هوشنك أوسي: خلفيات الحرب التركيّة المزعومة على داعش/سمير السعداوي: بين أوجلان والبغدادي/هاني الظاهري:هل انتفضت تركيا ضد داعش أم الأكراد/مصطفى الفقي: مغزى الاتفاق بين إيران والغرب

407

خلفيات الحرب التركيّة المزعومة على «داعش»
هوشنك أوسي/الحياة/28 تموز/15
ثمّة كثير من المخاتلة امتهنته حكومة «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي، منذ 2002، بحيث إنه لو أقسم زعيم الحزب الحقيقي، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وزعيمه الشكلي، أحمد داود أوغلو، على أطنان من المصاحف والكتب المقدّسة، لما صدّقهما أحد. مناسبة هذا الكلام عدم تصديق «التغيير» المفاجئ في موقف تركيا من تنظيم «داعش» الإرهابي، و «انخراطها الحقيقي والفعلي» في التحالف الدولي ضدّ التنظيم، وأن هذا مردّه إلى مقتل جندي تركي برصاص «داعش» على الحدود التركيّة – السوريّة، وما نتج من شنّ الطيران التركي هجمات على مواقع التنظيم، وفتح قاعدة «إنجيرليك» الأميركيّة لطيران التحالف، وحملات الاعتقال بحق عناصر «داعش» داخل المدن التركيّة، وما رافق ذلك من ضجّة إعلاميّة – سياسيّة، عربيّة ودوليّة، ركّزت على «مظلوميّة» تركيا و «استهداف» الإرهاب الداعشي لها!
ذلك أن ردّة فعل تركيّة كهذه كان يُفترض أن تتخذها أنقرة بحقّ النظام السوري، حين أسقط طائرات حربيّة تركيّة، وقام بتفجيرات داخل الأراضي التركيّة (تفجير الريحانيّة)!؟. زد على ذلك التهديد والوعيد الذي كان يطلقه أردوغان، إبان رئاسته للحكومة، وقوله: «حماة خط أحمر»، «حمص خط أحمر»…!، ولم ينتج عنه أي شيء!، ما يؤكّد أن «دخول» تركيا في التحالف ضد «داعش» فيه من الزيف والمخاتلة ما فيه!.
والحقّ أن ثمّة جملة أسباب متداخلة دفعت حكومة العدالة والتنمية إلى إعلان «مشاركتها» في التحالف الدولي ضدّ «داعش»، منها:
1- افتضاح تورّط تركيا في دعم هذا التنظيم الإرهابي، واستخدامه ذراعاً خفيّة وضاربة، في الحرب بالوكالة، أو عن بعد، كما فعلت طهران في استخدام «حزب الله» اللبناني والميليشيات الشيعيّة العراقيّة، وجماعة الحوثي في اليمن. لكن بينما نجحت طهران في ذلك، فشلت تركيا في شكل ذريع، ونجح المقاتلون الكرد الموالون للعمال الكردستاني، وقوات البيشمركة التابعة لحكومة كردستان العراق، ليس فقط في ليّ الذراع التركيّة، بل في كسرها أيضاً، في كل من سورية والعراق. وبدل أن تقتطع تركيا أربيل من كردستان، وتلحقها بدولة «داعش»، غداة هجوم الأخير على الموصل، والزحف نحو كردستان، نجحت البيشمركة في ربط كركوك بكردستان. وكذلك الحال في مسألة كوباني التي حررها المقاتلون الكرد، ولم يكتفوا بذلك بل حرروا تل أبيض وعين عيسى أيضاً، وصاروا يهددون عاصمة «داعش» في الرقّة. وبالتالي، فالتدخّل التركي العاجل والمفاجئ، في أصله وفصله، هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من «داعش»، تحت شعار محاربته.
2- لا تريد تركيا تكرار الخطأ الاستراتيجي الذي وقعت فيه إبان إسقاط نظام صدام حسين سنة 2003، حين تخلّفت عن التحالف الدولي ضدّه، وما أسفر عنه من إقرار الفيدراليّة لكردستان العراق في الدستور، واضطرار تركيا للاعتراف بهذه الفيدراليّة الكرديّة، مع تعزز فرص تحوّلها إلى دولة. وكعقوبة على الموقف التركي السالف الذكر، منعت واشنطن الجيش التركي من اجتياح كردستان العراق، لملاحقة مقاتلي الكردستاني لمدة 5 سنوات، من نيسان (ابريل) 2003 لغاية شباط (فبراير) 2008، حيث سمح البيت الأبيض باجتياح محدود، مني هو الآخر بالفشل في معركة الزاب التي قضى فيها أكثر من 200 جندي تركي. وبالتالي، إذا سقط نظام «داعش» المدعوم تركياً على أيدي المقاتلين الكرد، ستترتّب انتصارات سياسيّة، إقليميّة ودوليّة، وفرض أمر واقع، لا مناص أمام تركيا إلاّ الاعتراف بها، والتعامل معها، كما جرى في كردستان العراق، من دون أن ننسى دعم تركيا للتنظيمات التكفيريّة الإسلاميّة العراقيّة منذ 2007 (زعيم «داعش» في تلك السنة كان في تركيا تحت سمع وبصر المخابرات التركيّة)، ودعمها لجماعة «الإخوان المسلمين» الإرهابيّة المصريّة، وتحوّل تركيا قِبلة للجماعات الإسلاميّة التكفيريّة الإرهابيّة. كل ذلك ضرب الثقة الغربيّة والأوروبيّة بتركيا في الصميم، وضاعف اعتبار أميركا وأوروبا أن كرد العراق وسورية حلفاء.
فمزاعم تركيا حول «حربها» على «داعش» هي في الأصل حرب على الكرد في سورية وتركيا، وللحوؤل دون تصاعد الدعم الدولي لأكراد سورية والعراق وتركيا أيضاً. وما توسيع حملات الاعتقال التركيّة لتشمل مناصري «داعش» و «الكردستاني» والقصف الجوي لمعاقل الأخير في جبال قنديل، إلّا الدليل الدامغ على أن أردوغان يريد المحافظة على «توازن الضعف» بين هذين التنظيمين، بالإضافة إلى أنه كان يمارس الخداع طيلة سنوات أربع من عمر المفاوضات مع «الكردستاني» وزعيمه أوجلان، والوعود والتطمينات التي كانت تقدّمها الحكومة، والتنازلات الكثيرة التي قدّمها الجانب الكردي لأنقرة. ذلك أن أردوغان عزز، إبان هذه الفترة، مواقع حزبه داخليّاً، ونجح في تحييد الكرد و «الكردستاني» عن خلافاته مع جماعة فتح الله غولن، وقبلها عن احتجاجات غيزي بارك، وكل ذلك عبر استخدام أوجلان وتوظيف تأثيره على قيادة «الكردستاني» في جبال قنديل!. وبالتالي، فالخديعة الكبرى التي عاشها كرد تركيا، هي الآمال الكبيرة التي عقدوها على تطمينات ووعود أردوغان – أوجلان. وقد نجحت أنقرة إلى جانب تحييد الكرد و «الكردستاني» داخليّاً، كما نجحت في استنزاف الأخير، داخل سورية، حيث فقد ما يزيد عن 750 من مقاتليه في الحرب مع «داعش»، من دون أن يصاب إصبع جندي تركي بخدش!. وهذه الخديعة التي سمّيت «تسوية سلميّة» أطاحها أردوغان، ليس الآن، بل منذ اغتيال المخابرات التركيّة ثلاثاً من قيادات «الكردستاني» النسائيّة في باريس سنة 2013، ثم مع هجوم «داعش» على كوباني، المدعوم تركيّاً، وصولاً إلى العمليّة الإرهابيّة والانتحاريّة التي استهدفت نشطاء شباناً من الكرد، في مدينة سروج الكرديّة التركيّة، التي تقابل كوباني على الطرف الآخر من الحدود.
إن أنقرة التي كانت تحارب الكرد و «الكردستاني»، من وراء الستار عبر «داعش»، نزلت الآن إلى الميدان، داخل تركيا وخارجها، بكامل عدّتها وهيئتها السياسيّة والأيديولوجيّة، يرافقها رهط من المرتزقة في المعارضة السوريّة، خاصّة التيّار الإخواني. فهل يعيد أوجلان تكرار رميه «طوق النجاة» للحكومة التركيّة، كما فعل غير مرّة قبلاً، أم سيفكّ أيدي «الكردستاني» من أغلالها؟ وهل تهديدات «الكردستاني» بإيقاف العمل بالهدنة، والعودة إلى ممارسة العنف، جادّة وحقيقيّة، أم من طينة «قصّة الراعي والذئب»؟

بين أوجلان والبغدادي
سمير السعداوي/الحياة/28 تموز/15
من البوادر الإيجابية في هذا «الزمن الرديء» ان يتمكن الأميركيون من ملاحظة فارق بين «داعش» و «حزب العمال الكردستاني»، على رغم سعي الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الى وضع الاثنين في سلة واحدة وفتح حرب معهما على جبهتين، طمعاً في مكاسب سياسية داخلية. وتبعاً لتصريحات أطلقها الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي أليستر باسكي وبريت ماكغيرك نائب وزير الخارجية الاميركي لشؤون العراق وايران، فان التمايز بين «داعش» و «الكردستاني» المصنف ايضاً على لائحة الإرهاب الأميركية، ينطلق من إبقاء الباب مفتوحاً ولو مواربة للمقاتلين الأكراد، وذلك بدعوتهم الى ادانة الإرهاب واستئناف المحادثات مع الحكومة التركية، وتمني واشنطن «على الجانبين تفادي العنف والتصعيد».وليس هذا الموقف منّة من الإدارة الأميركية ولا تجملاً تجاه اكراد تركيا، بل هو تعبير عن براغماتية بعدما أثبت أكراد العراق وسورية انهم الطرف القوي في مواجهة «داعش»، لذا من البديهي ألا يقر الجانب الأميركي ما يُعتبر استغلالاً من جانب أردوغان لفرصة سانحة إقليمياً، من اجل توجيه ضربة لأكراد تركيا على أمل استثمارها في تعزيز نفوذه داخلياً، بعدما بدأوا يشكلون عائقاً أمام تفرد حزبه بالحكم بدخولهم على خط لعبة التوازنات داخل البرلمان التركي. وفي الوقت ذاته، يحرص الأميركيون على مسايرة أردوغان لإرسال رسالة الى النظام السوري، فحواها أن لا تغيير في الموقف الغربي حياله ولا انخراط معه بعد الاتفاق النووي الإيراني، بل هناك رفع لمستوى التنسيق التركي مع دول التحالف، لصد رهان دمشق على دور لها كشريك في مكافحة الإرهاب. لذا يشدد المسؤولون الاميركيون على دور تركيا «في جهد أوسع وأكثر فاعلية لضرب ملاذات داعش في شمال سورية والعراق»، مع إشارة واشنطن الى انها تتعامل مع «شركاء عديدين على الأرض في تلك المناطق»، ولعل أبرز رهاناتها هي «العلاقة الجيدة» مع السلطات الكردية في شمال العراق. ويبدو أن أردوغان يتخوف من ضغوط أميركية لتهدئة «الجبهة» الكردية – التركية، وصولاً الى رفع «حزب العمال الكردستاني» عن اللائحة الاميركية للارهاب، ما ينزع من أنقرة المشروعية في التحرك ضده، ويعيد الى الواجهة قضية زعيمه المسجون عبدالله أوجلان والدور الذي يمكن ان يؤديه في ممارسة نفوذه لتحقيق الاستقرار في جنوب شرقي تركيا. والفارق في تصنيف «الارهاب» من وجهة نظر الاميركيين هو أن أوجلان مدعو الى ادانته والانخراط في محادثات سلام مع أنقرة، وهو موقف يحظى بتأييد الشركاء الأوروبيين، في حين تظل قضية مكافحة «داعش» موضع اجماع بين الأضداد. وليس لأبي بكر البغدادي ان يطمح يوماً ولا حتى الى وضع مشابه لزعيم «طالبان» الملا محمد عمر الذي يكتسب «مشروعية دولية ما»، بمجرد دعوته من جانب الحكومة الافغانية والمجتمع الدولي، الى الانخراط في محادثات سلام، فالزعيم الافغاني الذي اتى «العالم كله» لمحاربته في عقر داره غداة 11 سبتمبر، عرف كيف يدير خيوط اللعبة مستنداً الى حيثيته القبلية الافغانية، وامتدادات تلك الحيثية الى الدول المجاورة. بالتالي، اذا كانت «طالبان» التي دخلت في يوم من الأيام في تحالف مع تنظيم «القاعدة»، بات لها اليوم مكان على طاولة التفاهمات والتسويات، فالأحرى ان يكون المكان أكثر رحابة لـ «زعيم تاريخي» بالنسبة الى انصاره مثل أوجلان، شاءت أنقرة ذلك ام أبت.

هل انتفضت تركيا ضد «داعش» أم الأكراد؟!
هاني الظاهري/الحياة/28 تموز/15
طوال أربع سنوات مضت تناولت كثير من التقارير الاستخباراتية والصحافية مؤشرات ودلائل على تعاون تركي غامض ومثير مع تنظيم داعش الإرهابي على امتداد الحدود التركية – السورية، بل ذهبت بعض التقارير الحديثة إلى اتهام الرئيس التركي أردوغان ونجله بلال وابنته سمية بالتورط في دعم التنظيم، وهو ما نفته الحكومة التركية قبل أيام في بيان رسمي للرئاسة بثته وكالة الأناضول، معتبرة ذلك من قبيل الإشاعات التي يطلقها النظام السوري، مطالبة وسائل الإعلام بعدم الانسياق وراء الحملات التي تهدف إلى تشويه سمعة تركيا.
قبل هذا البيان بأسابيع قليلة التقطت عدسة مصور وكالة الأنباء الفرنسية «بولنت كيليتش» مجموعة صور صادمة للعالم يظهر فيها أفراد تنظيم داعش وهم يحييون الجنود الأتراك على الحدود ولا يفصل بينهم سوى بضعة أمتار، قبل أن يقتادوا اللاجئين السوريين الهاربين من معارك تل أبيض كالخراف أمامهم ليعيدوهم إلى مناطق سيطرة التنظيم من دون أي تدخل من سلاح الحدود التركي، وهو أمر ضجت به صحف العالم ولم يصدر عن الحكومة التركية أي تبرير حيالة سوى نفيها المعتاد لصحة أنباء علاقتها بداعش. بعض التقارير تشير إلى أن عدد مسلحي داعش الأجانب في سورية والعراق تجاوز 20 ألف مقاتل، وجل هؤلاء وصلوا إلى مناطق سيطرة التنظيم عن طريق الحدود التركية، بل إن تركيا نفسها اعترفت بأن الفتيات البريطانيات الثلاث الهاربات من منازل أسرهن في لندن للالتحاق بالتنظيم مررن بها قبل أن يصلن إليه، واعتقلت شخصاً على خلفية الحادثة بتهمة مساعدتهن على عبور الحدود، ولكن بعد أن ضج العالم بالخبر. الأكراد أيضاً الذين خاضوا المعارك الشرسة ضد «داعش» في عين العرب يؤكدون في تصريحات متتالية أن تركيا عملت على إمداد التنظيم بالدعم اللوجستي طوال تلك المعارك! والسؤال هنا: ما الذي حدث لتنتفض حكومة أردوغان على «داعش» وتقصف بعض مواقعه، كما تشير الأخبار الأخيرة؟ وهل هي انتفاضة حقيقية أم غطاء لتصفية أفراد حزب العمال الكردي بحجة محاربة الإرهاب؟ للإجابة لا بد من توضيح أن الاتهامات الدولية لتركيا بدعم «داعش» دفعتها خلال الشهريين الماضيين إلى إغلاق الحدود تماماً والتضييق على التنظيم، خصوصاً بعد خسارته معارك كوباني أمام غريمها التقليدي حزب العمال الكردي وحلفائه، أي ربما أنها اعتبرته كرتاً محترقاً، وهذا أمر أزعج التنظيم الذي يتمتع بجناح استخباراتي فعّال وقدرات تخطيط استراتيجي لإدارة الصراع، فقرر ضرب تركيا بالأكراد لتأديبها على موقفها الأخير منه، وتأكيد طول يده كحليف من الصعب خسارته، فنفذ عملية التفجير في سروج التركية ذات الغالبية الكردية، وهو ما دفع الأكراد إلى الخروج في تظاهرات ضد حكومة أردوغان، لتقرر الأخيرة شن حرب على الإرهاب تتمثل في إلقاء صاروخ على «داعش» مقابل 7 صواريخ على خصومه الأكراد في سورية، تزامناً مع اعتقال نشطاء أكراد الداخل بحجة الإرهاب، وعليه يظل السؤال قائماً: في أي اتجاه تنتفض حكومة أردوغان يا ترى؟

مغزى الاتفاق بين إيران والغرب
مصطفى الفقي/الحياة/28 تموز/15
شهدت منطقة الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة تغييرات سريعة وتطورات متلاحقة تؤثر في شكل واضح على الخريطة السياسية وتعكس إلى حد كبير حالة الارتباك التي تعيشها المنطقة نتيجة اتفاقات جديدة وتحالفات لم تكن قائمة، بل إن ثورات ما سمي «الربيع العربي» ساهمت في شكل مباشر في التحولات التي طرأت على هذه الخريطة وأفرزت واقعاً جديداً لم يكن قائماً من قبل، ولعلنا نرصد في هذا السياق الملاحظات التالية:
أولاً: نجحت الديبلوماسية الإيرانية في أن تحدث اختراقاً تاريخياً للحصار الغربي المفروض عليها على امتداد أكثر من ثلاثة عقود وأن تضع نفسها على الخريطة الدولية والإقليمية في المكان الذي كانت تسعى إليه، وذلك من دون وضع قيود «تعاقدية» عليها تحدد مسار سياستها الخارجية وتلزمها بتحول معين تجاه إسرائيل ودور محدد في مكافحة الإرهاب، ولقد كنت أردد في محاضراتي على امتداد العقدين الأخيرين أن العلاقات بين طهران وواشنطن مرشحة لأن تكون الأفضل بين دولة شرق أوسطية وبين القوة الأعظم في عالمنا المعاصر باستثناء العلاقات الخاصة بين أميركا» وإسرائيل بالطبع، وكان كثيرون يعارضونني ويقولون إن حدة العداء بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية تمثل عداءً أيديولوجياً من نوع خاص لأن إمكانية التقارب بينهما تبدو صعبة وقد تكون مستحيلة وأنها ذات حساسية خاصة وتعقيدات مركبة منذ احتجاز الرهائن الأميركيين في طهران لمدة 444 يوماً بعد قيام الثورة الإسلامية، ولكنني كنت أرد دائماً بأنه لا توجد في السياسة عداوات دائمة أو خصومات مستمرة ولكن توجد فقط مصالح قائمة وأهداف مستقبلية تضعها كل دولة في أولوية أجندتها السياسية.
ثانياً: إن الاوراق الموجودة في الجعبة الإيرانية مطلوبة لدى واشنطن وفي مقدمها قدرة إيران على ضبط إيقاع منطقة الخليج واستعادة دورها باعتبارها «شرطي الخليج» كما كانت أيام الشاه، ولا مانع من أن يحل الملالي مكانه شريطة الالتزام بسياسات ذات خطوط عريضة في المنطقة، ولا بأس من أن تواصل طهران الهجوم الإعلامي على الولايات المتحدة وإسرائيل وتلك أمور مفهومة لدى الطرفين، أما طهران فإنها تنظر إلى الأوراق الأميركية وفي مقدمها رفع الحصار عن ايران وعودة دورها الطبيعي في المجتمع الدولي وإطلاق يدها في المنطقة من دون قيود غربية حادة أو موانع أميركية متوقعة، فضلاً عن استعادة طهران الأرصدة المجمدة منذ سقوط الشاه وهي أصبحت مبالغ ضخمة بحكم تراكم السنين مع رغبة طهران في التواجد في منظمة التجارة العالمية.
ثالثاً: رغم أنني لا أتحمس كثيراً للتحليل القائل بأن الولايات المتحدة باعت حلفاءها في المنطقة وفي مقدمها دول الخليج، نعم إنني لا أتحمس كثيراً للقفز إلى هذه النتيجة، إلا أن إحساساً عاماً بهذا المعنى بدأ يسود المنطقة، وثار جدل واسع حول الخطوة الغربية للتصالح مع إيران بتوقيع اتفاق الملف النووي معها، وعلى رغم أن البعض يرى في ما جرى ضربة للعرب تحولهم إلى أيتام على مائدة اللئام متصورين أن واشنطن أعتهم كالمعتاد، إذ إن الذي يتغطى بالأميركيين هو في واقع الأمر «عريان»، رغم ذلك الشعور العام فإنني أظن أن الرواية لم تتم فصولها، وأن ما هو قادم قد يحمل تحولات أخرى وتوقعات محسوبة.
رابعاً: لقد خرج الإيرانيون يهللون لذلك الاتفاق في الوقت الذي رحبت به الدوائر الغربية أيضاً وكأنه مكسب للطرفين في وقت واحد، فلا بد أن يكون هناك خاسر في مقابل ما حدث، وقد أميل إلى تحليل الأستاذ جهاد الخازن في صحيفة «الحياة» حيث أكد هذا المعنى مطالباً مصر والسعودية والإمارات بحيازة برنامج نووي يؤدي إلى نوع من التعادل في ميزان القوى الشرق أوسطية خصوصاً في ظل وجود دولة نووية مثل إسرائيل ودولة شبه نووية هي إيران.
خامساً: إن الضغوط الخارجية والتدخلات الأجنبية أصبحت تمارس دورها في المنطقة العربية من دون مخاوف أو انتقادات، فلقد أضحت الحرب على الإرهاب مبرراً لإجهاض الكفاح الوطني المسلح ضد الاحتلال الاستيطاني خصوصاً في فلسطين، كما أن الأمر اختلط أيضاً مع غيره في إطار الأزمة السورية وجرى وصم المعارضة هناك بـ «الإرهاب» هي الأخرى بسبب تسلل التنظيمات الإرهابية إلى صفوفها، لذلك فقد اختلط الحابل بالنابل كما يقولون وأصبحنا أمام مشهد مرتبك وغير واضح المعالم حتى الآن.
سادساً: إن أحوال دول الشرق الأوسط في مجملها ليست طبيعية، فهناك حالات الانقسام الداخلي والتدخل الخارجي وتسلل الجماعات الإرهابية تحت مظلة دينية أو سياسية، حتى أصبحت بعض الدول العربية مهددة لأول مرة في وحدتها الإقليمية وسلامة أراضيها. إن الوضع في العراق صعب ومعقد وتختلط فيه المواجهات الطائفية بالصراعات السياسية بل والصدام العشائري وأحياناً العرقي أيضاً في ظل غيبة جيش متماسك بعدما أطاح الحاكم الأميركي بول بريمر بواحد من أفضل الجيوش العربية حتى خرج العراق من ميزان القوى الاستراتيجي في المنطقة، فإذا انتقلنا إلى الجبهة السورية فالأحوال كارثية وقد تحول شعب عربي عريق تميز دائماً بالإباء إلى ملايين اللاجئين والنازحين داخل حدوده وفي دول الجوار المختلفة، فأصبحت الدولة السورية التي كانت تؤوي اللاجئين في وضع لا يسمح لها برعاية اللاجئين من مواطنيها! فضلاً عن حالة البؤس التي يعيشها أبناء الشام في لحظة تاريخية مؤلمة قد تؤدي إلى تفكك الكيان السوري ذاته تحت وطأة التنوع الطائفي والعرقي والقومي.
سابعاً: سوف تظل إيران، خصوصاً بعد الاتفاق النووي مع الغرب، هي الرقم الصعب في المنطقة، وقد يتساءل المرء لماذا سعت الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل إلى تفتيت المنطقة العربية وتقسيم دولها بينما لم تقم بالأمر نفسه داخل ايران، رغم أن المعروف أن إيران تضم طوائف وأقليات واختلافات عرقية فهي ليست دولة عصية على التقسيم ومع ذلك انصرف الغرب عنها من هذه الناحية وجرى التركيز على العالم العربي أولاً، وقد يكون لذلك مغزى في العقل الغربي الذي يحاول استهداف العالمين العربي والإسلامي على التوالي، وإذا كانت علاقة طهران وواشنطن تمر حالياً بمرحلة هدوء نسبي قد يعقبه نوع من التحالف الاستراتيجي فإن الدول الأوروبية تحديداً تحاول الاقتراب من إيران في لهفة حتى رأينا وزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وفرنسا يعلنون عن التفكير في زيارات مبكرة لإيران فور رفع الحظر النهائي عنها.
ثامناً: إن المشكلات جديدة في المنطقة مثلما هو الأمر بالنسبة الى الحوثيين في اليمن والوضع المتدهور في ليبيا هي مظاهر جديدة توحي بأن هناك من يسكب الزيت على النار، بل لقد تردد أن إسرائيل غير بعيدة من دعم الإرهاب في سيناء الذي يخوض الجيش المصري حرباً ضارية ضده، وذلك يعني ببساطة أن هناك محاولات مكثفة لتعويق العالم العربي وضربه من كل اتجاه، ونحن نظن أن هناك تصوراً بعيد المدى لمستقبل المنطقة وأن ما يجري هي وسائل لتحقيق الغايات المطلوبة في ظل السيناريو الذي جرى إعداده جيداً منذ الحديث عن سنوات «الفوضى الخلاقة» فنحن إذاً أمام وضع ملتبس وظروف معقدة تحتاج منا إلى اليقظة الكاملة والتعامل بحكمة وذكاء أمام المتغيرات المتلاحقة في المنطقة كلها.
تاسعاً: إن كمون «حزب الله» وانحسار دوره نسبياً واقتصاره على دوره السياسي في الساحة اللبنانية هو مؤشر لسياسة إيرانية جديدة في المرحلة المقبلة، رغم أننا فوجئنا بأن الاتفاق الجديد بين إيران والغرب جاء خالياً من أية التزامات إيرانية بعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى والتوقف عن تصدير الثورة والمشاركة الفعالة في مواجهة الإرهاب، لذلك فإننا لا نتوقع من إيران تحولاً جذرياً في سياستها الإقليمية رغم التهدئة الظاهرية التي قد تستمر لبضعة أشهر وربما لعدة أسابيع فقط.
عاشراً: إن مصر هي الحاضر الغائب في المشهد كله فهي تواجه حرباً حقيقية في سيناء إلى جانب استنزافٍ يومي بعمليات إرهابية في أنحاء البلاد، فمصر الدولة تسعى نحو الاستقرار والتنمية والديموقراطية، ولكن المعوقات كثيرة والعقبات متعددة وليس أمام مصر إلا أن تتحلى بالنفس الطويل والصبر في مواجهة التطورات السلبية في المنطقة والاتجاهات المعادية للعروبة بل وللإسلام أيضاً، وسوف تظل مصر هي رمانة الميزان رغم ظروفها الاقتصادية الصعبة والاستهداف الخارجي الذي يتعمد النيل من كيانها بل والمساس بهويتها.
هذه رؤية عاجلة لتداعيات الحدث الضخم الذي جرى مؤخراً بتوقيع الاتفاق بين إيران والغرب والذي يبدو للبعض وكأنه زلزال شديد يهز المنطقة الرخوة بطبيعتها والمضطربة بأحداثها، والمهددة في مستقبلها.