حسام عيتاني: شعب الزبداني ضد شعب لافروف/راغدة درغام: قراءة في الحراك الديبلوماسي الجديد

255

 شعب الزبداني ضد شعب لافروف
حسام عيتاني/الحياة/14 آب/15

تنتهي بعد ساعات الهدنة بين مقاتلي المعارضة السورية في الزبداني وبين قوات «حزب الله» وجيش النظام السوري. الهدنة التي تفاوض ممثلون سوريون مع مندوبين إيرانيين عليها وجرى تمديدها الى 72 ساعة، تدخل فقط ضمن إجراءات بناء الثقة بين طرفين يدركان مدى تصميم كل منهما على عدم التراجع عن مطالبه وإصراره على المضي في السعي إليها حتى النهاية. وفي الوقت الذي كانت تجري المفاوضات في تركيا، رأى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن «الشعب السوري وحده من يقرر بقاء بشار الأسد» في منصبه وأن أولوية هذا الشعب اليوم هي «مكافحة الإرهاب». قول شيء وقصد شيء آخر من ثوابت السياسة في هذا العصر. ومن غير المجدي تتبع المعاني التي يقصدها لافروف أو نظراؤه من سياسيي النظام السوري. الصدق ليس من مهمات وزراء تلوثت أيدي حكوماتهم ودولهم بدماء مئات الآلاف من القتلى المدنيين الذين يشكلون جزءاً من «الشعب» الذي أشار لافروف إليه.
مع ذلك المسألة ليست هنا، بل في رؤية مسؤولين إيرانيين يفاوضون مباشرة ممثلي المقاتلين الذين يدافعون عن بلدة شبه مدمرة يريد الإيرانيون الاستيلاء عليها بأي ثمن لهدف لا علاقة لمصالح «الشعب» السوري به. فينهض السؤال عما يريده حقاً هذا الشعب الذي يقاتل قوات النظام المدعومة من المسلحين اللبنانيين والعراقيين والأفغان والمستشارين العسكريين الإيرانيين، على ما تظهره الحقائق الميدانية من جهة، ويتمسك بنظام بشار الأسد على ما تقول تصريحات الوزير الروسي من جهة ثانية.
وليست هي المرة الأولى التي يفاوض الإيرانيون المقاتلين السوريين مباشرة. فقد تولوا تنظيم وضمان خروج مقاتلي المعارضة من حمص القديمة في 2014، بعدما أحال المسؤولون السوريون الوسطاء من أهل المدينة إلى السفارة الإيرانية في دمشق كمركز للعمليات في حمص وحيث يصدر القرار العسكري والأمني منها. ولم يكن الأمر سراً ولا مغفلاً بل إن الصور كانت تلتقط للضباط الإيرانيين وهم يقفون قرب المقاتلين المغادرين ونشرت وسائل الإعلام تلك الصور.
بهذه الصراحة أدار الإيرانيون معركة حمص. وبهذه الصراحة يديرون القتال في الزبداني. ثمة مصالح لهم في سورية منها إبقاء طريق دمشق– الساحل مروراً بحمص مفتوحة، وهو ما سعوا إلى تحقيقه في 2014، ومنها أيضا الحفاظ على طريق دمشق- بيروت في أيديهم إضافة إلى «غلاف لبنان»، أي المناطق السورية المحيطة بالحدود اللبنانية. لا يهمهم في ذلك إذا قتل آلاف السوريين من «الشعب» أو مئات المسلحين من حلفائهم في «حزب الله». العقل الاستراتيجي الإيراني البارد الذي توصل الى الاتفاق النووي في فيينا، لا يبالي بهذه التفاصيل.
تتغير في هذه الصورة تعريفات «الشعب». فيصبح المفاوض الإيراني في تركيا والمسلح اللبناني في الزبداني هما التجسيد الحقيقي للشعب السوري، وينقلب ابن بلدتي الزبداني وداريا وحي جوبر وغيرها الى ممثل لـ «الإرهاب» الذي وضع «الشعب» مكافحته في قمة أولوياته.
بهذا المعنى ليس الشعب تلك الكتلة السكانية التي انتفضت منذ أربع سنوات ونصف مطالبة بالكرامة والاعتراف بإنسانيتها وبحقها في التعبير عن نفسها، بل هو من يملك القدرة على الحفاظ على نظام بشار الأسد. يختفي هنا شعب الزبداني ويحضر بديلاً منه المفاوض الإيراني كممثل حقيقي لشعب يحدد هويته لافروف وأشباهه.

 قراءة في الحراك الديبلوماسي الجديد
راغدة درغام/الحياة/14 آب/15

أفكار نقل سورية إلى عتبة جديدة تتكاثر وتتناقض وتتلاقى، إنما آليات تحقيق الانتقال ضئيلة وتبقى رهن التفسيرات والأولويات والتحالفات المختلفة. سورية اليوم هي السوق المفتوحة على التصعيد باسم التوافق على سحق «داعش». وعلى رغم الجديد في المقاربة النظرية، ما زالت سورية المقبرة الفعلية لجميع الأطراف الفاعلة ميدانياً. روسيا، حليف النظام السوري، باتت مكلفة بقيادة العملية السياسية بينما إدارة أوباما تنشغل بتسويق «الاتفاق النووي» في الكونغرس، إنما الاختلاف مستمر بين واشنطن وموسكو حول كيفية القفز على «عقدة الأسد». القاسم المشترك بين المبادرة الروسية والمبادرة الإيرانية ومبادرة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، هو القفز على العملية السياسية المتفق عليها دولياً، والمتمثلة بإنشاء هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات واسعة. الأطراف الثلاثة (موسكو وطهران ودي ميستورا) تريد من الدول الخليجية المعارضة للتمسك بالأسد أن تقوم بالانقلاب على مواقفها عبر القفز على «عقدة إيران». تريد منها الموافقة على دور مركزي لإيران في الحل بسورية وعلى أساس مرجعية بديلة لمرجعية جنيف تتفق عليها عملياً الأطراف الثلاثة. وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أوضح موقف الرياض الرافض بقاء الأسد، لكنه أجرى مع نظيره الروسي سيرغي لافروف مباحثات في موسكو هذا الأسبوع لم تنحصر في المسألة السورية بل تعدتها إلى اليمن والعراق والعلاقة الثنائية. وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف زار لبنان ودمشق وسيتوجه إلى موسكو –وربما أنقرة أيضاً– للطمأنة والدعوة إلى الحوار. النقاط الأربع في المبادرة الإيرانية هي وقف النار في سورية، حكومة وحدة وطنية، تعديل الدستور بما يضمن حقوق الأقليات والإتنيات، وانتخابات بوجود مراقبين دوليين. هذه المبادرة انقلاب على مرجعية جنيف ذات النقاط الست التي كانت طهران واضحة منذ البداية بعدم موافقتها عليها، والسبب تمسّك طهران بالأسد ورفض فكرة استبدال حكمه بهيئة حكم انتقالية.
لدى النظرة الخاطفة على النقاط الأربع يمكن القول إن هذه مبادرة معقولة. عند التدقيق في الوقف الفوري للنار، يسأل البعض إن كان في ذهن طهران إضفاء الشرعية على الميليشيات التي صنعتها في سورية، يسأل البعض الآخر: ماذا يعني وقف النار الفوري ما دام «داعش» مستبعداً منه؟ تلك «الحكومة الوطنية الموسعة» هي لغة الانقلاب على «هيئة الحكم الانتقالية» ذات «الصلاحيات الواسعة». إنها وسيلة القفز التام على بيان جنيف1 وعملية جنيف2.
طهران تريد تعديل الدستور بما يضمن حقوق الأقليات والإتنيات، ما أعاد إلى الأذهان «اتفاق الطائف» الذي نظّم حصص الحكم في لبنان. هذا له معنى أبعد، عنوانه أن إيران تنصب نفسها راعياً لتعديل الدستور في سورية.
الأهم أنه عبر المبادرة الإيرانية والمبادرة الروسية ومبادرة دي ميستورا يتم نصب إيران جزءاً أساسياً من الحل في سورية بالتوازي مع الإطاحة بمبادئ جنيف. بكلام آخر، إن المبادرات الثلاث مبنية على مرجعية بديلة لمرجعية جنيف، وعلى دور أساسي لإيران، مع تلبية شرطها الإطاحة بهيئة الحكم الانتقالية، ومبنية على القفز على «عقدة الأسد» عبر حذف المطالبة بإزاحته، إما قبل أو بعد العملية الانتقالية، وكل ذلك تحت عنوان «سحق داعش»، والحل السياسي.
موسكو ترى أن بقاء النظام السوري ضروري لسحق «داعش»، وأن إزاحة الأسد ستؤدي إلى انهيار النظام، وبالتالي ترى أن الحل السياسي في سورية يجب أن يتم ببقاء الأسد –ولو لفترة انتقالية فقط– ريثما يتمكن النظام من استعادة قواه لتحقيق سحق «داعش».
واشنطن ترى أن الحؤول دون انهيار النظام يتطلب إزاحة الأسد. لأن القوى الضرورية في المعركة ضد «داعش»، من تركيا إلى الدول الخليجية إلى المعارضة المسلحة المعتدلة، كلها لن ترضى بأن تسحق «داعش» لتدعم بقاء الأسد في السلطة. وبما أن الأوضاع الميدانية متدهورة في غير مصلحة النظام، ترى واشنطن أن إنقاذ النظام من الانهيار يتطلب من موسكو وطهران الاقتناع بأن لا مناص من إزاحة الأسد ولو تدريجياً. وهذا ما عبّر عنه الرئيس باراك أوباما الأسبوع الماضي.
طهران تتحدث عن الحل السياسي لكنها عملياً في خندق واحد مع دمشق في الإصرار على الحل العسكري، وهي ماضية فيه عبر «الحرس الثوري» وعبر «حزب الله»، فالنظام في دمشق يريد جر إيران إليه أكثر، لتعاونه ميدانياً وتوسّع مشاركة «حزب الله» في القتال.
في طهران يبدو أن شد الحبال بين الحمائم والصقور قد بدأ، وان لدى كل من الرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف الضوء الأخضر –حالياً على الأقل– من المرشد علي خامنئي بإرسال رسائل الطمأنة والاعتدال. يبدو أن لديهما صلاحية التحدث باسم الدولة التي تود التوصل إلى تفاهمات مع جيرانها. ما هو غير واضح بعد هو إن كان لدى «الحرس الثوري» صلاحيات، بالموازاة، للتحدث باسم الثورة في إيران. نتيجة شد الحبال ستنعكس بالتأكيد على سورية.
في هذه المرحلة، تزداد لغة الحلول السياسية، الإقليمية والدولية، فيما يستمر القتال والتسليح. تزدحم المبادرات، وهناك كلام عن إجراء محادثات بين الدول الخمس الكبرى والقوى الإقليمية تضم مصر وإيران وتركيا. هناك كلام عن «مجموعة اتصال» خماسية تضم الولايات المتحدة وروسيا مع السعودية وإيران وتركيا. روسيا تريد مطالبة «كل أطراف» النزاع في سورية بمحاربة الإرهاب عبر بيان رئاسي لمجلس الأمن.
فقد استطاعت موسكو إقحام لغة جديدة في ما يصدر من مجلس الأمن في الشأن السوري، ونجحت -عبر سماح الولايات المتحدة لها بذلك– في إقحام فقرة داخل البيان نصت على أن مجلس الأمن «يجدد تأكيد عزمه على معالجة كل عوامل التهديد الإرهابي في سورية. ويدعو كل الأطراف إلى التزام إنهاء الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيما داعش والنصرة وكل الأفراد والمجموعات الأخرى والكيانات المرتبطة بتنظيم «القاعدة». لم تطرح الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية أي لغة تتعلق بدور «حزب الله» في القتال بسورية أو استخدام النظام البراميل المتفجرة. كلها رضخت أمام وضع روسيا مكافحة إرهاب «داعش» و «النصرة» و «القاعدة» قبل تطبيق «جنيف– 1».
وسعت فينزويلا حليفة موسكو في مجلس الأمن إلى الإطاحة بنص في مشروع البيان الرئاسي يدعو إلى «تطبيق بيان جنيف1، بما فيه تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة»، وقالت إن تلك الفقرة «لا تأخذ في الاعتبار موقف الحكومة السورية»، وإن «تشكيل هذه الهيئة غير دستوري ويتجاوز النظام القانوني في سورية». وهي بمواقفها تلك، كشفت حقيقة المواقف الروسية وليس فقط المواقف الإيرانية والسورية المعهودة.
الجديد هو اللغة الجديدة في العلاقة الأميركية– الروسية في الشأن السوري حيث كانت العلاقة في البدء تصادمية ثم تهادنية ثم قامت على غسل الأيدي الأميركية من سورية وتركها ميداناً مفتوحاً لما تريده موسكو. اليوم، هناك خطب ودٍ متبادل بين الطرفين، على مستوى الرئيسين، عبر النافذة السورية، بعدما استعادت العلاقة الأميركية– الروسية حميميتها عبر البوابة الإيرانية في الاتفاق النووي. وهكذا عاد الثنائي سيرغي لافروف وجون كيري إلى الابتسام والعناق والشراكة في المواقف، ولذلك أطلقا معاً مبادرتهما الديبلوماسية مع دول مجلس التعاون الخليجي في الدوحة الأسبوع الماضي.
استطراداً للقاء الدوحة، بدت ملامح توافق روسي– سعودي على عدة ملفات خلال لقاء عادل الجبير مع سيرغي لافروف في موسكو، إنما استمر الافتراق في الشأن السوري، تماماً بسبب «عقدة الأسد» و «عقدة جنيف» معاً. اتفقا على سحق «داعش» واختلفا على مصير الأسد.
المحادثات السعودية الروسية في الشأن الإيراني تعدّت الاتفاق النووي ودخلت في تفاصيل الأدوار الإيرانية في سورية والعراق ولبنان واليمن. لافروف تعمّد تقنين الحديث العلني في سورية في مكافحة الإرهاب. والجبير أصر على ان «لا مكان للأسد في مستقبل سورية» وأنه «جزء من المشكلة وليس من الحل». أوضح موقف الرياض من دعوة فلاديمير بوتين إلى إنشاء تحالف إقليمي لمحاربة «داعش»، وقال إن الرياض لن تشارك في تحالف تكون السلطة في دمشق جزءاً منه، لأن «قوات الأسد ساعدت في تعزيز مواقع تنظيم داعش».
في الشأن العراقي واليمني والليبي، لفت الوزيران إلى أن هناك تزايداً في الاتفاق بينهما حول الملفات الثلاثة، وهذا مبشّر. إنما ليس واضحاً بعد إن كانت موسكو راغبة أو قادرة على التأثير في المواقف والأدوار الإيرانية في اليمن مثلاً، أو إن كانت جاهزة للخوض في موضوعي العراق وليبيا بصورة مكثفة. فموسكو منصبّة على مسألة الإرهاب، سورية أولوية من أولوياتها، علاقتها مع إيران تحالفية، وهي فرحة بعلاقاتها الحالية مع إدارة أوباما.
موسكو تريد أيضاً توقيع اتفاقات التعاون العسكري مع دول المنطقة ومن بينها السعودية وتعرف تماماً أن التعاون العسكري مع مصر تغطي تكاليفه الدول الخليجية.
تريد الديبلوماسية الروسية مواصلة الحوار مع الديبلوماسية السعودية وتريد فتح حوارات أخرى عن ترتيبات أمنية في الخليج تشملها وتشمل إيران.
المهم ليس فقط ما تريده موسكو وطهران في سورية ومن الدول الخليجية. والمهم لا يتوقف عند ما تريده واشنطن، وهي تنفتح على طهران وتوكل إلى موسكو إدارة الحلول الإقليمية. المهم أن حلحلة ما في حراك ديبلوماسي بدأت وهي في حاجة إلى قراءة معمقة بين السطور لأن اللغة الروسية– الفارسية– الأميركية الجديدة محنّكة، ولأن المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا زاد الغموض بإضافة التنميق الإيطالي على الحنكة الإنكليزية– الفارسية– الروسية المبطنة.