جورج سمعان: سورية إلى محاصصة والأسد على خطى صالح/غسان شربل: ويلات حرب وخيبات سلام

265

سورية إلى «محاصصة» والأسد على خطى صالح ؟
جورج سمعان/الحياة/03 آب/15
الأزمة السورية أمام مزيد من التطورات هذا الأسبوع. وزير الخارجية الأميركي سيلتقي في الدوحة نظيره الروسي سيرغي لافروف. ويجري الوزيران محادثات مع نظرائهم الخليجيين في شأن تحريك التسوية السياسية والرؤية التي اقترحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا. إلى جانب وسائل تفعيل الحرب على «الدولة الإسلامية». ويتوقع أن تطرأ معطيات جديدة على التحرك العسكري التركي شمال سورية وفي الحملة على حزب العمال الكردستاني. حتى الرئيس بشار الأسد لم يبق خارج المرحلة الجديدة في هذه الأزمة. اعترافه بالمتاعب والعقبات التي تعترض مشروعه للحسم العسكري يستدعي منه بالمبدأ والمنطق إعادة النظر في خياراته. فما يواجهه جيشه ليس جديداً. الجميع يعرف أن قواته التي تخوض القتال في أكثر من ستين جبهة باتت منهكة. وأعداد المتخلفين عن خدمة العلم في الساحل لا تقل عنها في باقي المناطق. بينما يقود العمليات في الميدان قادة لا رابط بينهم سوى المزيد من الغرق في الفساد واقتسام مناطق النفوذ. تحللت المؤسسة ولا قيادة أركان عامة لإدارة القتال. وينشط «حزب الله» في تجنيد مزيد من الشباب السوري الذي يتلقى رواتب أفضل وتدريباً جيداً… على طريق إنشاء جيش بديل على غرار ما في العراق واليمن ولبنان. وهذا ما يجعل الجمهورية الإسلامية تشعر بالعبء الكبير الذي يرتبه عليها استمرار الحرب في بلاد الشام.
إلى هذا الوضع العسكري المزري، هناك موقف تركيا التي دخلت مبدئياً الحرب على «داعش» بعد تفاهمها مع الولايات المتحدة. وستتقدم قريباً نحو ترجمة هذا الاتفاق بإقامة المنطقة الآمنة التي يفترض أنها ستكون بطول 140 كيلومتراً وعمق نحو أربعين كيلومتراً. وهناك أيضاً المكاسب التي لا تزال فصائل المعارضة تحققها في شمال البلاد وجنوبها. هذه التطورات الميدانية يجب أن تكون كافية لإقناع النظام في دمشق بوجوب الاستعداد للقبول بشروط التسوية السياسية على قاعدة لا أولوية فيها لملف على آخر. المبعوث الدولي الذي يدرك أهمية التركيز الدولي على محاربة الإرهاب. لذلك ربط هذه الأولوية ونجاحها بوجوب التغيير السياسي في سورية. أي أن الخطة ستسير في الملفين العسكري والسياسي معاً. وإذا لم يقتنع، فإن القوى التي تستعجل التسوية من أجل التعجيل في احتواء «الدولة الإسلامية»، وهي كثيرة ولا تقتصر على أميركا وشركائها الغربيين، قد تمارس ما يكفي من ضغوط على الأرض لإرغام دمشق على القبول والرضوخ. يكفي أن تقوم منطقتان آمنتان من دون إعلان رسمي في الشمال والجنوب ليدرك النظام وحلفاؤه أن خصومهم قادرون على إلحاق هزيمة أوسع بهم… على غرار ما يجري في اليمن.
القاعدة التي رفعها دي ميستورا واضحة: الحرب على الإرهاب تتطلب تغييراً سياسياً في سورية. هذا الإجماع على مواجهة الإرهاب، لا يعني أن النظام السوري نجح في صرف خصومه نحو التركيز على قتال «الدولة الإسلامية» و «النصرة». أو أنه لا بد من التعامل معه لضمان نجاح هذه الحرب. هناك نموذج العراق. لم يتحرك التحالف إلا بعد تغيير رأس الحكومة نوري المالكي الذي عُدت سياسته وسياسة حكومته سبباً من أسباب قيام «دولة أبي بكر البغدادي». وتوكأ التحالف الدولي على الجيش العراقي وعلى قوات البيشمركة للإمساك بالأرض التي يخليها «داعش». وبالطبع ما أخر ويؤخر الحرب على هذا التنظيم في سورية هو غياب القوة التي يمكن أن تمسك بالمناطق «المحررة». رمى التحالف بثقله لكسر الهجوم على كوباني. عدّ وحدات «حماية الشعب» في المدينة الكردية قادرة على صون المدينة من الإرهابيين. وتحول هذا نموذجاً، يريد المسؤولون الأميركيون تعميمه. يريدون قوة على الأرض شبيهة بالقوى الكردية سواء في العراق أو في سورية. والتعويل في هذا المجال على التحول التركي. التدخل العسكري لأنقرة لن يقتصر على ضرب حزب العمال الكردستاني. أولوية الرئيس رجب طيب أردوغان تختلف عن أولويات باقي أعضاء التحالف الدولي. هم يستعجلون التركيز على «داعش»، وهو يرى الأولوية لضرب حزب العمال، نظراً إلى انعكاسات ذلك على الأوضاع السياسية في الداخل التركي، سواء على صعيد المساعي لتشكيل حكومة ائتلافية أو التمهيد لانتخابات برلمانية جديدة يأمل حزب العدالة والتنمية أن يستعيد فيها أكثرية تؤهله لقيادة البلاد منفرداً. لكن أنقرة التي تلقت دعماً من واشنطن ومن حلف شمال الأطلسي، عليها عاجلاً مواجهة «داعش» إذا كانت جادة في توفير منطقة آمنة تخفف عنها عبء استقبال مزيد من اللاجئين، وتستجيب الحراك الدولي لتسوية سياسية. بالطبع لن تعول على العناصر التي تلقت تدريباً أميركياً. هؤلاء عددهم يكاد لا يذكر مقارنة بأعداد التنظيمين الإرهابيين وباقي الفصائل الإسلامية. وبات واضحاً أن حكومة أحمد داود أوغو اختارت تنظيم «أحرار الشام» قوة يعتد بها لإدارة المنطقة الآمنة. وروجت هذه لنفسها في الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية قوة اعتدال يمكن الاعتماد عليها بديلاً يمسك بالمناطق الآمنة. وما الحرب التي تخوضها «جبهة النصرة» على باقي الفصائل في الشمال السوري سوى تعبير عن مخاوفها من نتائج الاتفاق التركي – الأميركي ومفاعيله على الأرض. لقد حاولت الجبهة طويلاً النأي بنفسها عن ممارسات «الدولة الإسلامية». وشهدت صراعاً داخلياً حقيقياً من أجل التوكيد على «سوريتها»، وبعدها حتى عن «القاعدة»، التنظيم الأم. وساعدتها في ذلك مواقف الدكتور أيمن الظواهري زعيم التنظيم. لكن قائدها أبو محمد الجولاني بدد تفاؤل المتفائلين بإمكان تلميع صورة الجبهة وتوكيد اعتدالها، في حديثه التلفزيوني الشهير إلى «الجزيرة» قبل مدة. لم يغادر خط «القاعدة». وهاجمت الجبهة أخيراً الفرقة 30 مشاة التي دربها الأميركيون كأنها تتحوط أو تستبق الحرب التي ستعلن عليها قريباً.
قيام المنطقة الآمنة قد يستغرق نحو ثلاثة أشهر. لن يستدعي الأمر تدخلاً عسكرياً تركياً على الأرض. سيكون الاعتماد على سلاح الجو، ويترك أمر الميدان للفصائل القريبة من أنقرة والرياض، وعلى رأسها «أحرار الشام». ويفترض أن تكون هذه الخطوة مقدمة لخطوة مماثلة في جنوب سورية بعد هدوء الصراع الخارجي على هذه الجبهة. ويفترض أن يواكبها أولاً وأخيراً تحرك سياسي جدي… وإلا تحول التدخل استنزافاً لتركيا، كما هي حال روسيا وإيران. لذا لم يكتف أردوغان بالتفــاهم مع الرئيس باراك أوباما. حظي في زيارته الأخيرة لبكين بدعم الصين. مثلما قرأ كثيرون صمت موسكو موافقة ضمنية على ما تقوم به حكومة داود أوغلو، ما دام الهدف ضرب «داعش» وليس قوات النظام السوري. ومعروف أن الكرملين، منذ تمريره القرار الدولي الذي شرعن حرب التحالف العربي في اليمن، يعطي فرصة واسعة للتفــاهم مع كل المعنيين من تركيا إلى دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية. وهو بات مقتنعاً بأن لا حل في ســــورية مع بقاء الرئيس الأسد. لكنه بالطبع سيحتفظ بهذه الورقة حتى اللحظة الأخيرة من التفاوض مع البيت الأبيض وشركائه الأوروبيـــين والعرب. القيادة الروسية تعي جيداً أن مصلحتها التي تعتمد على الحفاظ على المؤسسة العسكرية أصيبت بنكسة في هـــذا المجال. لم يبق إلا القليل من هذه المؤسسة يعتد به. إيران هي التي تتولى قيادة العمليات. وأنشأت، كما فعلت في لبنان والعراق واليمن، ميليشيا رديفة تقوم مقام الجيش، وتتمتع بتسليح وتدريب وتمـــويل تفتقر إليها القوى النظامية. فضلاً عن أن روسيا لا تريد أن تحتفظ وحيدة أو مع إيران ببلد أو بجزء منه تحتاج إعادة بنائه وإعماره إلى مليارات الدولارات. وهو ما لا طاقة لها على تحمله. وحتى إيران لن تقوى على المساهمة في هذا المجال. لذا ترى موسكو مصلحة ضرورية في التفاهم على تسوية سياسية مع أميركا وأوروبا ودول الخليج. فهذه وحدها قادرة على تمويل إعادة البناء والإعمار. روسيا إذاً معنية بالتسوية. وحتى إيران لن تكون بعيدة عن هذا التوجه، خصوصاً أنها ستكون مدعوة إلى «جنيف 3»، فضلاً عن الأعباء الجمة التي تتحملها في الساحة السورية. كما أنها لن تكون قادرة على مواجهة التدخل التركي مهما علت تحذيراتها. بل ربما طمحت إلى تقاسم بلاد الشام مع أنقرة. وهناك من يتوقع أن تطرح الديبلوماسية الروسية انتخابات برلمانية مبكرة يشارك فيها جميع السوريين بمن فيهم اللاجئون بعد حصولهم على الوثائق اللازمة. ثم تنبثق من هذه الانتخابات حكومة انتقالية تتولى إعادة النظر في الدستور والإشراف على هيكلة المؤسسات العسكرية والأمنية، بمشاركة فاعلين في هذه المؤسسات من دون استبعاد أحد حتى… أولئك «الملطخة أيديهم»، باعتبار أن كثيرين من هنا وهناك باتت أيديهم ملطخة. فضلاً عن أن الإصرار على هذا الشرط سيبقي الآلة العسكرية التي تشكل الدائرة الصغيرة المستفيدة من استمرار الحرب على سلاحها عقبة دون التوجه نحو تسوية. كما أن البحث عن ضمانات جدية للرئيس الأسد والحلقة الضيقة المحيطة به يشكل جزءاً من النقاش الدائر بين الروس والغربيين. وهناك توجه لمنحه ما حصل عليه الرئيس علي عبدالله صالح بعد تخليه عن صلاحياته لنائبه الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي، من دون أن يخسر حزبه حصته الوازنة في الحكومة الانتقالية التي رأسها محمد سالم باسندوه. توزيع سورية «محاصصة» بين مكوناتها والمتصارعين الخارجيين عليها، وحده يشكل ضماناً لتسوية بدلاً من تقسيم لبلاد الشام. هل هناك بديل من «محاصصة» في اليمن وسورية بعد العراق ولبنان؟ وهل يكون حظ الأسد أفضل من حظ علي عبدالله صالح؟

 

ويلات حرب وخيبات سلام
غسان شربل/الحياة/03 آب/15
يستحق النزاع المدمر في سورية موقع الصدارة في لائحة المآسي التي ارتكبت بعد الحرب العالمية الثانية. الحصيلة حتى اليوم مخيفة بل راعبة. المتابعون لمجريات المقتلة الواسعة يتحدثون عن سقوط 350 ألف قتيل وأكثر من مليون جريح ومعوق. وعن خمسة ملايين لاجئ وسبعة ملايين نازح. وعن الحاجة إلى 350 بليون دولار لاعادة إعمار ما دمرته الحرب. وعن عقود من الجهد لإعادة سورية إلى ما كانت عليه عشية انطلاق الأحداث في 2011. الأرقام مؤلمة لأنها تكشف هول المأساة الإنسانية والكارثة الاقتصادية. ثمة وجه آخر لا يقل مرارة. حتى الساعة لا يستطيع أحد ادعاء الانتصار في هذه الحرب الباهظة. أقصى ما يمكن لأي طرف الحديث عنه هو نصف انتصار ونصف هزيمة. الأشد قسوة أن أي حل في سورية لا يمكن أن يوفر لأي طرف مكاسب أو ضمانات توازي ما تكبده. لن يحصل أي طرف بالمفاوضات على الحد الأقصى الذي تعذر عليه تحقيقه في ميدان الحرب. ربما لهذا السبب هناك من يفضل ويلات استمرار الحرب على الخيبات التي سيحملها الحل السياسي علماً انه المخرج الوحيد من الهاوية الحالية.
لا تستطيع المعارضة السورية التحدث عن انتصار. واضح أنها نجحت في خلخلة النظام الذي حكم البلاد بالقبضة الأمنية الصارمة ما يزيد على خمسة عقود. أرغمته على الانكفاء إلى جزء من الأرض السورية. لكنها لم تنجح في اقتلاعه. ثم أن المعارضة التي طالبت في بداية الاحتجاجات بسورية موحدة وديموقراطية تجد ما يفترض أن يكون مناطقها يخضع حالياً لقوى معادية للديموقراطية والتعددية ومرفوضة من قبل طيف واسع من السوريين فضلاً عن الرفض الإقليمي والدولي. تخلصت مناطق واسعة من نير النظام ثم وقعت تحت وطأة التكفيريين. يُضاف إلى ذلك أن أقصى ما تسمعه المعارضة من القوى الكبرى الفاعلة هو أن الحل يجب أن يحفظ مؤسسات الدولة السورية العسكرية والإدارية. وأن يحترم سلامة كل المكونات وحقوقها. الانتصار الساحق ممنوع. الحل بالتسوية والتفاوض والتوافق.
لا يستطيع النظام الحديث عن الحسم. لوح به مرات ومرات ثم انكفأ إلى الإقامة على نحو 20 في المئة من الأرض. ثم أن سورية التي كانت قبل اندلاع النزاع لاعباً في الشرق الأوسط وملفاته الساخنة تحولت ملعباً للمقاتلين الأجانب واللاعبين الإقليميين والدوليين. لم يعد القرار في يد المعارضة الأصلية في مناطقها. ولم يعد القرار حكراً على النظام في مناطقه. من ينقذك من السقوط ويدفع دماً ومالاً يحصل بالضرورة على حق الشراكة في القرار. يستطيع النظام اعتبار بقائه نصف انتصار لكنه لا يستطيع إنكار أن انحساره يشكل نصف هزيمة.
لا تستطيع الدول التي دعمت النظام الحديث عن انتصار لأنها منعت إسقاطه. تستطيع الحديث عن نصف انتصار يضمن لممثليه مقعداً حول طاولة الحل ويضمن لها موقعاً في جهود الحل. لكن هذه الدول لا تستطيع إنكار نصف الهزيمة المتمثل بأنها تحارب الأكثرية وأن حليفها يقيم على جزء من الخريطة. ولا تستطيع الجهات التي دعمت المعارضة الحديث عن انتصار كامل لأن النظام الذي حلمت بإسقاطه لا يزال قائماً وإن متصدعاً ومنكفئاً. لا يمكنها إنكار ان «داعش» و «النصرة» وما يشبههما أخطر عليها من نظام الأسد وتحالفه مع إيران.
حرص الدول الفاعلة على عدم انهيار هياكل الدولة السورية لا يعني تعويم النظام الذي كان قائما قبل اندلاع الاحداث والاكتفاء بجراحة تجميلية. لا المكون السني يقبل ذلك ولا المكون الكردي. الافكار المتداولة توحي بتغيير في حصص المكونات في القرار لتحقيق تطلعات غالبية السوريين. أي حل سياسي في سورية سيتضمن قدراً غير قليل من تجرع السم من جانب أطراف الداخل والخارج معاً. ليس هناك في سورية حل يعطي الأطراف ما يوازي ما تكبدته من دم وخسائر أخرى. هذا يصدق على السنة والعلويين معاً. النسب السكانية تجعل أي رهان على تغييرات ديموغرافية محدود النتائج وخطيراً على المدى الطويل. ليس هناك من حل يوفر لإيران وضعاً شبيهاً بالذي كانت تحظى به قبل اندلاع القتال. استنساخ التجربة العراقية متعذر. الأمر نفسه بالنسبة إلى «حزب الله». ما يصلح في لبنان لا يجوز في سورية.
أعرف أن عبارة نصف انتصار ونصف هزيمة شديدة الإيلام لمن فقدوا أحباءهم بالبراميل أو بغيرها. ولمن يتوزعون اليوم في مخيمات الذل والانتظار الطويل في مخيمات لبنان والأردن وتركيا. ولمن يكابدون الأهوال في قوارب الموت التائهة. لكن هذه هي الصورة. لم ينتصر أحد بالضربة القاضية. الشيء الأكيد هو أن سورية نفسها قتلت في الحرب. إنها القتيل الكبير.

وسط الارتباك العربي.. أما حان وقت النقد الذاتي؟
اياد ابوشقرا/د/الشرق الأوسط/03 آب/15
دعونا ننحّي المكابرة جانبًا ونصارح أنفسنا، ولو مرة واحدة، حول أسباب إدماننا ردّات الفعل وطمأنة الذات، بينما يسجّل غيرنا منجزات سياسية حقيقية، حتى باعتراف خصومهم. أزعم أنه لو طُرح سؤالٌ صريحٌ بهذا الاتجاه، فلن يكون الجواب مريحًا ألبتة. الاتفاق النووي الأميركي الإيراني، بلا شك، كان مفصلاً مهمًا كشف جوانب تقصيرنا.. ولا أقول عجزنا. أيضًا كان تطوّرًا مهمًا، ولو تأخر بعض الشيء، «التفهم» الأميركي للحساسيات التركية إزاء الأحلام القومية الكردية. وطبعًا، هناك الإخفاق المزمن مع الموضوع الفلسطيني الذي ظل لعقود دليلاً قاطعًا على فشلنا بوعي حقيقة العلاقة بين الغرب وإسرائيل كمفهوم وككيان وكثقافة سياسية. ولنختتم حالات التقصير بالإقرار بسوء إدارتنا التعايش داخل الكيانات التي نعيش فيها. إذ إننا نتصرّف وكأننا إما نجهل تعدّد مكوّناتها، أو نتوهّم أن الطمس القهري للتعدّد هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن «الوحدة الوطنية» في وجه «مؤامرات أعداء الأمة». الحقيقة، أننا أخطأنا طويلاً وما زلنا نخطئ، لكن الفارق هذه المرة أن التحدّيات الوجودية ما عادت تسمح لنا بالاطمئنان لوجود «حيّز راحة» قاتل. باعتقادي، نحن الآن نعيش ظروفًا لا تماثلها إلا «مرحلة كامب ديفيد» عندما كسر الرئيس المصري الأسبق أنور السادات علنًا كل ما كان يُعد محظورات سياسية للشرعية السياسية العربية، وذهب إلى حد الاعتراف بإسرائيل والخطابة في برلمانها. بل ربما نحن اليوم في مرحلة أكثر حسمًا وأخطر تحديات من تلك المرحلة.
ولنبدأ بالملف الإسرائيلي – الفلسطيني، حيث تحاول الإدارة الأميركية استرضاء بنيامين نتنياهو بعدما قاد حملة الاعتراض على الاتفاق النووي مع إيران. ومن واقع تجربتنا الطويلة كعرب مع مثل هذه المحاولات فإن الطرف الأضعف الذي يدفع الثمن دائمًا هو الطرف العربي، وبالتحديد، الفلسطيني. وإذا ما تذكّرنا أن القاعدة الراسخة التي يستند إليها نتنياهو شعبيًا، ومن ثم برلمانيًا، هي اليمين الاستيطاني والتوراتي المتطرف، فإن جريمة فظيعة كجريمة إحراق بيت آل الدوابشة ستذهب كما ذهبت مثيلاتها أدراج الرياح، ويستمر الاستيطان ويتوسع، وتضمحل تدريجيًا إمكانيات قيام أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية، ومعها أي اعتدال فلسطيني يتيح الكلام عن تسوية سلمية.
ومن الملف الفلسطيني – الإسرائيلي إلى الملف الإيراني.. نحن هنا أمام احتلالات فعلية ومحاولات احتلال لعدة كيانات عربية وليس احتلال كيان واحد هو فلسطين، وأمام افتعال «حرب أهلية مذهبية» إسلامية – إسلامية بدل التقوقع اليهودي الخائف من السلام والذوبان الديموغرافي. وللأسف، مثلما أخفقنا في فهم طبيعة علاقات الغرب بالحركة الصهيونية حتى قبل ولادة إسرائيل، نبدو اليوم مصدومين من نجاح «اللوبي» الإيراني في بناء شبكات مصالح فعّالة مع مختلف كتل اليمين واليسار في معظم الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وهذا مع أن بعضنا يتذكر دور شاه إيران في نشوء «حلف بغداد» (السنتو لاحقًا).. ولندع الكلام جانبًا، وندخل الموضوع من بابه. جون كيري اليوم يزور الشرق الأوسط بهدف تسويق رؤية أميركية استراتيجية للشرق الأوسط، وليس لتوضيح «سوء فهم» طارئ بين واشنطن والدول العربية. ثم إن أولويات هذه الاستراتيجية في عهد باراك أوباما غدت واضحة تمامًا على الأقل للراصدين العرب في أروقة واشنطن ودهاليزها. هؤلاء على بينة من «وشوشات» الكونغرس وتسريبات الإعلام و«نصائح» الخبراء في مراكز الأبحاث.. والصورة المتكوّنة – عمومًا – غير مريحة. إن «الحرب على داعش» ومن لفّ لفّها هي العنوان، أو قُلْ الذريعة، لتجاهل كل ما عداها، بما فيه توسّع الهيمنة الإيرانية وتصاعد الطموحات الانفصالية الكردية على امتداد الشرق العربي. ولذا لم يعد رفض إنشاء «مناطق آمنة» في شمال سوريا وجنوبها مقتصرًا على فريق أوباما، بل يشمل أصواتًا وأقلامًا في بريطانيا ودول أوروبية أخرى لا ترى في رحيل نظام بشار الأسد بداية الحل في سوريا والتسوية في المنطقة، بل تقول إن «المناطق الآمنة» ستكون مناطق تحمي التطرف الداعشي!
وهنا، لا بد من التوقف طويلاً عند دور تركيا. كثيرون متحمّسون لاتهام أنقرة بدعم «داعش» وإلصاق كل أنواع التهم التخريبية والتآمرية بحكامها، وفي طليعة المتحمّسين بعض العرب الذين اعتادوا – عن حسن نية على الأرجح – ألا يفهموا السياسة إلا باللونين الأسود والأبيض. ومن ثم، فهم لا يميّزون بين التعاون التكتيكي والتحالف الاستراتيجي. إنهم لفرط غضبتهم على «إسلامية» الحكومة التركية مستعدون للتقليل من شأن الهجمة الإيرانية، مع ملاحظة أن نفرًا منهم يدعو صراحة للوقوف مع طهران ضد أنقرة. إنه يتجاوز تمامًا ما ارتكبته طهران عبر نظام الأسد بشعب سوريا، وما فعله الحوثيون باسمها بشعب اليمن، وما تعدّه لدول الخليج وعلى رأسها البحرين. هؤلاء لا يدركون أن المسألة أكبر بكثير من نكاية ومزاج، فنحن أمام أخطار وجودية لا تحتمل إساءة التقدير وأخطاء الحسابات.
لقد دفعت عدة كيانات عربية ثمن إساءة التقدير وأخطاء الحسابات منذ احتلال صدام حسين الكويت. وتأخر التنبه لمغبة قيام نظام مذهبي على أنقاض حكم صدام حسين، وخسر عرب المنطقة كلهم من معالجة الخطأ بخطأ أكبر، وضرب حالة مذهبية بحالة مذهبية مضادة.
ما شهده العراق، وما زال يشهده، لا يحتاج إلى دليل. وما يعيشه لبنان منذ عام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري وتسليم نظام الأسد البلد لهيمنة حزب الله ليس إلا فصلاً آخر من المأساة. ومنذ 2011 انتقل التنفيذ الدامي لمشروع الهيمنة الإيرانية إلى سوريا نفسها متجاهلاً عواقب التلاعب بالتوازنات الدينية والمذهبية والإثنية في فسيفساء بلاد الشام. وهكذا، بسبب التآمر من جهة، والجهل من جهة مقابلة، عادت حجة «حماية الأقليات» سيفًا مصلتًا على المنطقة. إن المنطقة تخسر كثيرًا باعتماد «الشيعية السياسية المتطرفة» التشفي والقهر بعيدًا عن مثاليات الإمام علي بن أبي طالب (ك) وعدالته الإنسانية. وتخسر «السنيّة السياسية المتطرفة» أكثر بهروبها إلى الانتحار الجماعي ومعاداة العالم كله بعيدًا عن براغماتية الحكم السنّي التقليدي ووسطيته.