غيره. موسكو تطالب قوى «التحالف الدولي» ضد «داعش» الذي تقوده الولايات المتحدة أن تقرّ بأن روسيا هي القيادة الشرعية فوق الأجواء السورية وأن روسيا هي التي تملي قواعد الاشتباك. وهذا تحوّل أساسي في العلاقات العسكرية الجيو – سياسية في الشرق الأوسط، بدءاً بسورية. وموسكو لن تكتفي بسورية. لذلك، إنها تنوي توسيع قيادتها وسلطتها لتشمل العراق تحت غطاء الحرب على «داعش» وهي في انتظار الدعوة الرسمية المرتقبة من بغداد لتطلب من موسكو توسيع رقعة غاراتها لتشمل الأراضي العراقية. روسيا تقول لأميركا: القيادة لنا، وعليك التنسيق معنا لأننا نحن الشرعية الممتدة من سورية إلى العراق. وواشنطن ستلبي مهما كابرت لأنها لا تريد الانخراط ولأن دول المنطقة ستطلب المعونة الروسية في ظل الامتناع الأميركي. هكذا ستنجح موسكو في صنع المحور الذي تحدثت عنه والذي يضمّ العراق وسوريا وإيران وروسيا. رسالتها هي: أنا الأقدر وأنا الأقوى. وأميركا لا تمانع، عملياً، لأنها لا تريد أن تكون الأقوى والأقدر في الشرق الأوسط. والسؤال هو: هل كل هذا بسبب قرار إدارة أوباما العازمة على اللاانخراط؟ أم أنه وفق إستراتيجية أميركية بعيدة المدى ترى أن المصلحة الأميركية تقضي بإيكال القيادة إلى روسيا في بقعة جاهزة لتكون مستنقعاً يمتص منها كل ما يتخيل لها أنه عظمة أو انتصار؟ هناك رأيان في شأن الدور الروسي في سورية. رأي يصرّ على أن سورية ستكون أفغانستان روسيا وفيتنام أميركا. ورأي آخر يقول إن في زمن أفغانستان كان هناك من يعبئ الجهاديين ويدعمهم عملياً لإلحاق الهزيمة بالشيوعية، بينهم الولايات المتحدة. أما اليوم، فليس هناك من يقوم بالتعبئة، ولذلك موسكو لا تخاف.في المقابل، إن انعدام التنظيم والإشراف على تنظيمات مثل «داعش» وأمثاله قد يثبت أن أفغانستان آتية على روسيا أكثر مما كانت على الاتحاد السوفياتي. فلنرَ.

منصة بوتين السورية
وليد شقير/الحياة/09 تشرين الأول/15
تجاوز التدخل العسكري الروسي بقوة نيرانه الهائلة أهدافه المعلنة بأشواط. وأخذ يؤشر إلى حرب طويلة الأمد يخوضها القيصر، لا تتعلق بسورية وحدها، وبما يعلنه عن محاربة «داعش»، بالتعاون مع جيش نظام بشار الأسد، وبتغطية قيام الأخير بهجمات برية لاستعادة مناطق خسرها نتيجة تقدم تشكيلات المعارضة السورية المتعددة فيها. ولا تكفي التناقضات التي رافقت الحملة الدعائية الروسية للعمليات العسكرية التي تقوم بها المقاتلات الروسية من الجو والتي تشمل إطلاق الصواريخ الباليستية من بحر قزوين مستهدفة الأراضي السورية للدلالة إلى أن هذا التدخل العسكري يتعدى تلك الأهداف المعلنة. وإذا كان الكرملين احتاج إلى ابتكار أساليب إعلامية جديدة لتبرير حملته العسكرية للتغطية على انكشاف التناقض بين الأقوال والأفعال، فإن الإعلام الروسي نفسه وقع في الفخ حين أخذ ينشر خرائط لمواقع القصف، تظهر بوضوح أن القذائف الآتية من طائرات «سوخوي» 24 و25 والتي حملتها الصواريخ استهدفت مناطق تخضع لسيطرة «الجيش السوري الحر»، ولتشكيلات مسلحة أخرى من التي تصنف على أنها «معارضة معتدلة»، وليس لمواقع «داعش» و «جبهة النصرة»، كما ادعى الجانب الروسي. وأعطى ما نشره الإعلام الروسي الموالي للكرملين صدقية لما قاله الأميركيون ورئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو من أن القصف الروسي لم يستهدف سوى موقعين لـ «داعش»، من أصل 57 غارة حتى الثلثاء الماضي. واحد من المؤشرات إلى الاستهداف الأوسع من سورية وإنقاذ النظام من الانهيار التدريجي بعد فشل التدخل الإيراني في إعانته على التفوق في المحرقة السورية، هو رد فعل حلف شمال الأطلسي واجتماع قادته أمس في بروكسيل. ومن الطبيعي أن تظهر التناقضات في ما يعلنه المسؤولون الروس عن أهدافهم في سورية، حين تتحرش المقاتلات الروسية بالمقاتلات التركية وفي الأجواء التركية، فقادة الحلف فهموا الرسالة، التي أراد بوتين إرسالها بعد فشل اجتماعه مع نظيره الأميركي باراك أوباما في نيويورك في 28 أيلول (سبتمبر) الماضي، حول أوكرانيا، التي استغرق البحث في أزمتها الجزء الأكبر من الاجتماع قبل التطرق إلى الأزمة السورية، والتي لم تشهد أي تقدم في تقريب المواقف منها. فكان طبيعياً ألا يحصل التقدم المنتظر في شأن الموقف من الحرب في بلاد الشام، بعدها.
الهدف الأبعد في رد الفعل الروسي بعد يومين من فشل القمة الثنائية، عبر التحرش بالأجواء التركية، «الأطلسية»، هو إنذار الغرب بقدرة الدب الروسي على الرد على سياسة تعزيز وجود حلف شمال الأطلسي في دول شرق أوروبا وعلى التغلغل الغربي الدؤوب في هذه الدول، التي تشكل المدى الحيوي للإمبراطورية الروسية الغابرة والتي كانت ضمن فلك الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. فهذا التغلغل الأوروبي الغربي المدعوم أميركياً هو الذي دفع بوتين إلى التدخل في جورجيا عام 2008 وإلى اقتطاع القرم من أوكرانيا قبل سنة ونصف السنة، ما أطلق سياسة العزل الأميركية – الأوروبية لروسيا عبر العقوبات التي أنهكت اقتصادها، والمعطوفة على خفض أسعار النفط التي أفقدت موسكو مئات بلايين الدولارات وتسببت بانكماش اقتصادها وتراجع عملتها أكثر من 40 في المئة وتصاعد التضخم في سوقها، إلى مستويات غير مسبوقة منذ انهيار الروبل في التسعينات من القرن الماضي.
ولم تكن موسكو بحاجة إلى الصواريخ الباليستية لقصف ما قالت إنه مواقع «داعش» و «النصرة»، لولا أنها أرادت من ورائها افهام الغرب أنها قادرة من مناطق نفوذها المترامية ومنها بحر قزوين، على تخطي مشروع الدرع الصاروخية الأميركية، التي تعمل واشنطن على إقامتها منذ سنوات في بعض دول شرق أوروبا.
لا تقتصر أهداف المرحلة الجديدة التي افتتحها بوتين على سورية حكماً، مع أنها تشكل منصة مهمة له للتصويب على الأهداف الأبعد مدى، مع ما يحمله التورط الجديد من مخاطر، فدول الغرب تسلّم لموسكو بنفوذها في سورية، بل بعضها يعوّل على هذا النفوذ وصولاً إلى حل سياسي. وهذا البعض كان على قاب قوسين من القبول معها باشتراك بشار الأسد في بداية الحل السياسي على أن يجري الاتفاق على مخرج له في مرحلة متقدمة من العملية السياسية. بل إن هذا الغرب يسلّم بالتعاون مع موسكو على حقها في استباق عودة المقاتلين الشيشان المتطرفين إلى روسيا. ولم يكن بوتين في حاجة إلى استنفار الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لتأييد حربه «المقدسة»، مغامراً بإعطاء أبعاد دينية لحربه، لو لم يكن يعتقد أنه يخوض معركة قومية تتعلق بموقع ونفوذ بلاده في أوروبا.