النائب السابق جواد بولس عن عمه المفكر والمؤرخ والفيلسوف اللبناني جواد بولس

402

جواد بولس عن جواد بولس
بقلم النائب السابق/جواد بولس.
النهار/22 آب 2015

تكوّنَتْ نظرةُ جواد بولس إلى الأمةِ اللبنانية عبرَ تَتَبُّعِه التجربةَ التاريخيةَ وإِخْضاعِها في الوقتِ نفسِه للتحليلِ العقلانيِّ الدقيق. ومن هنا ثَبُتَ لديه أن لبنان من أقدمِ بلدانِ العالمِ، شكَّلَ تاريخيا وِحْدةً جغرافيةً واقتصادية وحضارية متميزةً عن محيطِه جعلَتْه ذا كينونةٍ ثابتةٍ على مدى التاريخ.

لذلك رفض مقولةَ أنَّ لبنانَ بلدٌ مُصْطَنَع ومِن انتاجِ اتفاقيةِ سايكس – بيكو التي لم يُنكِرْ أنها رسمَتْ حدودَ لبنان الكبير، لكنه لم يَرَ في ذلك عيبا معتبراً أنها أعادَتْ البلدَ اللبنانيَّ إلى حدودِه الطبيعية، فَهَلْ مِنْ بلدٍ عريقٍ في العالم لم يَشْهَدْ تغيُّراتٍ في حدودِه – أيطاليا والنمسا وسويسرا وفرنسا نفسها مثلا؟- ولذلك كان يهزَأُ منَ الذين يشيرون إلى الخريطةِ ليؤكدوا أنَّ لبنانَ سُلِخَ من سوريا، وأنَّ وضْعَه هو وضعٌ استثنائيّ. وأمامَنا أمثلة على ذلك. فليس البرتغالُ جِزْءا من اسبانيا وإنْ كانَتِ الجغرافيا جعَلَتْهُما شريكتيْن في شبه الجزيرة الإيبيرية، وكذلك ليست الشيلي جزءاً من الارجتنين.
وفي مُوازاةِ هذا الاساسِ التاريخيِّ، رأى جواد بولس أساسا آخر تُرْسَى عليه الأمَّةُ اللبنانيةُ، ليس في تَشَارُكِ أبنائِه أرضاً واحدة ولا في وِحدةِ لُغتِهم أو الانتماءِ الإِتْنِيِّ. ولم يَرَ هذا الأساسَ بالطبعِ في الانتماءِ إلى الدينِ الواحدِ مؤكِّداً أَنَّ وِحدةَ الدينِ ليسَتْ عنصراً فعّالاً في وحدةِ الأوطان. هذا الأساسُ رآه في “الميثاقِ الضمنيِّ” بينَ مُختلَفِ أديانِ الوطنِ ومذاهبِه. وأياً تكُنْ تسمِيةُ هذا الميثاقِ فهو يتطابقُ معْ مفهومِ الأمةِ المعاصِر، حيثُ تَرْتَضي الجماعاتُ التي تَشْترِكُ في اللغةِ والثقافةِ والمصالحِ أَنْ تَضَعَ خلافاتِها جانباً لتعيشَ معاً مُتعاوِنةً في إطارِ الوطنِ وفي ظِلِّ الدولة. أُكرِّرُ في إطار الوطن وفي ظلّ الدولة.
لم يَفُتْهُ طبعاً ولم يُنْكِرْ أَنَّ الجماعاتِ الطائفيةَ اصْطدَمَتْ في الماضي في ما بينَها في نِزاعاتٍ داخليّةٍ عَوَّقَتْ تَقَدُّمَ الوطنِ اللبنانيّ. لكنْ أيُّ بلدٍ في العالمِ يُمْكِنُه أَنْ يُفاخِرَ بأَنَّه لَمْ يَشْهَدِ اقْتتالاتٍ داخليّةً أَخَوِيَّة؟
وكان يرى أَنَّه لا يَنْبغي أَنْ يَلْتبِسَ الأمْرُ حولَ طبيعةِ هذه النزاعاتِ الطائفيةِ التي تُحَرِّكُ بعضَ الجماعاتِ مِنْ حينٍ إلى حينٍ في لبنان. فهي ليسَتْ عوارِضَ مرضٍ حقيقيٍّ وعميق، إنما هي، في نظرةٍ موضوعيةٍ وعاقلة، حركاتٌ سطحيةٌ مُصطَنَعةٌ يفتعِلُها محرِّضون اختصاصيون يَتلطَّوْنَ وراءَ الدينِ لِتحقيقِ مصالحِهم الخاصَّة. والدليلُ أَنَّ المسألةَ الطائفيةَ لا تطفو على السطحِ إلا عندَ توزيعِ الوظائفِ والمَناصِبِ والأموالِ العامَّة. وهذا ما يَفْرِضُ إقامّةَ المُعادَلةِ الطائفية، ليسَ دفاعاً عن المُعتقداتِ والمُمارساتِ الدينيةِ التي لا يُمكِنُ أَنْ تكونَ موضوعَ جدَلٍ، بل لأنها، في غيابِ الأحزابِ المنظمة، تؤمِّن الحريةَ والعدالةَ السياسِيّتَيْن، مُقيمَةً التَّوازنَ بينَ الطوائف.
فاليومُ هو مِثلُ البارحةِ والغدِ، والأَطماعُ الخارجيّةُ والنزاعاتُ الدولية، وموقعُ لبنانَ الجغرافي، وطَبْعُ سكّانِه الحُرِّ وتعقيدُ نزاعاتِهم المُتشابِكة، وأخيراً الجهودُ المشتركةُ والمستمرَّة، الضروريةُ لدَعْمِ استمرارِ الكِيان، هذه الأمورُ كلُّها تفرض دوماً على اللبنانيين الوحدةَ في الحِكمةِ والتسامُح.
رأى جواد بولس أَنَّ السياسةَ الرشيدةَ هي نتيجةُ الاخْتِبار، وما اختبارُ الفردِ بشيءٍ يُذْكَرُ بالنسبةِ إلى اختبارِ الكثيرِ من الأجيالِ البشريةِ التي سَبَقَتْنا في هذه الرُّبوع. إنَّ مَنْطِقَ الحياةِ لا يَتوافَقُ دائما مع منطِقِ العقلِ المُجَرَّد. فالتاريخُ هو سياسةُ الماضي، وسياسةُ الحاضرِ هي تاريخُ المستقبل.
إنَّ هذا المُنطلق، المُسْنَدَ على حقيقةٍ تاريخية، مهمٌّ إن أرَدْنا أن ننظُرَ إلى المستقبل. فكلُّ محاولةٍ لنَقْلِ مجتمعٍ من حُضْنِ حضارةٍ إلى حُضْنِ حضارةٍ أخرى، سيُلاقي الفَشَل. وفي ذلك تحذيرٌ لِمَنْ يعتقدُ أنَّ بإِمكانِه أَخْذَ لبنان وكلِّ الهلالِ الخصيبِ إلى المحيطِ الحضاريِّ لإيرانَ اليوم أو إلى المحيطِ الحضاريّ لِشبه الجزيرةِ العربية. إنّ الجُهودَ المبذولةَ لِنَقْلِ المجتمعاتِ من حضارةٍ الى أخرى لن تنجحَ أبداً، والبلدانُ ستَجْتمِع حولَ الدولِ الرَّكيزية. التحدّي الذي يواجهُنا هو أن نتفادى إلحاقَنا بمحاورَ مُماثِلةٍ اليوم. تلكَ هي الفكرةُ الجوهريةُ لإعلانِ بعبدا.
الخيارُ الوحيدُ الذي يخدُمُ مصلحتَنا هو التَّجذُرُ في هُوِّيَتِنا اللبنانيةِ معَ الاستفادةِ مِنْ العطاءاتِ الحضاريةِ لِدُوَلِ الجِوارِ كمصر وتركيا وإيران والحضارةِ العربيةِ المتأصِّلةِ في شبه الجزيرة، فنصقُلُها كلّها ثمّ نذوِّبُها في شخصيتِنا اللبنانية من دونِ أنْ نذوبَ فيها.
وفي ضوءِ نزعةِ اللبنانيِّ إلى الحريّةِ والاستقلاليَّةِ يجِبُ النظرُ إلى وضعِ لبنانَ ودورِه في عصرنِا هذا. نحن اليومَ نرى أنّ التَّحديثَ لم يَعُدْ يتطابقُ مع الغربنة، ولا هو يُؤدّي الى تغريبِ المجتمعاتِ اللاغربيّة، وبالتالي لا يُمْكِنُ لبنانَ التقولب بِقَالَبِ الغربِ المُرْتكِزِ على الفَرْدانيّةِ والعلْمنة، بل عليه تطويرُ نَموذَجِه الخاصِّ المُسْتنِدِ على تجربتِه التاريخيةِ في المنطقة.
نحن وراءَ هذه الفكرةِ المُدهِشةِ، خصوصاً وأنها ليسَتْ جديدةً، بل هي قديمةٌ مِنْ عمرِ جبالِ لبنان. مِنْ عمرِ أقدمِ شجرةِ أرز. مِنْ عمرِ الحضارةِ في هذا الشرقِ الروحانيّ. فكرةُ أنَّ الجماعاتِ المتديّنةَ قادرةٌ على العيشِ معاً بِموجَبِ ميثاقٍ سياسيٍّ لا يَحولُ دونَ تأكيدِها الهُوِّيَةَ الطائفيةَ لِكُلٍّ منها، حتى ضمنَ الحقلِ العام، لكنَّها تسمحُ أيضاً بتحقيقِ المساواةِ في ما بَيْنَها، لأنَّها توافقَتْ على توزيعِ اللامساواةِ بِالتَّساوي بناءً على اتفاقٍ مُشترَكٍ وليس إكراهاً. بالتوافقِ وليسَ بالإكراه. قد تكونُ هذه الفكرةُ، بقدرِ ما كانَتْ عليه الأبجدية، هديَّتَنا الى عالَمِ اليوم.
يَشْهَدُ الإسلامُ اليومَ أَوْجَ توسُّعِهِ الديموغرافي مع ما يترتّبُ على ذلكَ مِنْ عواقبَ مُخِلَّةٍ بالاستقرارِ في الدولِ المسلمةِ وجيرانِها. قد يميلُ بعضُ المفكرين الجغراسياسيين الى الاعتقادِ أَنَّ مواجهةَ هذا التوسُّعِ هو بالتحفيزِ على زَجِّ الفُرْقَةِ بينَ مذاهبِه وزجِّ عناصرِه المتطرّفَةِ في حروبٍ دينيةٍ تُفْضي إلى تدمير قوّتِه. أقولُ للسنّةِ والشيعةِ في لبنانَ إِنّهُم في حال انغَمَسوا في هذه اللعبةِ سيخسرون جميعاً. سيتقاتلون وصولاً إلى التعبِ والإنهاكِ والإفلاس. وإن كانت هذه هيَ الحال، أعتقِدُ أنّ للطوائفِ غيرِ المسلمة، الى جانبِ كونِها شاهدةً على إيمانِها، دوراً مُهمّاً تلعبُه في سياقِ مواجهةِ صعودِ التياراتِ الدينيّةِ المتطرّفةِ وأحزابها، وذلك للمحافظةِ على العيشِ المشترَكِ الذي لا يمكنُها أَنْ تَضْمَنَ استمراريَّتَها بدونِه. العيشُ المشتركُ هو كابوسُ الأصوليين ولكنّه أيضا كابوسُ أولئِك الراغبين في إشعالِ الفِتَنِ بينَ مختلَفِ أجناسِ المتطرفين الدينيّين لأنّهم يَرَوْنَ في ذلك خَطَأً، حمايةً لأَنفُسِهِم.
إِستمرارُ لبنانَ رَهْنٌ بتأكيدِ اللبنانيين هُوِّيتَهم اللبنانية. لا يعني ذلك العُدولَ عن هُوِّيَتِهم العربيةِ كما قد يعتقدُ البعضُ، بل العمل على استيعابِها. وليسَ مِنْ خلالِ رفضِ التأثيرِ الفارسيِّ كما قد يرغبُ فيه البعض، بلْ مِنْ خلالِ دَمْجِه. وليسَ بإدارةِ ظهرِنا لِلْغَرْبِ المُرتَبِكِ، بل بالسَّماحِ لتأثيراتِه الثقافيةِ بالتَّسَرُّبِ عَبْرَنا كالتيّارِ الذي يَعبُرُ المياهَ فَنَنْتَقي مِنْه ما يُغذّينا ونَدَعُ أوساخَه تنجرِفُ في المياه.
التحدّي الذي نواجهُه للتعبيرِ عَنْ هُوِّيَتِنا الثقافيةِ كَلُبنانيين على اختلافِ طوائفِنا، هو أَنْ نُحِبَّ ما نحنُ عليه مِنْ دونِ أنْ نكرهَ ما لَسْنا عليه. ففي حينِ يمكنُ لِكلِّ فَرْدٍ التشديدُ على عناصرِ هويتِه الثقافيةِ الأكثرِ التِحاماً بمعتقداتِه، يجبُ أنْ نَفْهَمَ أن هويتَه تَشتملُ على عناصرَ ملتحِمةٍ بالقَدْرِ نَفْسِه بمُعْتَقَداتِ الطوائفِ الأخرى.

*نائب سابق