الـيـاس الزغـبـي: الرئاسة على الطريق/حازم الامين: مقولة نظام الأسد خسارة النازحين لا تعد نزفاً/حسام عيتاني: في سوسيولوجيا التحرك اللبناني

363

الرئاسة على الطريق
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/12 أيلول/15
يوماً بعد يوم، يَثبُت بطلان الشعارات الخارجة عن المنطق والواقع، كشعار انتخاب رئيس الجمهوريّة من الشعب أو من مجلس نوّاب جديد بعد تشريع قانون انتخابي غير مضبوط المعالم. وبطلان هذه الشعارات ناتج من موانع ثلاثة:
–  مانع دستوري يجعل من مجلس النوّاب هيئة انتخابيّة وليست تشريعيّة بفعل خلوّ سدّة الرئاسة.
–  مانع سياسي يتمثّل بأكثريّة شعبيّة ونيابيّة وكنسيّة تضع انتخاب الرئيس كأولويّة ثابتة وحاسمة، وكمدخل إلزامي لإعادة انبثاق السلطة وإحياء المؤسّسات.
–  مانع خارجي دبلوماسي يتمثّل بموقف دولي وعربي يدفع في اتجاه انتخاب الرئيس أوّلاً.
ويتهافت منطق أصحاب هذه الشعارات بسبب تعارضهم مع أنفسهم: هم يعتبرون أنّ مجلس النوّاب غير شرعي لانتخاب رئيس، ثمّ يعتبرونه شرعيّاً لتعديل الدستور أو لتشريع قانون انتخابي جديد. إنّها قمّة التناقض والتخبّط.
إذا كان مجلس النوّاب الممدِّد لنفسه مرّتين شرعيّاً في تعديل الدستور ووضع قانون الانتخابات النيابيّة، وهو أهمّ قانون لانبثاق السلطة ويتساوى بأهميّته مع قانون الموازنة العامّة، فهو من باب أَولى شرعي لانتخاب رئيس الجمهوريّة، كأقصر الطرق وأسلمها لإعادة توليد المؤسّسات.
ويزداد تهافت موقف هؤلاء بعد الجلسة الأولى للحوار، ليس فقط بسبب توتّرهم وفقدان أعصابهم خلال النقاش بما أثار هزء المشاركين، بل بسبب تكريس موضوع الرئاسة كبند أوّل لا ينتقل المتحاورون إلى غيره إلاّ بعد بتّه. وهذا ما عبّر عنه الداعي للحوار ومترئّس جلساته الرئيس نبيه برّي، مصحِّحاً موقفه السابق المتسرّع، وربّما الاستهلاكي، عن الانتقال إلى بند قانون الانتخاب والذهاب إلى الانتخابات النيابيّة قبل الرئاسيّة.
إذاً، نحن نتّجه نحو أفق سياسي أكثر وضوحاً، وهو أولويّة الانتخابات الرئاسيّة، حتّى أنّ معظم الحراك المدني بدأ ترشيد خطابه في هذا الاتجاه كي يحاسب سلطة فعليّة لاحقاً بدل محاسبة سلطة صوريّة راهناً. ولا شكّ في أنّ الرئيس برّي يراقب حركة الريح الإقليميّة والدوليّة، ولم يكن تعديله لموقفه السابق سوى ثمرة هذه المراقبة.
صحيح أنّ العلاقة بينه وبين ميشال عون تدهورت أكثر، عبر التراشق بهدر الأموال ورائحة الصفقات في وزارة الطاقة، ولكنّ تصويب بوصلة الانتخابات الرئاسيّة في الاتجاه الصحيح يتخطّى الخلاف الثنائي ويتّصل بالتوازنات الداخليّة والخارجيّة وسياسة التهدئة والاستقرار.
لذلك، يتّضح أكثر فأكثر أنّ الجهات المنادية بانتخاب الرئيس الآن من الشعب أو بانتخابات نيابيّة أوّلاً، وقد حصرناها في المقال السابق بطرفين يشكّلان واجهة أو ذراعاً لـ”حزب الله”، باتت فعلاً خارج المسار السياسي السليم، بعد سقوط شعارها التخريبي الذي لا يوصل إلاّ إلى الفوضى والفراغ الأخطر. واليوم، وأكثر من أيّ يوم مضى، وبعد 16 شهراً من الفراغ الرئاسي، يمكن تلمّس الطريق المؤدّي إلى الحلقة الأولى من الحلّ: إنتخاب رئيس جديد. وربّما بعد تكرار جلسات الحوار التي ستحصل على وقع الاتجاهات الجديدة في أزمات المنطقة، وتحديداً في سوريّا حيث تدور مساومات اقتسام النفوذ، وقد سارعت موسكو إلى الحضور فيها ميدانيّاً لتأمين حصّتها بعد رحيل الأسد.
ولم يعد خافياً أنّ الرئيس العتيد لن يكون منساقاً في محور، أو طرفاً في اصطفاف داخلي أو خارجي. وهناك من أهدر فرصاً كثيرة لتقديم نفسه حلاًّ ونقطة التقاء وعروة وثقى، فلم يستطع التحرّر من التزام وقّع عليه ووقع فيه وعلق في مصيدته. ولا يمكن لمن يتباهى بتوقيع وثيقة ارتهان فئوي ومذهبي أن يحكم دولة متنوّعة ودقيقة الحساسيّات مثل لبنان. سواء طالت جلسات الحوار أو قصرت، وسواء دار الحوار على نفسه أو خرج إلى تسويات، فإنّه ليس سوى واجهة لترتيبات في الحوار الأكبر والأعلى الدائر بين الأمم.
شغور الرئاسة لن ينتظر اكتمال سنتين. وربّما يولد لنا رئيس قبل الميلاد. ولا يمكن إلاّ أن يكون خلاصيّاً بعد هذا الليل الطويل. والخلاصيّ يكون عادةً من قماشة النسيج اللبناني المتنوّع والمتداخل، عارفاً معنى لبنان ورسالته وفرادة تكوينه البشري والسياسي، قويّاً بإرادته في اجتراح الحلول وفي التقريب بين المتباعدين، وليس في توسيع المسافات وتعميق الشروخ

مقولة نظام الأسد… خسارة النازحين لا تعد نزفاً
حازم الامين/الحياة/13 أيلول/15
كتب «مثقف» النظام السوري: «معظم اللاجئين السوريين خارج وطنهم هم من الفئات غير القادرة على التعايش مع التعددية… وهكذا فإن خساراتهم لا تعد نزفاً ديموغرافياً»!، وذلك قبل أن تبادر صحيفة «الأقلوية الممانعة» إلى سحب مقاله من موقعها الإلكتروني والاعتذار. وسبق هذه الواقعة أن أقدمت مصورة في تلفزيون يميني مجري على ركل نازح سوري يحمل ابنه ويحاول الإفلات من عناصر الشرطة التي تحاصره. وأيضاً أقدم التلفزيون اليميني على إنهاء عقد عمل المصورة لديه.
والحال أن سحب المقال من الصحيفة اللبنانية وإنهاء عمل المصورة التلفزيونية المجرية لا يلغيان حقيقة أن فعلتي الكاتب والمصورة صادرتان عن وعي وتصميم هما وليدا ثقافة نزق وطني عنصري لطالما شاب الوعي الأقلوي، ودفعه نحو مستويات هذيانية.
وإذا كانت فعلة المصورة المجرية شأناً أوروبياً تتولى مجتمعات القارة العجوز نقاشه ومحاسبة نفسها وثقافتها عليه، فإن فعلة كاتب النظام في سورية ليست سقطة عابرة، إنما هي جزء من لغة ومن أفعال ومن أداء أنظمة ودول لا تقتصر على النظام في سورية. وقد ابتكرت لهذه اللغة مفاتيح تمكنت من حجز مكان لها في قاموس ما هو مقبول في لغتنا السياسية. فعبارة «سورية المفيدة» تنطوي ضمناً على قناعة بأن ثمة «سورية غير مفيدة». وهذه العبارة مهدت من دون شك لمقولة كاتب النظام، إذ إن وجود «سورية غير مفيدة» يعني أيضاً وجود «سوريين غير مفيدين»، وهم من باشرت آلة النظام عملية ترحيلهم على نحو منهجي.
وهنا علينا أن لا نهمل جهداً بدأ يُبذل لإنتاج رواية تتخلص فيها الأقليات من الإرث الثقافي الجماعي للمنطقة، وتنسب إلى نفسها فضائل «التعددية» في مقابل الأحادية، فيُنتج تلفزيون «المنار» مثلاً برنامجاً عن الإمام الثاني عشر، يشير فيه إلى أن والدته «رومية مسيحية»، في إشارة إلى «قابلية ثقافية» للاختلاط بالأقليات، ويهمل التلفزيون في برنامجه هذا أن والدة الإمام في هذه الرواية غير المحققة أصلاً، كانت سبية.
النقاش يجب أن يتركز هنا على مدى صحة مقولة أن ثمة ترحيلاً منهجياً يرقى لأن يُسمى ترانسفير في سورية. ذاك أن وجود «سوريين غير مفيدين» عبارة موازية للعبارة الصهيونية التي استعملت في وصف سكان الجليل عندما باشرت المنظمات الصهيونية عملية ترحيلهم وتوطين يهود أوروبيين في مدنهم وقراهم. فهم وِفقها «بدو لا يصلحون للبقاء في هذه الأرض الخصبة». وبعد ثلاثة عقود من هذه العملية ظهر في اسرائيل من يعترف بأن دولته أقدمت على ترانسفير.
وبغض النظر عن حقيقة أن عبارة كاتب النظام كشفت عن مدى إعجابه بالنجاح «غير الأخلاقي» للترانسفير الإسرائيلي، على حد تعبير المؤرخ الاسرائيلي بيني موريس، فإن ثمة وقائع تؤكد أن ثمة تمهيداً حقيقياً لعملية ترانسفير سورية أنجزت فيها مهام محددة، فيما تنتظرها خطوات لاحقة يبدو أن النظام وحلفاءه في طريقهم إلى مباشرتها. والوقائع المنجزة يُمكن بسهولة إدراجها في سياق خطة منهجية تهدف إلى تغيير ديموغرافي واضح.
المهمة هي تأمين بيئة تساعد على تحقيق «سورية المفيدة». المهمة شاقة وصعبة، لكنّ النظام وحلفاءه الإقليميين والدوليين سائرون فيها على ما يبدو. «سورية المفيدة» التي تمتد من دمشق وريفها إلى الساحل السوري مروراً بحمص وريفها، يجب أن تتخلص من «السوريين غير المفيدين»، وهؤلاء يشكلون أكثر من 60 في المئة من سكان هذه المناطق.
المهمة بدأ تنفيذها منذ سنوات. وثمة وقائع كثيرة أصبحت وراءنا في سياقها. فالطريق من دمشق إلى حمص، تم ترحيل الكتل السكانية الرئيسة منها. ومدن القصير ويبرود وأحياء حمص القديمة، جميعها صارت مناطق غير مأهولة تقريباً. مدينة الزبداني في طريقها الى الالتحاق أيضاً بسلسلة المدن السورية الخالية من السكان. ثمة أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان جميعهم من هذه المناطق. وإذا كان الترانسفير يحتاج لكي يتحقق إلى أكثر من ربط الوقائع بالنوايا، أي إلى إعلان واضح عن موقع السكان من مشروع الدولة المستجدة، فإن كاتب النظام كشف عن موقع هؤلاء المرحلين في ثقافة النظام. فهم «لا يخدمون التعددية»، وهم «شعب القاعدة وداعش». علماً أن النظام يملك ثقافة احتقارية لهؤلاء السكان سبقت انتفاضهم عليه، وما عبارات كاتب النظام سوى صدى مباشر لهذه الثقافة.
لكن، وعلى رغم وجود النوايا وضعف الوازع الأخلاقي، تبقى المهمة شبه مستحيلة. صمت العالم عما يجري للسوريين لا يُشبه صمته حيال ما حل بالفلسطينيين في 1948. في ذلك الوقت، قرر العالم أن ليهود أوروبا الناجين من المحرقة دولة في الشرق يجب عدم اعتراضهم في مهمة تأسيسها. أما في سورية، فالعالم مستهدف أيضاً في هذا الترانسفير، وأوروبا منقسمة حيال مصير مئات الآلاف من السوريين العالقين بين حدود دولها. والكتل السكانية التي استهدفت بقرار الترانسفير كانت أقل انسجاماً وتماسكاً من الكتل المستهدفة بالترانسفير السوري. الأعداد أيضاً كانت أقل، والمجتمعات المجاورة التي استقبلت اللاجئين الفلسطينيين في حينه لم تكن مضطربة على نحو ما هي مضطربة اليوم. وتبقى المشكلة الأكبر في وجه الترانسفير السوري والتي تتمثل بهوية المستوطنين الذين يُفترض إحلالهم في الأرض التي اقتلع سكانها. فحتى الآن لا يبدو أن ثمة تصوراً لدى النظام عن آلية نقل للسكان، وما زالت الأخبار عن توطين ايرانيين ولبنانيين وعراقيين ضعيفة وغير واقعية.
هذا كله لا يُضعف حقيقة أن السوريين يتعرضون لنوع جديد من الترانسفير، مع فارق أنه ترانسفير بعثي لا صهيوني، أي أنه يحمل من هوية أصحابه انعدام وجهة واضحة وخطة واقعية، ويبدو أن التجريب هو وسيلته في «الإنجاز». وهذا يعني ارتفاعاً في طاقته العنفية والتدميرية، وترافقه مع نزعة استئصالية. يبقى أن دراسة مقارنة بين الترانسفيرين السوري والفلسطيني لا تساعد على استبعاد وصف ما يجري في سورية بأنه عملية ترحيل منهجية. فالعالم اعترف بأن اسرائيل أقدمت على اقتلاع سكان من أرضهم وإحلال غيرهم محلهم بعد عقود من وقوع الكارثة. والعالم اليوم يُمارس نكراناً مشابهاً.

في سوسيولوجيا التحرك اللبناني
حسام عيتاني/الحياة/13 أيلول/15
تتجمع فوق التحرك اللبناني الحالي مناخات شديدة الشبه بتلك التي رافقت اندلاع الحرب الأهلية في 1975 وخلاصته تبني مواقف مزدوجة تفضي الى انفكاك شرائح واسعة من اللبنانيين من حول التحرك برغم عدالة مطالبه.
على أرضية شديدة الحساسية لكل إشارة يُفهم منها معنى أو إشارة طائفية ولو بسيطة، غيّر مشاركون في الحراك أولوياتهم وقرروا استهداف فريق سياسي – طائفي بعينه. يؤدي دور «المغفل المفيد» في هذا المسار يساريون سابقون وحاليون قرروا إمتطاء التحرك الشبابي الداعي الى حل أزمة النفايات. إذا أردنا تسمية الأشياء كما هي، يستبطن كل تحرك مضموناً قابلاً للتأويل الطائفي. في بدايات الحرب، تحفظ السنّة في بيروت على التحالف اليساري – الفلسطيني (وان سعوا الى الاستفادة منه) وأحجم أكثرهم عن المشاركة في الحرب لأسباب تمتد من الإحتجاج على تدمير مدينتهم الى الشعور بالريبة حيال حماسة أبناء الطوائف الأخرى للقتال في العاصمة وبالتالي تغيير تركيبتها السكانية وصولاً الى الشك في الهدف البعيد في الانقلاب على صيغة الحكم التي قامت بعد استقلال 1943.
التحرك الحالي يسير في طريق مشابه. يرتاب كثر من سنّة بيروت في التمسك باستهداف وزير البيئة الذي تخلى عملياً عن مسؤولياته معلناً فشله في معالجة الأزمة. وبريبة إضافية حيال دور شبان محسوبين على طائفة منافسة في الصدامات التي وقعت أثناء التحرك حيث ظهر ان مجموعات تنزل الى الشارع في معزل عن إرادة منظمي التحرك وتعتمد لغة التخريب المقصود لوسط المدينة. وجاءت الدعوة الى الاعتصام في منطقة الزيتونة على شاطئ البحر بحجة استرداد الأملاك البحرية المسروقة، لتبرهن من لم يقتنع بعد أن ثمة جدول أعمال سياسياً يحاول أشخاص معروفون فرضه على التحرك بغية جرّه الى خدمة اهدافهم الخاصة. لا معنى للرد على الشكوك الواردة أعلاه برطانة فارغة عن «علمانية التحرك» وطبيعته الشبابية والمدنية العابرة للطوائف. فمن لا يستطيع التعامل مع حساسيات مجتمع يعاني من استقطاب طائفي يرتفع بسرعة صاروخية منذ 2005، أفضل له ان يلزم منزله. ويغلب على الظن أسوأه، أي تعمد قسم ممن عيّنوا أنفسهم «آباء روحيين» للتحرك توجيه السهام الى طرف سياسي محدد، هو تيار «المستقبل» ضمن المعركة السياسية التقليدية وانقسام البلد الى معسكرين. بكلمات ثانية، يريد هؤلاء إعادة التحرك الى الخانة التي تأسس على فكرة هجر الانقسام. وسنّة بيروت ليسوا مؤيدين فطريين لـ «المستقبل» بل أن قسماً لا يستهان به منهم من المتضررين المباشرين من مشروع «سوليدير» الذي ألحق بممتلاكتهم أضراراً جمّة. لكن تأييدهم لما تبقى من التيار الحريري ينبع أساساً من الخوف الذي سببه تضخم قوة «حزب الله» وغطرسته. وهم لن يؤيدوا «داعش» و «النصرة» خلافاً لما قد يفعل بعض سنّة الارياف لأسباب يطول شرحها. في المقابل، ينبغي القول ان مدّعي اليسار يحتاجون الى إعادة تعريف. ومن الأزمات القاتلة التي أصابت محاولات بناء يسار في لبنان كانت السمة الريفية لأكثرية المنضوين في قواه في حين يفترض باليسار ان يكون ممثلاً للتوجهات الأكثر مدنية. أجاب يسار الريف على هذه الحجة باتهام أهل المدن بـ «البرجوازية الصغيرة» وما زال عند اتهامه هذا.
لكن الحقيقة في مكان آخر. الحقيقة تقول ان الإرتكاس الى الولاءات الطائفية والعشائرية أسهل في الأرياف منها في المدن لرسوخ نظام الولاءات التقليدية هناك. سيان تغطى هذا الارتكاس باليسار أو الدين أو غيرهما.