اياد ابوشقرا: حتى في الديمقراطيات العريقة الراديكالية بخير/عبد الرحمن الراشد: للذين بشروا بالتغيير

411

 للذين بشروا بالتغيير..
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/16 آب/15

الخلط بين الاستنتاج والحقائق ينتج الخرافات، مثل الأخبار التي انتشرت أخيرًا عن تبدلات موعودة في المنطقة. قيل إنها فرجت في سوريا، وإن روسيا بدّلت موقفها من إيران ولم تعد تتمسك بالرئيس بشار الأسد، وإن تراجع الحوثيين في اليمن جاء ضمن صفقة مع إيران، وإن السعودية تخلت عن المعارضة السورية وتصالحت مع الأسد، وإنه صار بوسع اللبنانيين أن يعينوا رئيسا للجمهورية بعد التفاهم الأميركي الإيراني، وإن الموقف الجديد لرئيس وزراء العراق من ضمن حزمة مصالحات خليجية إيرانية، وإن السعودية مالت إلى حماس، وتخلت عن دعم حكومة السلطة الفلسطينية.
حتى الآن لا يوجد دليل واحد ملموس على حدوث أي من هذه التغيرات الكبيرة، ولا أتصور أن هناك تبدلات كبيرة ستحدث سياسية أو عسكرية كبيرة.
الخطأ من الذين تعجلوا بقراءة النشاط السياسي الذي ارتفعت وتيرته خلال الأسابيع القليلة الماضية. اندفعوا يبشرون في تحليلاتهم بأن القوى الإقليمية والدولية قررت أخيرًا حسم الأوضاع المعلقة بالتصالح، في سوريا واليمن والعراق ولبنان والخليج.
والمشكلة أن بعضنا كثيرًا ما يخلط بين المعلومة والتحليل، بين الخبر والرأي. مثلاً، لقاءات وزير الخارجية الأميركي مع وزراء المجموعة الخليجية لا تعني بالضرورة حدوث تبدل في الموقف من سوريا.
أما تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عن رغبة طهران في التعاون والتصالح مع دول الخليج، إلى الآن هي مجرد تصريحات بلا برنامج. وقد لا تتعدى كونها استجابة لرغبة أميركية بأن تبدي إيران روحًا إيجابية مع خصومها الخليجيين حتى يتوقفوا عن انتقاد الاتفاق النووي. والوزير ظريف لم يطرح شيئًا محددًا ولا نرى سوى حركة دبلوماسية، بما فيها مساعي قطر وسلطنة عمان للمصالحة مع إيران. فلا الإيرانيون ينوون التخلي عن سوريا أو العراق، ولا التعاون من أجل حل خلاف المناصب في لبنان، الذي يعتبر أمرًا سهلاً. أما اليمن فإن التحسن السياسي جاء نتيجة للتقدم العسكري، بتحرير عدن وإلحاق الهزيمة بالمتمردين، ولا علاقة له بموقف طهران السياسي.
وأهم دليل ينفي الإشاعات هو تصريح وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في موسكو بأن المملكة لا تقبل أبدًا بحل يُبقي على الأسد رئيسًا، قالها صريحة وهو جالس بجوار وزير الخارجية الروسي، الذي هو بدوره استمر على موقفه المضاد للموقف السعودي. أما الخبر الصاعق، زيارة المسؤول الأمني السوري لمدينة جدة، فالمفترض أن يقرأ في إطار الاتصالات المقبولة بين الخصوم. ولو أن الحكومة في دمشق عرضت تقديم حل جديد من الطبيعي أن تستمع إليه السعودية، لكن ليس بالضرورة أن تقبل به. وكذلك زيارة خالد مشعل زعيم حماس في المنفى إلى السعودية، فهي لا تعني تغييرًا في موقف الرياض. الموقف مبني على أسس قانونية ومصالح سياسية واضحة. الشرعية هي السلطة الفلسطينية، أما من في غزة فتعتبر «حكومة مقالة». والمصلحة السعودية في الشأن الفلسطيني هي في دعم السلطة الشرعية، والتعاون مع دول المنطقة، وتحديدًا مصر. وما يشاع بأن إيران غاضبة من التواصل بين الرياض وغزة هو مجرد دعاية حمساوية لتحفيز السعوديين على العلاقة معهم، والأرجح العكس. إيران هي من لا تريد علاقة مع حماس في ظل سعيها لتمرير الاتفاق النووي وتخفيف معارضة إسرائيل له، وتتمنى طهران، التي تلقب سابقًا بمحور الشر، أن ترى الرياض تحل محلها، أن تصبح دولة تتعاون مع التنظيمات المكروهة دوليًا، فتكون السعودية معسكر التطرف وإيران معسكر الاعتدال!
وعودة إلى الحديث عن ارتفاع بورصة التخيلات بأن منطقة الشرق الأوسط تمر بتغيرات جوهرية، الأمر الجديد الأكيد الوحيد هو الاتفاق الإيراني الغربي، لكننا لا ندري كيف سيؤثر على المنطقة لاحقًا، إيجابًا أو سلبًا.
القضايا الخلافية بين دول المنطقة عميقة، وليست مجرد نوازع شخصية. ففي سوريا نظام منهار، وتنظيمات إرهابية إيرانية وأخرى معادية، وحرب منتشرة في أنحاء البلاد من الزبداني إلى درعا. وفي اليمن حرب على أشدها، حررت عدن، وصارت عاصمتها صنعاء على وشك أن تحاصر. كما أن الوضع في العراق لا يزال مشتعلاً، الاقتتال يدور يوميًا في الغرب، وربع العراق لا يزال تحت احتلال تنظيم داعش.
هذه نزاعات حقيقية تحتاج إلى ما هو أكثر من زيارات دبلوماسيين وتخيلات صحافيين، ولن تقع تغييرات في المواقف دون أن نرى أثرها على الأرض.

 

حتى في الديمقراطيات العريقة.. الراديكالية بخير
اياد ابوشقرا/الشرق الأوسط/16 آب/15
لفت المراقبين خلال الأسابيع الأخيرة تألق الملياردير اليميني الأميركي دونالد ترامب والسيناتور اليساري العجوز بيرني ساندرز خلال الحملة التمهيدية الحالية لاختيار مرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي يتقدّم المرشح جيريمي كوربن مرشح أقصى اليسار كوكبة المتنافسين على زعامة حزب العمّال البريطاني. ولئن كانت السنوات القليلة الفائتة قد شهدت، بالفعل، بروزًا مقلقًا لقوى اليمين المتطرّف – الذي كان هامشيًا في يوم من الأيام – على امتداد أوروبا، فإن عمق الأزمة الاقتصادية في اليونان جعل الناخبين اليونانيين يسلّمون الحكم لحزب يساري راديكالي حديث التأسيس.
في أميركا، لا يبدو بروز مرشح يميني متشدّد بين المرشحين الرئاسيين الجمهوريين لسببين رئيسيين:
الأول، أن الحزب الجمهوري ككل اتجّه باطراد منذ عدة سنوات نحو اليمين المحافظ، ولا سيما، مع تثبيت جماعة «حفلة الشاي» المتشدّدة حضورها في قواعده. وحاليًا يشكل التيار اليميني المحافظ، دينيًا واجتماعيًا، القوة الأكبر تأثيرًا وحضورًا ونفوذًا في معركة اختيار مرشح الحزب الرئاسي المقبل.
والسبب الثاني، أن الجمهوريين متحمّسون اليوم لإلحاق الهزيمة بتيار ديمقراطي مُغالٍ في «ليبراليته» قاده باراك أوباما لفترتين رئاسيتين، يشكل فعليًا النقيض الآيديولوجي لليمين الجمهوري. وفي أعقاب تحقيق أوباما عدة انتصارات سياسية على صعيد البرامج الاجتماعية والمعيشية، يرى الجمهوريون أن إخفاء إدارة أوباما تفاصيل اتفاقها النووي مع إيران، وتحمسّها في تسويقه.. على الرغم من شكوكهم واعتراضاتهم، قد يوفّر لهم فرصة للثأر من الديمقراطيين المنساقين انسياقًا وراء الاتفاق.
غير أن المشكلة الحالية عند الجمهوريين هي أن المرشح الذي يحقق التقدم الأكبر في استطلاعات الرأي ليس من نسيج الساسة التقليديين، بل هو رجل الأعمال الملياردير دونالد ترامب المثير للجدل في مزايدته على الساسة واستهانته بهم. واللافت معه تخليه عن التحفظ والوقار اللذين يحرص الساسة التقليديون عليهما لـ«حفظ خط الرجعة» تحاشيًا لاستعداء الأجنحة المنافسة داخل الحزب عند الوصول إلى المؤتمر الوطني العام حيث يصار إلى اختيار المرشح الرئاسي.
حتى الآن، وسط مجموعة متنوّعة من المرشحين الجمهوريين المؤهلين لمنافسة المرشح الديمقراطي (أو المرشحة الديمقراطية) في خريف العام المقبل، يثير ترامب اهتمام الناس لقوله ما لا يجرؤ السياسي العادي على قوله، وهذا بالضبط ما يميّزه. ويبدو أن الناس يريدون سماع شيء جديد. يريدون خطابًا جديدًا.. بعدما اعتادوا على أدبيات قادة الحزبين الكبيرين، اللذين تبعًا لطبيعتهما المؤسساتية في بيئة ديمقراطية تقوم على فصل السلطات وتداول الحكم، يدركون أنه لا بد لهم من «التعايش» و«المساكنة» مهما ارتفع سقف الاعتراضات والإدانات.
شيء مشابه إلى حد ما «بطله» بيرني ساندرز في سباق الديمقراطيين. ساندرز أيضًا حالة استثنائية. وهو وإن كان سياسيًا بامتياز فهو حتمًا ليس تقليديًا على الإطلاق.
ولد ساندرز في مدينة نيويورك قبل 73 سنة في عائلة يهودية. وبعد دراسته فيها ثم في جامعة شيكاغو حيث التحق بـ«رابطة الشباب الاشتراكيين» ونشط في حركة الحقوق المدنية وغيرها من حركات السلام، انتقل عام 1968 للعيش في ولاية فيرمونت الريفية التي تعد إحدى أصغر ولايات أميركا من حيث عدد السكان. وفي فيرمونت – الشهيرة باستقلاليتها السياسية – شقّ ساندرز طريقه داخل عالم السياسة الانتخابية، فانتخب عام 1981 بأصوات «حزب فيرمونت التقدمي» عمدة لمدينتها الرئيسية برلينغتون. وبعد انتخابه للمنصب ثلاث مرات انتخب عام 1990 عضوًا مستقلاً في مجلس النواب الأميركي شاغلاً مقعد الولاية الوحيد في الكونغرس. وبعد 16 سنة أمضاها في الكونغرس، دخل عام 2006 مجلس الشيوخ الأميركي أيضًا شيخًا مستقلاً على يسار الديمقراطيين، وإن كان غالبًا يصوّت معهم. وعام 2012 أعيد انتخابه شيخًا بغالبية ضخمة تجاوزت 70 في المائة. وهو في معركته الرئاسية اليوم يشكل النقيض الآيديولوجي اليساري لـ«يمينية» ترامب الجامحة، إذ إنه ملتزم بقضايا كالعدالة الاجتماعية والضمان الصحي والنزاهة والحريات المدنية والجنسية، ويدافع عنها بشجاعة وصراحة. وهكذا، هنا أيضًا يتجاوب ساندرز مع مشاعر اليساريين والشباب، كما أنه يكسب ثقة الليبراليين، سواء أولئك الذين خاب أملهم من حكم أوباما وأسلوبه البارد، أو الراغبون في بديل عن «كلينتون آخر» في البيت الأبيض.
في بريطانيا، هزّت خسارة العمّال الانتخابات العامة الأخيرة ثقة الحزب بنفسه بصورة لم تخطر ببال أكثر المتشائمين من مناصري الحزب. والحقيقة أن العمّال حسّنوا في الانتخابات مواقعهم في إنجلترا وحصدوا مزيدًا من المقاعد، لكنهم انهاروا تمامًا في اسكوتلندا، حيث اكتسح الساحة القوميون الاسكوتلنديون الذين كسبوا الكثير من التأييد من معسكر اليسار الذي كان في الماضي يدعم العمّال.
غير أن ثمة وجهًا آخر لأزمة الحزب هي الأزمة الآيديولوجية بين تيار اليمين الذي استفاد من الواقعية التي أنتجتها هزائم العمّال بين 1979 و1997 أمام الثاتشرية المحافظة، وتيار اليسار الساخط على ما يراه آفات الانتهازية والمحسوبية والنفاق وحرب العراق التي جلبتها سنوات توني بلير. وفي أعقاب الهزيمة الانتخابية الأخيرة التي تعرّض لها الحزب تحت قيادة «الوسطي» إد ميليباند، ترشح اثنان من الوسط هما آندي برنهام وإيفيت كوبر، ومرشحة عن تيار بلير اليميني هي ليز كندال، في حين واجه اليساري الراديكالي كوربن صعوبة كبرى بجمع العدد الكافي من ترشيحات النواب لدخول قائمة المرشحين. وفجأة، بمزيج من الخفة والسذاجة، قرّر بعض النواب أن يؤمّنوا له العدد المطلوب ناسين أنه بمجرد اعتماده مرشحًا رسميًا يخرج زمام المبادرة من النواب وينتقل إلى النقابات والتنظيمات الحزبية المحلية والناخبين العاديين. وهذا بالضبط ما حصل.
الآن يتصدر كوربن المرشحين بفارق مريح. وثمة من يخشى أن يفوز منذ الجولة الأولى فيحوّل الحزب من «حزب سلطة» إلى «قوة اعتراض هامشية» عاجزة عن الحكم في المستقبل المنظور.
ما نراه دليلاً على ديناميكية الديمقراطية، لكنه أيضًا تحذير لقوى الحكم التقليدية بأن للشارع صوت اعتراض.. يستطيع استخدامه بفعالية ردًا على الخداع والاستخفاف والصفقات الفوقية.