ايلي الحاج: ماذا بقي من 14 آذار بعد التظاهرات؟ الرأي العام يحاسب ويذهب بعيداً/حـازم الأميـن: مرثيّة العونية/وسام سعادة: مخطئ مَن يظن أن الغضب الشعبي ملكه»

324

ماذا بقي من 14 آذار بعد التظاهرات؟ “الرأي العام” يحاسب ويذهب بعيداً
ايلي الحاج/النهار/2 أيلول 2015

هل بقي شيء من قوى 14 آذار كي يسأل متابعٌ عن موقفها من انتفاضة الشارع التي لم تتحدد معالمها ومداها وأهدافها حتى اليوم؟ لا مفر من اعتراف بأن تطورات الأيام الماضية كرّست تباعداً بدأ وتوسّع ببطء، ولكن بثبات، مدى سنوات بين الأحزاب والشخصيات التي قادت “إنتفاضة استقلال” لم تحقق كل أهدافها بفعل “انقلاب مضاد” عليها، وبين رأي عام جارف أيّدها وعبّر عن نفسه بالحناجر والأعلام والأقدام في اليوم التاريخي والإستثنائي من العام 2005، والذي اختارت الحركة أن تتسمى على اسمه. أحداث كثيرة تلاحقت بعد ذلك، دموية ومأسوية، واكبتها أخطاء سياسية أقل ما يوصف بعضها بأنه “جسيم”. المثال “التفاهم الإنتخابي الرباعي” السيئ الإخراج والنتائج البعيدة المدى، ومرحلة “السين – سين”، عدم الإقدام حتى على محاولة تغيير في رئاسة مجلس النواب وبعض الأجهزة غير المدنية، الغيبات الطويلة سياسياً وشعبياً، مروراً بمحاولات متكررة وتطلعات لأطراف أساسيين في التحالف إلى إقامة تفاهمات وسياسات من دون علم حلفاء لهم أو تنسيق واتفاق معهم، مما خلّف ارتدادات ليس على العلاقات بين الفئات المكوّنة لقيادة التحالف وحدها: زيارة الرئيس سعد الحريري لدمشق وأسلوب إخراجها، سير الدكتور سمير جعجع في “المشروع الأرثوذكسي” وخوض كل منهما في تفاهمات وإن موضعية مع الجنرال ميشال عون فوق الطاولة وتحت الطاولة، فضلاً عن تبرّم حزب الكتائب الدائم قبل دخوله الحكومة، واعتراضاته المتعددة السبب على مجمل سياسات 14 آذار. فوق ذلك كان الجميع تقريباً، أحزاباً وشخصيات مستقلة، يدخلون في نزاعات مع الجميع عند “توزيع المغانم” النيابية والوزارية والإدارية. ساد منطق إعلاء المصلحة الحزبية والطائفية والذاتية الضيقة على منطق الصراع من أجل القضية، وذلك كله في موازاة انفصال شبه تام عن “الرأي العام” الذي بات على قلق وشكوى وتبرم في انتظار تغيير ما لم يتحقق إلا في سياق آخر خلال الأيام الماضية، وتحت عناوين وقيادة لغير 14 آذار في حركة الشارع الأخيرة والمستمرة بمظاهر مختلفة.
هكذا برزت صور شخصيات وقيادات في تجمعات سياسية من صلب 14 آذار، وأفراد من عائلات قياديين فيها هنا وهناك خلال تظاهرات “طلعت ريحتكم”، وعلى الفور بدأ سياسيون إعادة قراءة الوضع برمته ناظرين في الوقت نفسه إلى عرض الرئيس نبيه بري العودة إلى طاولة الحوار من زاوية الحرص على تكريس اتفاق الطائف الذي لم تطبق بنود أساسية فيه، وعدم الخروج على الدستور. وبدا أن الرسالة وصلت واضحة: الرأي العام الذي أيد قوى 14 آذار ليس معلباً، يرفض تجاوزه والإستخفاف به، ويستطيع بسهولة محاسبتها وكما يجب، وقد فعل ذلك عملياً بنزوله إلى تظاهرات ترفع فيها صور قيادات في معرض التنديد بها والإتهام. أولى نتائج هذه الرسالة الشعبية المدوية ستنعكس ضعفاً لموقف المفاوضين عن “14 آذار” في الحوار النيابي. في المقابل لا يمكن التغاضي عن خسائر مني بها الفريق المقابل “8 آذار”. صحيح أن “حزب الله” لا يزال يحتفظ بسلاحه لكنه فقد هيبة له في الشارع كانت أقوى من السلاح بينما يخوض حرباً يمكن القول إنها شبه إنتحارية داخل سوريا مما يهدد كل مفعوله في لبنان. لا يتردد سياسي من أبرز منظّري 14 آذار في اعتبار أن ما يجري في المنطقة بعد “الإتفاق النووي” كما في لبنان يطوي صفحة تجربة الهيمنة الشيعية على البلاد بعد طي تجربة هيمنتين، المارونية والسُنّية، على التوالي. يؤكد الرجل أن مشروع “حزب الله” خسر، لكن 14 آذار لم تربح، صارت من الماضي إلا اذا حصلت معجزة.

مرثيّة العونية
حـازم الأميـن/لبنان الآن/02 أيلول/15
يستحق العونيون أكثر ممّا أتحفهم به رئيسهم الجديد جبران باسيل. فالرجل باشر رئاسته التيار البرتقالي بنشيد جبران! والحال أن الخطوة لا تستدرج ضحكاً على ما فعل لبنانيون كثر فور سماعهم النشيد. إنّها اللحظة التي يستحق فيها العونيون أن ندافع عنهم في مواجهة أنفسهم. فالنشيد استهدف ذكاءهم قبل أي شيء آخر. النشيد هدف لأن يقول لهم هذا رئيسكم وهذه موسيقاكم وهذا ما يجب أن تؤمنوا به. والحال أن العونيين، قبل غيرهم، مَن يمكن أن يثير النشيد حسّاسيتهم، فهم شريحة فضفاضة قبل أن يكونوا حزباً، وهم مزاج أكثر من كونهم فكرة أو ايديولوجيا، ومن هذه حاله يصعب على أنشودة جبران أن تخترقه. من الواضح أن هناك قراراً بنقل العونية من مزاج إلى حزب، وبطرد الضفاف الفضفاضة من حول المتن الحزبي. النشيد إشارة واضحة إلى ذلك، والتوريث الذي جرى لن يستقيم من دون “حزب” ونشيد وقائد. وليس مهماً حجم الخسارة التي سيخلّفها القرار. المهم أن يكون خلف جبران حزب وعصبية حزبية يتجاوز فيها تيار عمّه. فالوراثة لن تتم لجبران، ذاك أن التوريث يحتاج أسساً صلبة، والتيار ليست هذه حاله. إنه مزاج ومشاعر، وهذه لا تُورث. النشيد ينضح بالرغبة بالتحوّل إلى “قائد” من نوع أنطون سعاده. هذا ما لا توفّره العونية بصيغتها الراهنة. “طالع صوب المجد الساطع”، عبارة لا تتّفق مع مزاج جارنا العوني الذي يسمي “الزعيم الجديد” بإسمه، جبران، هكذا من دون لقب ولا رتبة. بعد النشيد على جارنا أن يجد حلاً لمعضلته، إمّا يسميه “الزعيم” أو “المجد الساطع” أو يغادر التيار. النشيد وضع العونيين أمام هذا الاستحقاق. جبران لم يعد جبران صار منذ الآن “المجد الساطع”. من يرِد أن يبقى في التيار فعليه أن يسلم بالأمر، ومن لا يستطيع عليه أن يُغادر. الأرجح أن خطوة جبران صائبة، فخطوة تسلّمه التيار بضفافه الراهنة لن تتم. عليه أن يُباشر عملية تطهير تضمن له بقاء المخلصين. النشيد هو بمثابة الخطوة الأولى لطرد المتذبذبين. كل من لن يسمح له ذكاؤه بقبول ما يفيض به النشيد من دلالات ومعانٍ عليه أن يغادر. لا يمكن المرء أن يُفسر النشيد بغير ذلك. هو مذهل من دون شك، ويستدرج رثاء بحال من أصابهم من أصدقائنا العونيين. فالمرء يشعر بأن العونيّة التي وإنْ كان يخاصمها، مادة سجال بين المرء وبين نفسه. “طالع صوب المجد الساطع” ليس اعتداءً على العونيين، انما أيضاً اعتداء على خصومهم، فالخصومة، لكي يكون المرء محترماً نفسه، يجب أن تُبنى على شيء من السوية في الوعي. من الآن وصاعداً يجب علينا أن نكف عن مخاصمة العونية. أن نقول أن خصمنا أذاب نفسه وأن نأسف. علينا أن نحاذر من أن نزهو بهذا السقوط، ذاك أن العونية شيء موجود فينا كلنا وإن بمقادير متفاوتة. هي اللحظة التي يفقد فينا واحدنا صوابه، وهذا هو تماماً ما يعرف جبران أنه لا يستطيع أن يرثه.

مخطئ مَن يظن أن الغضب الشعبي «ملكه»
وسام سعادة/المستقبل/02 أيلول/15
عاش البلد بعد فراغ سدة الرئاسة سنة من الاستقرار الحكومي الذي لم يُعطب طوال تلك المدة مع أنه كان يبدو في كل يوم سريع العطب. ثم دخل البلد في الأشهر الأخيرة أزمة مختلفة كمياً ونوعياً عن سلسلة الأزمات التي عجنت سنواته الماضية وتاريخه بشكل عام.
أن يقفز الموضوع البيئي الى المرتبة الأولى في هذه الأزمة الشاملة ويصير محور التقاطع بين شتى العناوين المحتقنة الأخرى فهذا لم يكن في قيد المتوقع والمتداول في السياسة اللبنانية، إذ قلما كان العنوان البيئي مدار اختلاف جدي بين القوى النافذة، وكانت سمة العناوين البيئية، مثل مطمر الناعمة في السنوات الماضية، والمقالع والكسارات، وتلوث المياه والشطآن، وإتلاف وإحراق الغابات، إنها عناوين تقفز الى دائرة الإضاءة الإعلامية، والتهديف السياسي، والتعبئة الناشطة، ثم تنساب الى ما وراء الستارة، نتيجة حدث يهطل علينا من هنا وهناك، ونتيجة تعالي القوى النافذة جميعها على المسائل البيئية، واعتبارها ثانوية جداً قياساً على قضايا السيادة والاستقلال والحريات والاهتداء الى قانون انتخاب وتحرير الأرض وحماية السلاح المقاوم ومعرفة من قتل الشهداء وترسيم الحدود وتحريك عجلة الاقتصاد وتحسين لقمة العيش وتأمين فرص العمل. في هذا الوقت كان مطمر الناعمة يراكم ويراكم، الى أن صار المطمر نفسه، وليس التحرك الأهلي المحق للسكان، عاجزاً عن تلقي المزيد، وعلى شفير تشكيل حالة «ميني تشرنوبيلية» جراء اجتماع سوء التدبير، مع محدودية الرقعة المستقبلة لنفايات مجتمع عالي وتيرة الاستهلاكية، ومرتفع الكثافة السكانية أساساً، وقد زادتها، بشكل لا يمكن المكابرة عليه، كثافة اللجوء الاضطراري السوري اليه، أيّ إخلال بخرزات هذا المشهد سيضعف حكماً احتمال المقاربة الجادة للراهن المجتمعي والسياسي.
وتداخل هذا طبعاً مع حسابات سياسية وتلزيمية جعلت من الموعد المحدد لإقفال المطمر موعداً تنفيذياً على غير عادة، لتدخل البلاد في أزمة التيه بين البحث عن مطمر بديل، أو عن مطامر بالجمع، أو عن بدائل للطمر، وكانت الحلقة الأولى في هذا الإطار شعور مناطق الأطراف أنها عرضة لحل الموضوع على حساب أهلها وسلامتهم، وجاء تحرك أهالي برجا طليعياً في هذا المقام. ثم دخلنا في احتقان متزايد، انفجر حالة غضب شعبي لم تجرِ مقاربتها بالشكل الملائم، ما أدى الى توسعها وانتقالها من حركة مجتمع مدني على الطريقة اللبنانية الى حالة رأي عام طفح كيله مع كل هذه السياسات المسيئة للمصالح الحياتية. من جهة، يبدو الموضوع البيئي متصلاً بشكل عضوي بكل الموضوعات. ومن جهة، هناك ميل، بحجة الموضوع البيئي، الى تجاوزه ثم طرحه جانباً للانصراف الى موضوعات أخرى.
طبعاً تسييس الموضوع البيئي ضروري من قبل المتضررين من الكارثة الوطنية في قطاع النفايات. لكن ثمة تسييس وتسييس. ثمة تسييس يضع موضوعاً مطلبياً في الإطار الذي يجمعه بمطالب أخرى، وبالشكل الذي يحسن إدارة عامل الوقت، خصوصاً حيال مشكلة لا ترحم على الصعيد الزمني، كمشكلة تكدس أكوام القمامة. والتسييس هنا يكون بصياغة القضية البيئية اللبنانية بشكل متكامل كقضية مرتبطة بضرورة انبثاق عقد اجتماعي وبيئي في الوقت نفسه، بشكل لا يفصل بين التخريب الحاصل لشروط عيش الإنسان وشروط سلامة الطبيعة، وبشكل يقسّم العمل بيئياً بين المناطق اللبنانية، بطريقة واقعية. التسييس لا يكون بتبني نظرية المؤامرة. هناك عطب مزمن في إدارة قطاع النفايات لكن هذا العطب لا يمكن إدراكه بالتبسيطية المبتذلة التي تفسر كل الأمر بأن هناك حفنة من المتآمرين على البيئة وصحة الإنسان بشكل منهجي وواعٍ. كذلك هو مبتذل التفسير التآمري حين يستخدم ضد الغضب المدني والشعبي على خلفية كارثة النفايات. والتسييس لا يكون بمغادرة القضية البيئية نحو ما يجري التوهم أنه أهم منها، لأن كل بلائنا منذ انتهاء الحرب هو النظر الى القضية البيئية كاكزوتيكية ومخملية وثانوية ما ساعد على التخريب البيئي لطبيعة هذا البلد والتلوث المتعدد الأشكال لأراضيه ومياهه وشروط العيش فيه. الناس غاضبة، تريد حلولاً سريعة لمشكلة متفاقمة تواجهها هي مشكلة قطاع النفايات، لكن مخطئ من يعتبر أنه يمكن الاستقلال بهذا الغضب وأن الغضب الشعبي «ملكه» وبإمكانه تحويله الى قوة قائمة بذاتها منفصلة عن المشكلة الأساسية، مشكلة النفايات المتفرعة عن مشكلة تخريب البيئة بآليات استهتار فظيعة، تماماً مثلما هو مخطئ من يراهن على تسكين هذا الغضب بالمهدئات التسويفية.