عبدالوهاب بدرخان:التدخل الروسي لتعويض الفشل الإيراني في سورية/زهير قصيباتي: المهرولون إلى الصفقة السورية/هدى الحسيني: إيران تعمل جاهدة لحمل أميركا على تلميع صورتها خليجيًا

375

التدخل الروسي لتعويض الفشل الإيراني في سورية
عبدالوهاب بدرخان/الحياة/24 أيلول/15
منذ بداية الأزمة في سورية انشغل النظام بهاجسيَن: ضرورة إخماد الانتفاضة بحسم أمني يبقي سطوته وهيبته في الداخل، وسرعة الانتهاء من الأزمة لاستعادة دوره الإقليمي. لم يحقق أياً منهما. لذا اندفع نحو العسكرة التي ارتدّت عليه وكادت تسقطه لولا أن حلفاءه – وخصومه – توافقوا على تمديد بقائه، ثم لجأ إلى الإرهاب الذي ساعده إلى حين ثم ارتدّ عليه أيضاً بمجيء تحالف دولي لضرب تنظيم «داعش» من دون قبوله كـ «حليف»، ولا حتى قبول إيران أو روسيا اللتين توصّل التنسيق بينهما إلى إقناع موسكو بالتدخل الميداني المباشر، وليس بهدف إنعاش النظام فحسب بعدما بدا متهاوياً بل إعادة تأهيله من خلال ضغط روسي لتغيير استراتيجية الحرب على «داعش» كي يُصار فيها إلى التعاون مع النظام وربما مع إيران وميليشياتها. ولعل وجود لعبة دولية وتنافس غربي – روسي على سورية يُشعر النظام بأن الصراع عاد أخيراً إلى الإطار الذي يفضّله، معتبراً أن أي حلّ ينبثق من هذا التنافس لا بدّ أن يضمن بقاءه، خصوصاً أنه أكثر جاهزية للمساومات بفضل حلفائه، ثم أن حلفاءه وخصومه الدوليين ساهموا معه في إدامة المعارضة مشرذمة عسكرياً وسياسياً كما في عدم مساعدتها على بلورة بديل من النظام.
يترافق بناء الوجود الروسي العسكري في سورية بتكهّنات متفاوتة سلباً وإيجاباً، لأن موسكو لا تكشف نياتها ولا أوراقها. لديها دوافع لمحاربة الإرهاب لكنها أساساً لتدخلها الحالي، ثم أن طريقتها في إقحام نفسها على حرب قائمة منذ عام تتسم أيضاً بانتهاز الفرصة لتحدّي الولايات المتحدة، إذ تسلّط الضوء على «اللاجدوى» البيّنة والنتائج الهزيلة للضربات الجوية لـ «التحالف»، غير أن الخطط الروسية المفترضة لن تكون أكثر فاعلية إلا بحملات تقوم بها قوات برّية لاستثمار مفاعيل الضربات الجوية. لا شك أن دخول تركيا أخيراً هذه الحرب وإبرامها اتفاقاً خاصاً مع أميركا والإعلان عن «حرب شاملة» وشيكة على «داعش» لعبت دوراً في تسريع القرار الروسي، باعتبار أن دمشق وطهران أبلغتا موسكو أن شمال سورية سيقع في أيدي الأميركيين والأتراك، أي في أيدي «الناتو»، من دون أن تتمكّنا من مواجهتهم، وبالتالي إذا كانت روسيا تنوي التدخل فإن هذه هي اللحظة الحاسمة. بديهي أن الروس وجدوا أن تفاهمهم مع الأميركيين – على الخطوط العريضة لـ «الحل السياسي» وعلى قيادتهم الخطوات الأولى لهذا «الحل» – لا قيمة له إذا لم يكن لهم وجود عسكري وازن على الأرض لحماية «أوراقهم» واستخدامها في الوقت المناسب.
بمقدار ما يظهر التدخل الروسي مستنداً إلى تنسيق عميق مع إيران، وتغطية شكلية من «شرعية» يدّعيها النظام، بمقدار ما يبدو هذا التدخل إقراراً بعجز طهران ودمشق، أولاً عن حسم الصراع عسكرياً، وثانياً عن استدراج مساومة دولية وتسريعها للحصول على صفقة مبكرة تضمن لهما «دولة الساحل» التي لا تزال هدفهما النهائي. ذاك أن أي ترتيبات تمسّ بالجغرافية السورية أصبحت تتعلّق أيضاً بالوضع الإقليمي عموماً، لذا يفضّل الأميركيون التباحث فيها مع الروس لا مع الإيرانيين وحدهم، على رغم تأكيد مصادر عدة وجود تواصل سرّي، أميركي – إيراني، في شأن الملفات الإقليمية. وفي أي حال يرى مراقبون أن التدخل الروسي ألقى ظلالاً على الدور الإيراني الكبير في سورية، ليس فقط لأنه اضطرّه لاعتراف غير مباشر بمحدودية نفوذه «الامبراطوري» أو لأنه فعّل شراكة أخرى يراهن عليها النظام، بل خصوصاً لأن الدور الروسي ازداد أهمية أخيراً لارتباطه بتفاهمات مع أميركا وكذلك مع دول عربية، وكذلك لأن روسيا تعمل بخطتها ولأهدافها التي قد تلتقي مع بعض وليس كلّ أهداف إيران والنظام.
لم يخرج التحرك الروسي حتى الآن عن إطار ما أعلنته موسكو دائماً من مواقف داعمة للنظام ومعترفة بـ «شرعيته» وحاثّة على التعامل معه، لكن تصاعد التشكيك في أهدافها جعلها مثلاً تكرر صيغة «عدم التمسّك ببشار الأسد» ودفعها أيضاً إلى تأكيد أن دورها ليس «إنقاذ النظام والحفاظ عليه» بل «الحفاظ على الدولة السورية». ولا يُعوَّل كثيراً على هذه الحذلقات اللفظية، فمن الواضح أن لروسيا حالياً أولويات تريد تحقيقها لبناء طوق أمان لقواتها وأسلحتها، فضلاً عن أنها تريد تأكيد امتلاكها الورقة السورية قبل أن تبتّ وجوه التصرّف بها، فما بينها وبين أميركا مجرد تفاهمات على معالجة الأزمة وليس توافقاً على حلّها، ثم أنها ليست مستعجلة لاعتماد الصيغة الذي ذكّر بها وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر خلال اتصاله بنظيره الروسي قائلاً إن التفاهم مع روسيا يقوم على محاربة «داعش» والبدء بعملية الانتقال السياسي «في وقت واحد». وإذ تسعى واشنطن إلى تثبيت هذا التزامن، فقد أطلق وزير الخارجية جون كيري تنازلاً علنياً بأن «رحيل الأسد ليس بالضرورة أن يكون في اليوم الأول أو الشهر الأول…». وكان الروس حاججوا دائماً بأن بقاء الأسد «ضروري» للشروع بالعملية الانتقالية والواقع أن وجوده لفترة غير محدّدة وصفة لتسميم تلك العملية وتعطيلها، والأهم أن وجوده كفيل باعتبار الاستقرار مؤجلاً ومعه كل ما يتعلق بإعادة الإعمار وإنهاض الاقتصاد. لكن أحداً لا يعرف ما هي السيناريوات الروسية، وما إذا كانت ستحترم تفاهمات أو تعهّدات، ولا أحد يستطيع تأكيد أنها مولجة فعلاً بإنهاء الأزمة السورية. فهذه دولة كبرى تفكّر مثل الدول الكبرى، أي أنها تعتبر سورية جزءاً من ملف أوسع، ولا شيء يمنعها من انتهاز دورها لإحراج أميركا بمساومة أكبر تتناول أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات المستتبعة بالإضافة إلى الترتيبات الدفاعية في أوروبا التي عبّرت روسيا مراراً عن انشغال كبير بها كأولوية الأولويات استراتيجياً. من هنا قد يبدو ساذجاً الحديث عن دور لروسيا يقتصر على حل سياسي لأزمة سورية وكأنه مكافأة لها يقنعها بتجاوز البنود الأخرى لأجندتها. فمنذ أعوام يعوّل نظرياً على روسيا لإيجاد بديل للأسد يكون مقبولاً ولو من داخل النظام، وعلى افتراض أن هذا البديل موجود إلا أن الإرادة الروسية لم تكن متوافرة. يقال الآن أن الوضع تغيّر لأن روسيا اقتنعت أخيراً باستحالة استمرار النظام ورئيسه، بل لعلها أرادت بتدخلها المباشر استباق اعتماد «بديل آخر» يأتي به الإيرانيون، ولكن هل تقدم روسيا على هذه الخطوة، ووفقاً لأي جدول زمني، وهل ستمتنع عن المساومة على رأس الأسد طالما أن الفرصة سانحة؟
واقعياً لم تطرأ معطيات جديدة على موقف روسيا لترجّح الوثوق بها، فعدا عن تناقض مصالحها مع مصالح أطراف أخرى معنية بسورية، فإن كل ما قدّمته يبدو صالحاً فقط لتبرير وجودها العسكري على الأرض. وهذا ينتقل بسورية عملياً إلى حال استعمار روسي يتقاسم الوظائف مع الاستعمار الإيراني وقد يتقدّم عليه أو يسعى إلى ابتلاعه. وليس في تجارب التدخل الروسية، سواء في الحقبة السوفياتية أو في ما بعدها ما يفيد بأنها تختلف شكلاً وموضوعاً وممارساتٍ عن تلك التي أقدمت عليها الولايات المتحدة في العراق أو سواه. يكفي التذكير بنموذج الحديد والنار والسفك عديم الرحمة للدماء الذي اتّبعته روسيا في الشيشان حيث حرصت على تركيب حكم خاضع تماماً لإملاءاتها، وبالنسبة إلى سورية لم تكن يوماً مع تغيير النظام، فهو يشبهها ويقوم بالوظيفة التي تتوقعها، وإذا فكّرت بتغيير الشخص أو الأشخاص فلتضمن استمراره في تلك الوظيفة. والأخطر أنها لم تعترف في أي لحظة بالانتفاضة الشعبية ولا بمَن يمثلها، إذ أن الحاصل في نظرها مجرّد تمرّد يجب القضاء عليه لمصلحة النظام.

المهرولون إلى الصفقة «السورية»
زهير قصيباتي/الحياة/24 أيلول/15
الحل الوحيد للسوريين هو أن «يقاتلوا الإرهاب الدولي بلا هوادة». ومع هذا «التبصُّر» الروسي بوقائع سورية وشعبها المعذّب بالقتل والغازات السامة والبراميل المتفجِّرة والتشرُّد، تتبرّع إيران للعرب المعذّبين في شرق أوسط الخراب والعنف والتنكيل، بأنها وحدها قادرة بجيشها وحرسها «الثوري» على إنقاذهم… بسحق «الإرهابيين»! مَنْ يقف تحت مبنى الـ «كي جي بي» في موسكو، قد يمكنه التكهُّن بحجم الأسرار التي يخفيها الخرّيج النجيب للاستخبارات، الرئيس فلاديمير بوتين، وحجم الأهداف التي يسعى إليها، منذ قرّر إرسال طائرات مقاتلة وعتاد حديث و «دقيق» إلى ساحل اللاذقية. وبعد نحو أربع سنوات ونصف سنة على كارثة سورية، ما زالت واشنطن تختبر سذاجتنا بادعائها هدفاً نبيلاً لدى بوتين، هو مجرد حماية قاعدة روسية. وما دام الأمر دفاعاً مشروعاً عن النفس، لماذا افتراض سوء النية لدى الكرملين، فيما هو يسعى الى توحيد جميع السوريين، وجمع القاتل والقتيل في خندق واحد ضد إرهاب «داعش»؟
الأكيد أن سورية ومأساتها في بداية مرحلة جديدة، دشّنها الجسر الجوي الروسي الذي يتكئ عليه النظام في دمشق ليُظهِر أنه ما زال قادراً على الصمود، وعلى محاربة «داعش»، وكل التنظيمات المعارضة معه. فلدى النظام الإرهاب واحد، والروس لم يشرحوا بعد كيف ستُميّز طائراتهم بين مَنْ هو «داعشي» ومَنْ يقاتل النظام! ظاهر المعادلة ساذج، إذ ليس متوقّعاً أن يعلن الكرملين عزمه على سحق كل مَنْ يقاتل نظام الرئيس بشار الأسد. وما حصل خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، يُظهِر الأميركيين في موقع المندهش من «المفاجأة» الروسية، لكنه لا يبدّد في كل الأحوال شكوكاً في توافقٍ بين موسكو وواشنطن على توزيع الأدوار في فرض تسويةٍ ما تجمّد النزاع في سورية. لا يتعارض التفاؤل الروسي بالمرونة الأميركية حيال مصير الأسد وموعد رحيله ودوره في الحل (تضاف إليها «المرونة» الفرنسية)، مع تصعيد على جبهة الترسانة النووية الأميركية وتهديد موسكو بِرَدّ. وتجربة تقاطع المصالح الأميركية والروسية في مفاوضات الملف النووي الإيراني، دليل حاسم على الثابت- المتحوّل في لعبة الأمم. وإذا كان الوقت ما زال مبكراً للتكهُّن بما وراء التفاؤل الروسي المسلّح بقاذفات متطورة ودبابات في سورية، فالأمر ذاته ينطبق أيضاً على الإجحاف في تيئيس مقاتلي المعارضة السورية، وشطب أي أمل بتغيير جدي لطبيعة النظام في دمشق… فقط لأن الكرملين لا يعترف إلا بمعارضة «سليمة»، ليس في صفوفها «الائتلاف الوطني السوري»، ولا «حركة أحرار الشام» حتماً، ولا يمكنه أن يرى الأسد خارج الحكم. ولكن، أين حصة واشنطن؟ وحصة حليفها الإسرائيلي، والحليف الإيراني للنظام السوري؟ أول ما بادر إليه النظام هو تكثيف غاراته على مواقع «داعش»، وإعلانه ثماراً للسلاح الروسي المتطوّر الذي بات في مخازنه. هرول وزير الخارجية الأميركي جون كيري إلى أوروبا، مستاءً من «مبادرة» بوتين المفاجئة، وهرول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو إلى موسكو. الأول بدا كمن عبّد الطريق للمرونة التي لا تجعل رحيل الأسد أولوية، والثاني سعى الى ضمانات باستعادة الهدوء السوري على هضبة الجولان الذي استقر لأربعين سنة ونيف. الحرص الأميركي على عدم الاشتباك مع الروس في الأجواء السورية، استنسخه الإسرائيلي، وأما الإيراني فيشكو علناً من أن بوتين يسحب من يديه إدارة الصراع في سورية، ومع «التكفيريين». هروَلَ أيضاً ليحجز مقعداً في قطار تسوية، سيكون الكرملين عرّابها الفعلي، بعدما أتاح للرئيس باراك أوباما أن يكون عرّاب الاتفاق النووي بين إيران والغرب. لذلك، تُسارع طهران الى تضخيم عضلات جيشها و «الحرس الثوري» ليصبحا القوة «الوحيدة» القادرة على منازلة الإرهابيين ودحرهم، ولتصبح هي «الأمل الوحيد» بعد يومين على إنكارها وجود أي قوة إيرانية أو «خبراء» لـ «الحرس» على الأراضي السورية. والأرجح ان افتراض نهاية قريبة للصراع الذي أطلق طوفان اللاجئين على أوروبا، وجعل وحدتها على المحك، هو أقرب إلى الأمنيات من الوقائع. الأرجح أن سيد الكرملين لا يريد للأسد مصير القذافي ولا زين العابدين بن علي، لكنه قادر على طيّ الصفحة حين تكتمل تفاهمات يريدها مع أوباما قبل مغادرة الأخير البيت الأبيض. وإن بدا أنّ بوتين رد الصاع «الأوكراني» (العقوبات الغربية) صاعين وأكثر في سورية، فالمؤلم في كل الأحوال أن يُسفر تجميد الصراع في شرق المتوسط عن شطب ثمنٍ باهظ دفعه السوريون من أجل وداع الذُّل.

 

إيران تعمل جاهدة لحمل أميركا على تلميع صورتها خليجيًا
هدى الحسيني/الشرق الأوسط/24 أيلول/15
القناع الذي يضعه الرئيس الإيراني حسن روحاني وهو يتحدث إلى الغرب، يخفي تحته صراعًا على السلطة داخل إيران، فهو منذ أصبح رئيسًا في أغسطس (آب) 2013 منشغل وحكومته في صراع مع «الحرس الثوري» حول من له القرار الأخير في قضايا كثيرة أبرزها:
– الاختلافات في وجهات النظر والأسلوب بشأن تورط إيران في الشرق الأوسط.
– السيطرة والميزانيات والنفوذ.
فالآيديولوجيا التي يطرحها روحاني تمثل نهجًا أكثر اعتدالاً بالنسبة إلى كل القضايا الداخلية والخارجية، في وقت يمثل فيه «الحرس الثوري» المؤسسة المحافظة التي تدفع إلى تصدير الثورة بأي ثمن وبتحدٍ غير محدود. خلال السنة الأولى من ولايته، أقدم روحاني على خطوة لتهميش «الحرس الثوري» في مواقع السلطة والنفوذ داخل النظام السياسي والمالي الإيراني، ونجح في إبعاد واستبدال ممثلي الحرس من بعض المراكز المالية الرئيسية ومن السلطات المحلية، لكن بشكل عام كان لتحركه نجاح محدود. وهذا لم يمنع روحاني من أن ينتقد وباستمرار مستوى تدخل «الحرس الثوري» في السياسة والمال، وأدلى بتصريحات علنية ضد تحكم الحرس بقوة عسكرية ومالية واسعة وهذا بحسب رأيه العلني ممارسة للفساد. في شهر أغسطس الماضي اتهم روحاني «الحرس الثوري» بالتورط السياسي، ومحاولة التأثير على السلطات المسؤولة عن التدقيق في قائمة المرشحين لانتخابات مجلس الشورى (بينهم حفيد الخميني) المقرر إجراؤها في شهر فبراير (شباط) من عام 2016. وحدثت «مناكفة» في الكلمات بينه وبين قائد «الحرس الثوري» اللواء محمد علي جعفري، بعدما انتقد روحاني وبشكل صارخ دور مجلس صيانة الدستور في اختيار المرشحين، فما كان من جعفري إلا أن انتقد بدوره تصريحات روحاني وروحاني نفسه، بطريقة عكست الصراع الآيديولوجي بينهما، وكذلك النظرة التي يراها الحرس لمؤسسته كممثل ومدافع عن النظام ضد روحاني ورفاقه. صراع آخر مستمر بين الطرفين له صلة بالمخصصات المالية والأولويات الوطنية. «فيلق القدس» بقيادة اللواء قاسم سليماني يحاول جمع الأموال من الدولة من أجل دعم حلفاء إيران في سوريا، و«حزب الله» في لبنان، وميليشيا «الحوثي» في اليمن، وغيرها من البلدان. من ناحيته يحاول روحاني وحكومته استثمار الموارد لتحسين وضع إيران الاقتصادي أولاً، ويود بالتالي تخفيض الدعم الذي يتلقاه الحلفاء.
لكن من ناحية أخرى يتعاون روحاني وسليماني في بعض الأحيان لتحقيق أهداف مشتركة. وعلى سبيل المثال نرى العام الماضي أن «فيلق القدس» بقيادة سليماني ووزارة الخارجية الإيرانية بإدارة وزيرها محمد جواد ظريف وبموافقة روحاني، عملا معًا على تكامل الجهود في المنطقة في محاولة لزيادة نفوذ إيران؛ إذ بينما يوفر سليماني وفريقه الأسلحة والدعم اللوجستي والتدريب العسكري لـ«الحوثيين» للقتال في اليمن، يعمل ظريف على إيجاد حل دبلوماسي لإنهاء القتال، يشمل ضم «الحوثيين» إلى الحكومة التي سيتم تشكيلها في صنعاء، وبهذه الطريقة يحافظ الإيرانيون على نفوذهم داخل الحكومة الجديدة وعلى عموم اليمن.
هناك أسلوب آخر من التعاون يجري اعتماده في دول أخرى مثل سوريا؛ إذ بينما قوات «فيلق القدس» ومقاتلو «حزب الله» غارقون حتى أعناقهم في الحرب التي تعصف بسوريا، نرى أن ظريف يبذل جهودًا دبلوماسية لإيجاد تسوية سياسية تمكن إيران من المحافظة على نفوذها في سوريا حتى بعد انتهاء الحرب، ويُشرك كبار مسؤولي الوزارة في هذه الجهود. لذلك، وتبعًا للتوقعات بأن الاتفاق النووي الإيراني مع القوى العظمى ستتم الموافقة عليه، وستليه أرباح مالية لإيران، فإن الميزانية المخصصة لـ«فيلق القدس» وتقديم الدعم لحلفاء إيران في المنطقة وأبرزهم «حزب الله»، من المتوقع أن تنمو في السنوات المقبلة، وسيجد روحاني صعوبة في إيقاف تحويل الأموال إلى «فيلق القدس» بادعاء قلة الموارد المالية. وكنا لاحظنا مثلاً تصريحات قياديي «حزب الله» في لبنان ومؤيديه الذين يصرون على القول إن ما قبل الاتفاق النووي يختلف عما بعده، نظرًا للأموال التي ستتدفق بعد رفع الحصار، إلى درجة أن أحد نواب «حزب الله» أخذه الولاء لإيران فأقدم على «تحوير» ما يرمز إليه العلم اللبناني، حيث قال يوم السبت الماضي 19 من الشهر الحالي: «إن الخطين الأحمرين على العلم اللبناني هما من دماء مجاهدي المقاومة، ولولا ذلك لما كان لأرزة أن تخفق». وينسحب الأمر أيضًا على جهود «أيرنة» العراق، إذ بثت ميليشيا «سرايا الخورساني» أخيرًا، شريطًا مصورًا عن مخيم تدريب جديد يحمل اسم «مركز تدريب الحاج حميد تقوي» وهو كان لواءً في «فيلق القدس» واغتاله قناص من «داعش» العام الماضي، وقبل مقتله كان المستشار العسكري لـ«سرايا الخورساني». من أول أهداف إيران بدعمها الميليشيات والتنظيمات في الدول العربية عبر «فيلق القدس»، شق الصف العربي. وهناك أمور كثيرة تساعد على استقرار المنطقة تواجهها إيران لأن رغبتها في تحقيق الإمبراطورية الشيعية تعتمد على عدم الاستقرار. من جهة أخرى كان أكثرَ المرحبين بالاتفاق النووي مقررو السياسة الخارجية الإيرانية، إذ رأوا فيه تقوية لدور إيران الإقليمي، كما رأوا أن تقلص الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط وصراعاته المتعددة، يفتح المجال أمام إيران للعب دور قيادي في المنطقة.
كيهان برزيغار مدير «مؤسسة الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية» في طهران قال إن الاتفاق النووي هو نقطة تحول، وألا يكون للولايات المتحدة سياسة في الشرق الأوسط بنظرنا «سياسة جيدة»، ثم أوضح أن هدف إيران من التعاون الإقليمي هو التخلص من الوجود الأميركي أكبر قوة عسكرية في المنطقة، وهي الوحيدة القادرة على إيذاء إيران. تعرف إيران أن هناك مصالح لغير أميركا في المنطقة، هناك روسيا وهناك الصين أيضا، لذلك فهي لها تطلع آخر، كشف عنه سيد جلال ساداتيان السفير الإيراني السابق في لندن بقوله: «إن أميركا تبحث عن حليف إقليمي قوي يكون شرطي المنطقة، وإيران تُعتبر الشريك الجيد المحتمل لأميركا في المستقبل». هناك سباق، في ظل الصراعات الداخلية لتقديم صورة «إيران المفيدة» لأميركا كي تقتنع أن «مصلحتها وراحتها» تكمنان وإيران إلى جانبها، إنما، وكما يقول برزيغار: المفتاح لمثل هذا التغيير هو بـ«الضغط» على دول الخليج الحليفة لأميركا، وبالتالي من مسؤوليتها أن تقنع المملكة العربية السعودية بأن إيران لا تشكل خطرًا عليها. و«يجب» على أميركا أن تغير هذه الصورة. أما داود هرميداس باوند الدبلوماسي الإيراني المتقاعد فقال: «عندما تكون علاقاتنا جيدة مع أميركا فإن جيراننا من الدول سيحاولون كسب ود إيران».
وكي لا تبدو إيران تهرول للعلاقة مع أميركا، بث المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي على «يوتيوب» فيلمًا بعنوان «إذا ما وقعت الحرب»، يبدأ بالرئيس الأميركي باراك أوباما وهو يقول إن الولايات المتحدة تستطيع أن تطيح إيران عسكريًا إذا ما قررت ذلك، فيرد خامنئي، ترافقه صور الترسانة العسكرية الإيرانية، وأمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله، وقوافل متحركة لصواريخ إيرانية تستهدف القوات الأميركية في أفغانستان قائلاً: «عليهم أن يعرفوا، إذا ما وقعت الحرب، من سيخرج مهانًا، إنها المجرمة أميركا»، وينتهي الفيديو بصور لجنود أميركيين يحملون تابوتًا ملفوفًا بالعلم الأميركي.
لا بد لخامنئي أن يقول هذا، لأنه بتصور الجميع صاحب الكلمة الأخيرة، وهو يستفيد من الصراع الداخلي كونه يعطي الضوء الأخضر للطرفين: روحاني وحكومته، و«الحرس الثوري» وفيلقه. أما الصراع بينهما فحول من سيسبق الآخر في تحقيق الطموحات الإيرانية. إن الصراع الآيديولوجي بين الفريقين، حول السلطة والنفوذ سيتوضح قبل انتخابات مجلسي الشورى والخبراء في فبراير 2016 وسيستمر ويتوضح أكثر وأكثر قبل الانتخابات الرئاسية المقررة عام 2017. لكن الأهداف تبقى واحدة: السيطرة المطلقة على المنطقة، ولهذا السبب، لا حلول سلمية بل احتمال اشتعال حروب أخرى، وبالتالي لا يمكن أن تأكل النار كل غرف المنزل باستثناء غرفة واحدة!