غسان شربل: المفتاح الروسي/جورج سمعان: تفاهم بوتين – أوباما يكفي لفرض التسوية في سورية/لؤي حسين: السلاح الروسي لدمشق هو للعرض فقط

341

المفتاح الروسي
غسان شربل/الحياة/28 أيلول/15
قبل توجُّهه إلى الأمم المتحدة لمخاطبة العالم اليوم ولقاء باراك أوباما، رمى فلاديمير بوتين حجراً كبيراً في بحيرة الدم السورية. حجر يوازي في أهميته الحجر الذي شكّله صدور بيان «جنيف 1»، ولا يقل أهمية عن حجر «الاتفاق الكيماوي». التدخُّل العسكري المباشر للجيش الروسي على الأرض السورية يرسم عملياً حدوداً لمسار الحرب ومسار الحل. إنه الخط الأحمر الروسي. المشهد غير عادي. كيلومترات فقط تفصل الضابط الروسي المتدخّل لإنقاذ النظام عن المقاتل الشيشاني الوافد لإسقاطه. يطوي بوتين اليوم صفحة «العزلة الأوكرانية» ويفرض نفسه كلاعب كبير، لا يمكن تجاوزه في سورية والمنطقة.
لا بد من الانتظار لاستكشاف حقيقة نوايا موسكو. الأكيد هو أن الخطوة الروسية بدّلت المشهد والمعطيات، ما يسمح بتسجيل مجموعة من الملاحظات.
– حَسَمَ التدخُّل العسكري الروسي هوية المفتاح الذي لا بد من اللجوء إليه في أي محاولة جدّية لإنهاء الحرب في سورية. إنه المفتاح الروسي الذي انتزع الصدارة من المفتاح الإيراني. بات العنوان واضحاً. إنه مكتب القيصر لا مكتب المرشد، من دون أن يعني ذلك أن الدور الإيراني غاب أو تعطّل. ولتقدُّم المفتاح الروسي على المفتاح الإيراني آثار لن تتأخّر في الظهور غربياً وعربياً وإقليمياً. الصفقات الكبرى تُبرم مع اللاعبين الكبار.
– فَرَضَ التدخّل العسكري الروسي المباشر ما يمكن اعتباره «منطقة آمنة» للنظام السوري الذي يقيم حالياً على مساحة لا تزيد على ربع مساحة البلاد. وهذا يعني عملياً أن روسيا لن تسمح للمعارضات السورية بإسقاط النظام بالضربة القاضية. وجود الجيش الروسي يرسم حدوداً صارمة لطموح المعارضات السورية التي سجَّلَت في الأسابيع الماضية تقدُّماً في اتجاه المعقل الحسّاس للنظام.
– في موازاة حصوله على «المظلة الآمنة» سيضطر النظام السوري إلى دفع ثمن الرعاية الروسية. يمكن أن تشارك روسيا في قتال «داعش»، ولكن يصعب الاعتقاد بأنها جاءت لطحن المعارضة السورية وإعادة النظام إلى ما كان عليه قبل الأحداث. سلوك من هذا النوع يُنذِر بولادة أفغانستان عربية ويجعل روسيا «الشيطان الأكبر» في العالم الإسلامي، وهو سنّي في غالبيته.
– يوفّر التدخّل الروسي مظلة قوية للجيش السوري الذي بدت عليه في الشهور الماضية امارات التعب والإنهاك. يمكن هذا التدخُّل أن يعيد ترميم موقع هذا الجيش في النزاع. يمكنه أن يحسّن موقعه حيال الفصائل المسلحة التي تقاتله، ويخفّض في الوقت ذاته حاجته إلى الميليشيات التي تقاتل إلى جانبه. أسلحة الجيش روسية أصلاً، وتدريباته روسية.
– يوفّر التدخُّل الروسي للنظام استمرار الحماية الديبلوماسية والسياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي. يعرف النظام أن الفيتو الروسي المتكرر في مجلس الأمن هو الذي حال دون تعرّضه لهجوم قاتل، بغطاء من الشرعية الدولية.
– يوفر التدخل الدولي «بوليصة تأمين» للأقليات التي تعتقد بأن سقوط النظام قد يؤدي إلى اقتلاعها وفي مقدّمها الأقلية العلوية. والتتمة المنطقية أن تدفع الأقليات ثمن هذه البوليصة بموقف أقل تشدُّداً إزاء موقع الرئيس في الحل وصلاحيات الرئيس في سورية الجديدة.
– حرصت روسيا على توفير مظلة قبول إقليمي لتدخُّلها العسكري. طمأنت إسرائيل إلى أن تدخلها لن يخل بميزان القوى، ولن يوفر غطاء لأي عملية ضدها.
– واضح أن روسيا تراهن على قيامها بدور إيجابي في إنهاء الحرب في اليمن، على أمل الحصول في المقابل على مرونة خليجية حيال تصورات الحل في سورية. حَرصَ بوتين قبل إلقاء كلمته على الاتصال بالملك سلمان بن عبدالعزيز.
– يشكّل التدخل الروسي اختراقاً كبيراً لما كان يسمّى «الهلال الإيراني» أو «الهلال الشيعي»، والذي تعرّض قبل ذلك لاختراق دموي كبير على يد «داعش» وصل حد إعلان «الخلافة» على أجزاء من العراق وسورية. من المبكّر الجزم بأننا نشهد بدايات تراجع للدور الإيراني ومعه المجال الحيوي لـ «حزب الله» بسبب حرص موسكو على أمن إسرائيل. ومن التسرُّع الاعتقاد بأن روسيا انضمت عملياً إلى «حلف الممانعة» الذي يشمل بغداد واستناداً إلى قاموسه ومفرداته.
رمى بوتين حجراً كبيراً في بحيرة الدم السورية. استخدام المفتاح الروسي للحل في سورية له أثمان تتخطى قبول نتائج البلطجة الروسية في أوكرانيا. بتدخُّلها في سورية حجزت روسيا موقعاً بارزاً في أي مفاوضات مقبلة حول النظام الإقليمي الجديد الذي لا بد أن يولد من رحم الاشتباك الكبير الدائر الآن على مسارح المنطقة. لكن السؤال هل يمكن رئيساً أميركياً أن يبرم صفقة بهذا الحجم وهو يستعد للدخول في شيخوخة السنة الأخيرة من ولايته؟
غياب أميركا عن مقعد القيادة في الأزمة السورية وفّر لبوتين فرصة ذهبية. سرق من الرئيس الأميركي المتردِّد شعار مكافحة الإرهاب. وسرق من المرشد الإيراني مفتاح الحرب والحل في سورية. أغلب الظن أن العرب المعارضين لنظام الرئيس بشار الأسد يفضّلون رؤية طرطوس روسية على رؤية طرطوس إيرانية. يمكن قول الشيء نفسه عن تركيا وإسرائيل. للنجاح الروسي ثمن داخل «الهلال» وخارجه، وللفشل الروسي أثمان محلية وإقليمية ودولية.

 

تفاهم بوتين – أوباما يكفي لفرض التسوية في سورية؟
جورج سمعان/الحياة/28 أيلول/15
قطعت روسيا نصف الطريق في التفاهم مع الولايات المتحدة. التنسيق العسكري في سورية بات واقعاً لا عودة عنه. لا يريد أحد من الطرفين مواجهة غير محسوبة. وتقرر القمة اليوم بين الرئيس باراك أوباما وفلاديمير بوتين آفاق التفاهم السياسي وحدوده. وأياً كانت النتائج بات في جعبة الرئيس الروسي الكثير. ولن يكون بمقدور نظيره الأميركي أن يواصل تجاهله سواء في رسم النظام الإقليمي للشرق الأوسط، أو في تحديد معالم النظام الدولي. لن يقتصر الأمر على بكين وواشنطن لتقررا مصير أزمات عدة. ولن تكون الصين وحدها الخصم المنافس لأميركا. روسيا شريك أساس، إن لم يكن بطاقتها الاقتصادية فبقوتها العسكرية وشبكة علاقاتها الواسعة. وفرض تدخلها العسكري في سورية واقعاً جديداً على جميع المعنيين بأزمة هذا البلد. من إسرائيل وتركيا وإيران إلى مجموع الدول التي تشكل التحالف الدولي لمحاربة «الدولة الإسلامية». قواعد اللعبة تبدلت سياسياً وعسكرياً. لذا، لم يكن أمام كل هؤلاء الأطراف سوى المسارعة إلى التنسيق معها. والوقوف على خاطرها. وعجلت هي في الانتشار على طول الخريطة الأميركية والغربية عموماً في المنطقة. من السودان إلى اليمن والعراق مروراً بمصر ولبنان وحتى بعض دول الخليج، انتهاء بمنافسة الانتشار الأطلسي في البحر المتوسط، عبر تعزيز حضورها قواتها على السواحل السورية، جواً وبحراً وبراً، وبناء قواعد ثابتة في بلاد الشام.
التدخل العسكري الروسي، وأزمة اللاجئين إلى أوروبا أبعدا أزمة أوكرانيا عن المشهد الكبير. سورية ستكون الحدث الأبرز في الجمعية العامة للأمم المتحدة. لن يكتفي الرئيس بوتين بالاستدارة السياسية المتدرجة للمعنيين بأزمة سورية، وملاقاتهم إياه في منتصف الطريق. لن يكتفي بقبولهم المبدئي ببقاء الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية. سيطرح على الرئيس أوباما، وفي كلمته أمام الجمعية العامة عناوين استراتيجيته. يريد طي صفحة النموذج الليبي، والعراقي وقبلهما الأفغاني، أي إعادة الاعتبار لمبدأ عدم التدخل الخارجي لإسقاط أي نظام وتبديله. علماً أنه لم يقصر هو في التدخل من دون مظلة دولية في جورجيا وأوكرانيا! أي أنه سيطرح دور مجلس الأمن والمنظمة الدولية، أي دور الكبار وتفاهمهم على إدارة الأزمات العالمية وتســويتها، وليس فقط في ســـورية. ويـــريد أيضاً أن يشرح تفاصيل خطته لمحاربة «داعش». وإذا لاقى ميله إلى قوننة دولية للتدخل في سورية والعراق يمكن عند ذلك قيام تحالف واحد في الحرب على الإرهاب … وإلا فإنـــه سيطلق تحــالفاً مع طهران وبغـــداد ودمشق، موازياً للتــحالف الذي تقوده الولايات المتحدة. والنتيجة في أي حال ستكون واحدة ما دام التنسيق العسكري قائماً بين البلدين. وأكد وزير الدفاع الأميركي أن مجالات التعاون متاحة شرط ألا تشمل العمليات الروسية كل خصوم النظام السوري. والواقع أن روسيا من منطلق جيوسياسي ترى إلى نفسها معنية أكثر من أميركا في مواجهة الإرهاب في مناطق لا تبعد كثيراً من حدودها. وفي مطاردة أكثر من ثلاثة آلاف جهادي من مواطني الاتحاد الروسي، إضافة إلى مجموعات من جمهوريات آسيا الوسطى. ولا تمانع «نظرياً» في ضم جهودها إلى التحالف الذي تقوده أميركا، على حد ما صرح مسؤول في خارجيتها شرط موافقة مجلس الأمن، لكنها «لن تنضم إلى عملية غير شرعية».
الواقع الجديد الذي فرضته موسكو في سورية جعلها قوة رئيسة في أي بحث لتسوية سياسية في هذا البلد، بل جعلها ربما قوة لا غنى عنها في تقرير خريطة النظام الإقليمي. حدت من حرية الحركة الإسرائيلية في سورية. وطوت نهائياً صفحة المشاريع التركية على حدودها الجنوبية. وضمنت إلى حد سكوت العرب الذين يريحهم إمساك روسيا بمصير بلاد الشام ومستقبلها بدل أن تظل حكراً على إيران. أبعد من ذلك إن تدخلها العسكري لدعم الجيش السوري عدة وعتاداً وتدريباً يعيد الاعتبار إلى هذه المؤسسة التي شارفت على الانهيار، وكادت الميليشيات وقوات «الدفاع الوطني» أن تهمشها وتطغى على دورها. وهو ما يترك رضًى واسعاً في صفوف هذه المؤسسة التي يعول عليها كثيرون في أي تسوية سياسية، وفي الحفاظ على ما بقي من مؤسسات الدولة. مثلما يترك في أوساط مكونات كثيرة يساورها قلق عميق من ثقل اليد الإيرانية، ارتياحاً وإن حذراً على قاعدة «أهون الشرين»!
يبقى السؤال الكبير عن التسوية السياسية التي تحوكها روسيا لحل أزمة سورية. الأميركيون رددوا في الفترة الأخيرة مقولة الدور الإيجابي الكبير الذي لعبته موسكو في الملف النووي الإيراني وإبرام الاتفاق بين طهران وعواصم الدول الست. ولم ينسوا ملاقاتها لهم في إرغام دمشق على تدمير أسلحتها الكيماوية وانضوائها في المنظمة الدولية لحظر هذه الأسلحة. كأنهم يتوقعون منها تدخلاً سياسياً فاعلاً لتسوية أزمة سورية، بالتوازي مع الحرب على «داعش». والواقع أن دوائر روسية كانت تتحدث من ثلاثة أشهر عن تطورات جذرية في مسار الأزمة نهاية هذه السنة. ولا حاجة هنا إلى التذكير بنشاط ديبلوماسيتها في الأشهر الأخيرة في اتجاه كل اللاعبين المعنيين، ودفعها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا إلى تفعيل مهمته. وتساور أطراف في المعارضة السورية شكوك عميقة في أن واشنطن ليست بعيدة مما تنسجه موسكو. ولم يفاجئها تدخلها العسكري. وربما كانت على تفاهم واتفاق ضمنيين على وجوب فرض الحل على كل الأطراف المعنية. يبقى الخلاف على حدود هذا التدخل الميداني وعلى المرحلة التي يقتضيها بقاء الرئيس الأسد في السلطة، وعلى طبيعة المرحلة الانتقالية ومدى تأثيره فيها، وهل تؤدي إلى تفكيك النظام القائم نحو تغيير فعلي أم تقتصر على الرأس وإعادة تأهيل الهياكل الأخرى.
الخطة التي يحملها الرئيس بوتين في جعبته، ومدى تجاوب القادة الغربيين معها سيجيبان عن كثير من الأسئلة. مثلما أن الانخراط الميداني لقواته سيرسم حدود اللعبة وقواعدها الجديدة. فهل تستطيع هذه القوات تحقيق ما عجز عنه التحالف الدولي في الحرب على «داعش»، على رغم مشاركة الجيش العراقي والكرد وميليشيات كثيرة؟ أم إن في أولى مهمات هذا التدخل استعادة إدلب التي خسرها النظام أمام «الجيش الحر» وفصائل إسلامية متعددة بينها «جبهة النصرة»؟ هذه المحافظة تشكل تهديداً مباشراً للعمق الرئيس للساحل السوري، عمق النظام وخزان مقاتليه. كما أن الأميركيين كانوا أول من خاطب الأتراك مبدين انزعاجهم من هذا التطور. ومحذرين من مواصلة الحملة خوفاً من مفاجآت لا يرغبون في الوصول إليها. مثلما كانوا ولا يزالون يضغطون لوقف الحملات التي تقودها «جبهة الجنوب» على درعا والمناطق القريبة من جنوب دمشق. إذا استعاد النظام إدلب ومناطق أخرى، يمكن عندئذ موسكو أن تدفع باتجاه تنفيذ خطتها السياسية. ولا يبقى على الأطراف الإقليميين سوى إرغام من تطاولهم أيديهم من فصائل على القبول، خصوصاً تركيا التي يقيم معظم «الائتلاف الوطني» في ظهرانيها.
حتى الآن، يبدو أن روسيا التي طوت صفحة أوكرانيا، بعد جورجيا، ترغب في وقف النزف العسكري والاقتصادي في هذا البلد. وبعض من أهداف تدخلها في سورية ممارسة ضغط على أوروبا وأميركا لرفع العقوبات والحصار الاقتصادي. من هذا المنطلق، لا يمكن أن تجازف بفتح ساحة استنزاف أخرى في بلاد الشام. أبعد من ذلك، إن ما حققته حتى الآن في تمددها فوق خريطة كانت من «ممتلكات» الغرب لا يمكن أن يهضمه خصومها ما لم تقدم هي الأخرى ثمناً لمجاراتها في أي تسوية لأزمة سورية. تقدمت في اليمن نحو أهل الخليج في القرار 2216، ولا بد لها من أن تقدم في بلاد الشام. لا يمكنها أن تجازف بما بنت مع القاهرة وعمان، وبما تنسج مع أهل الخليج وتركيا. ولا يمكنها باختصار أن تضع نفسها بمواجهة أهل السنّة في سورية، بل بمواجهة الأكثرية في العالم العربي الواسع. كما أنها لا ترغب بالتأكيد في انخراط لا حدود له في حرب قد تستعر مع بدء عملياتها. فهل تلاقي هؤلاء جميعاً وإدارة الرئيس أوباما وشركاءه الأوروبيين في ضمان رحيل الأسد بعد المرحلة الانتقالية التي قد تمتد سنتين مثلاً؟ أي أن تضمن عدم ترشحه في انتخابات رئاسية مبكرة. لقد عاد إليها ما بقي من المؤسسة العسكرية التي لا تخفي انزعاجها من «تغول» الميليشيات على دورها ومستقبلها وترتاب من دور إيران. يمكنها الاعتماد على هذه المؤسسة في فرض الحلول وفي ترسيخ حضورها ومصالحها في هذا البلد. أياً كانت عناصر الخطة الروسية لا بد لها من أن تأخذ في الاعتبار موازين القوى على الأرض. فإلى الفصائل المقاتلة في أكثرية المناطق السورية، لا يمكن تجاهل الحضور الميداني لإيران وميليشياتها. وهذه لا تميل إلى هذه الخطة، ولا إلى الأهداف القريبة والبعيدة لموسكو. والسؤال هل يستطيع العسكر الروسي اختراق المجموعات المسلحة بوعود وضمانات وأدوار إذا واكبته أطياف معارضة مرغمة على تنازلات في مسار التسوية وعناوينها؟ الثابت أن لا إيران ستقبل بتآكل دورها وحضورها ولا السوريون سيرضون بأقل من التغيير الشامل لأسس النظام بعد كل هذه التضحيات. هل يكفي الاتفاق أو التفاهم بين موسكو وواشنطن؟

 

السلاح الروسي لدمشق هو للعرض فقط
لؤي حسين/الحياة/28 أيلول/15
من غير الواضح معرفة كيف كانت ستسير الأمور في سورية لو أن روسيا اتخذت موقفاً مختلفاً من النظام منذ البداية، وكيف كانت ستكون موازين الأمور بينها وبين الولايات المتحدة لو أنها سبقتها في الضغط على النظام ودفعته باتجاه تجاوب إيجابي مع مطالب المحتجين. فهل كان الأميركيون سيأخذون الموقف الروسي الحالي الداعم للنظام؟ لا أعتقد أنه توجد إجابات وافية تفيد بتفسير سبب اختيار موسكو دعم الأسد والقبول منذ البداية، وقبل أن يتفاقم الوضع ويتحول إلى أزمة دولية وإقليمية، بأن يحرق المتظاهرون علمها في الشوارع السورية. ولا أستطيع الحسم إن كانت موسكو أخطأت بموقفها هذا أم أنه لم تكن أمامها خيارات أخرى، أم أن الأمر ناجم عن طبيعة قيادتها غير الداعمة للخيارات الديموقراطية والحرّويّة، لكن ما أعتقده في شكل جازم الآن أنها شبه مجبرة على التقدم بقوة لدعم الأسد وإن لأسباب مختلفة.
تشغل الإمدادات العسكرية الروسية الأخيرة للنظام السوري بال الكثيرين، فينظر إليها أغلب المحللين والكتاب الصحافيين، إن كانوا موالين للنظام أو غير موالين أو معارضين، على أنها تتعدى حالة الدعم إلى التواجد الصريح للجيش الروسي على الأراضي السورية. ويتوافق هؤلاء جميعاً على أن هذا التحرك دليل انتصار ساحق لروسيا على الولايات المتحدة، وإن كانوا يختلفون قليلاً أو كثيراً في تفسيره. فالمؤيدون يرون عنوانه «تحالف ٤+١ لمواجهة الإرهاب» (روسيا وسورية وإيران والعراق + «حزب الله»)، وأنه الحدث «الأبرز في الإقليم والعالم منذ سنوات عدة»، وأنه يأتي الآن بعد أن ضاق صدر موسكو من تسويفات واشنطن لحل الأزمة السورية، وبعدما أدركت أنها «ليست في وارد التقدم خطوات جدية نحو الحل، وأنها تواصل المحاولات لقلب الوقائع الميدانية بحثاً عن مكاسب سياسية كبرى». ويتصور هؤلاء، ويصورون لنا، الواقع على أن روسيا جاءت لتمرغ أنف الولايات المتحدة مع «حلفها الدولي والإقليمي السعودي – التركي – القطري – الأردني» وأنف المجموعات الإرهابية. المحللون والكتاب الصحافيون المعارضون وغير الموالين يرون سبب هذا الانتصار هو إحجام واشنطن عن التدخل في الموضوع السوري، بل تخاذلها فيه، وانكفاؤها عن إدارة منطقة الشرق الأوسط، ما أتاح لموسكو أن تنتهز الفرصة بحِرفية متناهية مستغلة الاتفاق النووي، فارضة نفسها بقوة كسيد مطلق للشؤون السورية والملفات الإقليمية الملحَقة بها. هذا، على رغم أن بعضهم يعتبر أن ذلك يتم عبر توافق أميركي روسي لم ينقطع طيلة عمر الأزمة السورية.
سأتجرأ هذه المرة أيضاً وأخالف شبه الإجماع حول هذا الرأي المتعلق بالشأن السوري. فمن وجهة نظري لم تلحظ موسكو، ولا الكثيرون غيرها، أن النظام السوري تغير كثيراً منذ الانتخابات الرئاسية الزائفة التي أجراها بداية صيف العام الماضي، وأن بشار الأسد، الذي كان متألماً من تهمة وراثة السلطة عن أبيه وأن شرعيته تأتي من كونه ابن أبيه فقط، تمكن أخيراً من تحقيق شرعية انتخابية. وحتى لو كانت زائفة فقد اعترفت بها روسيا، فأشعرته أنه اكتمل كرئيس أو أنه صار رئيساً بالغاً، وأنه حقق ما لم يحققه أبوه.
توجهت روسيا نهاية الخريف الماضي لتحريك الملف السوري بغاية تحقيق تقدم ما يمكنها أن تعرضه للمقايضة مع الولايات المتحدة كي تتمكن من تخفيف العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية التي فرضتها عليها الدول الغربية نتيجة مسألة أوكرانيا، فكان أن أعلنت عن عقد مؤتمر تحت رعايتها لأطراف الأزمة السورية قبل أن تستشير النظام السوري الذي كان غير مطواع لها كما كان إبان مسألة الأسلحة الكيماوية، حيث فرضت عليه تسليم سلاحه هذا وضمِنت ذلك لواشنطن التي لم تشكك بكمية السلاح المعلنة أو بمواقعه، فانخفض مستوى المؤتمر ليصبح مجرد منتدى.
النظام السوري ورقة مهمة جداً بالنسبة الى موسكو، لهذا لن تتخلى عنها بسهولة نتيجة تحول النظام إلى «ولد عاق». فقد عاودت المحاولة لعقد منتدى ثانٍ بغاية مختلفة قليلاً عن الأول، وهي إنتاج ما تتجاوز به وثيقة جنيف لتعود طرفاً رئيسياً في عملية الحل السياسي بعد أن فقدت بعضاً من وزنها فيها جراء هزائم قوات النظام الكبيرة في مواقع رئيسة. لكن تجاوب النظام كان أشد وقاحة وجلافة هذه المرة، فلم يقبل الحضور إلا بعد أن استجابت موسكو لشروطه، بخلاف الحال في مؤتمر «جنيف -٢» حين فرضت عليه الحضور وتدخلت بتشكيلة الوفد، بل حمّلته فكرة أن تكون المحادثات بهدف مواجهة الإرهاب أولاً. لكن هذا المنتدى فشل أيضاً. حاجة موسكو الكبيرة لفك العزلة عنها والتخفيف من العقوبات الاقتصادية تفرض عليها تقليب أوراقها واستخراج أفكار جديدة منها لتتمكن من نيل حاجتها، فوجدت في داعش وتمددها بعيداً خارج سورية والعراق، وإخفاق التحالف الأميركي بالحد من هذا التمدد، مدخلاً مهماً لتثقيل وزنها الدولي. فتقدمت بالمعادلة الصحيحة: لا يمكن الاكتفاء بمواجهة داعش برياً في العراق فقط، ولا بد من مثل هذه المواجهة على الأراضي السورية، ومن يريد مواجهة داعش عليه التحالف مع النظام السوري الذي يمتلك أكبر قوات برية لديها أسلحة نوعية وحديثة بدأت تستلمها من روسيا، التي أصبح رئيسها يكرر دعمه العلني للرئيس الأسد بعد أن كانت سلطته توارب بعبارة أنها ليست متمسكة بالأسد. فالأسد الآن وفق بوتين ووزير خارجيته، صاحب السلطة الشرعية، ومتماهٍ مع المؤسسة العسكرية والأمنية التي يحرص الغرب وحلفاؤه على عدم انهيارها، وبالتالي لا عيب من التحالف معه، بل من الضروري إقامة هذا التحالف.
إذاً وفق هذا الرأي فإن الدعم العسكري الروسي الأخير للنظام السوري هدفه حصراً استعادة الهيمنة الروسية على النظام وعلى إرادته وقراراته، من خلال إظهاره ممتلكاً لهذا السلاح الجديد كقوة رئيسة في مواجهة داعش، فتتحكم به من خلال تهديده بإيقاف مدّه بالسلاح، أو إيقاف العمل به لأنه سيبقى تحت تصرف الخبراء الروس. من المستبعد في شكل شبه مطلق أن تُقدِم روسيا على زج قوات برية لها في الأراضي السورية، لأن ذلك سيثير غضب العديد من الدول، ولا أعتقد أن لروسيا مصلحة الآن بلعب دور الدولة المارقة في مواجهة المجتمع الدولي. بل أعتقد أنها ستبرر للدول القلقة من تحركاتها هذه قائلة إن ما تقدمه مجرد أسلحة لدعم القوات البرية السورية كي تتمكن من الاحتفاظ بمواقعها خشية أن يستولي عليها «داعش»، وذلك ليس لمصلحة أحد، وأنها تتكفل بحصر استخدام هذا السلاح بمواجهة «داعش» فقط، من دون استخدامه بتاتاً في مواجهة أي مجموعة أخرى. لكن لا أظن أن مثل هذا التعهد يمكن أن يكون كافياً لواشنطن، فمقاتلة «داعش» ليست مباحة لأي طرف، والمجال ليس مفتوحاً للسباق في مقاتلته، لهذا سيتركز التفاوض الروسي – الأميركي على تحديد المناطق المتاحة لاستخدام الأسلحة الروسية الجديدة التي بدأت بالوصول الى النظام السوري.
في المحصلة لن يكون هذا السلاح إلا للعرض فقط وليس لتمكين النظام السوري من مواجهة الأطراف الأخرى ما عدا «داعش». ومع ذلك فهو سيكون سبيلاً لتمكّن موسكو من امتطاء النظام السوري مجدداً وترويضه جيداً هذه المرة ليكون صالحاً للعرض في ساحة الصراع الروسي – الأميركي. وهذا سيجعل موسكو قادرة، خلال فترة ليست طويلة، على المضي قُدماً لعقد تسوية في الملف السوري تجني ثمارها في الموضوع الأوكراني. بمعنى أنه سيكون بمقدور موسكو حينها تقديم مصير الأسد لمن يريده. وكيفما كان الأمر فهو ليس تفويضاً أميركياً لروسيا في الموضوع السوري، وليس إخلاء للساحة لموسكو، بل «أفترض» أن واشنطن تخطط جدياً لضبط مسارات الصراع في سورية وجعلها تحت السيطرة.
* رئيس تيار بناء الدولة السوريّة