خالد الدخيل: الخوف من الإخوان//الياس حرفوش: العرب يهاجرون وأوروبا قلقة

285

الخوف من «الإخوان»
 خالد الدخيل/الحياة/21 حزيران/15

< كشفت أحداث الربيع العربي سوءات عربية كثيرة جداً. من بينها ظاهرة الخوف من كل شيء تقريباً. الخوف من الربيع والمستقبل المجهول الذي يعد به. وعلى علاقة بذلك الخوف من الإسلام السياسي، خصوصاً من «الإخوان المسلمين». سيقول لك البعض إن هناك ما يبرر هذا الخوف. وسيقول لك آخرون أن ليس هناك أي مبرر. لكن ليس هذا هو المهم. الأهم هو ظاهرة الخوف نفسها، وهيمنتها على المشهد، والكيفية التي يتم بها التعبير عن هذا الخوف، ودلالة كل ذلك. حلّ الخوف محل كل شيء آخر. حلّ محل التفكير، وصراع الأفكار والقيم، وابتداع بدائل. شلّ الخوف القدرة على التنافس. حلّ محل الحوار وصدام الخيارات والنظريات. صار الخوف مبرراً لإلغاء التناقض والتعددية، وبالتالي إلغاء كل أشكال التواصل عدا الإلغاء المتبادل. أعاد الخوف الجميع، حكومات وإعلاماً ومثقفين، إلى المربع الأول.

مع ظاهرة الخوف هذه انتشرت ولا تزال، خصوصاً في مصر، عنصرية خانقة ضد كل ما له علاقة بـ «الإخوان»، تشبه المكارثية التي شهدتها الولايات المتحدة ضد كل ما هو يساري في خمسينات القرن الماضي. في هذه الأجواء بات من السهل على القضاء أن يصدر أحكاماً بالإعدام ضد الرئيس السابق محمد مرسي، ومئات من جماعة «الإخوان». في المقابل يستسهل القضاء نفسه تبرئة الرئيس الأسبق حسني مبارك وكل رجاله على رغم أن الثورة قامت ضدهم، وعلى رغم أن هذا القضاء يستظل بغطاء هذه الثورة. كيف يمكن تربيع هذه الدائرة؟ إذا كان ما حصل ثورة، فلماذا هذا الخوف من «الإخوان»، وغير «الإخوان»؟ توقف هنا قليلاً، وسجل الملاحظة التالية: انتهت المكارثية تماماً في أميركا منذ نهاية الستينات، ولم يزدهر اليسار. احتفظت أميركا باستثنائيتها الغربية في ضعف التيار اليساري داخلها. تبين أن المكارثية كانت نوعاً من الخوف الغريزي المعبّر عن عداء أحمق للتعددية ولحرية التعبير.

سيقال: ما علاقة «الإخوان» بالتعددية، وحرية التعبير؟ هذه جماعة دينية تعترض من حيث المبدأ على هذه القيم. وهذا سؤال محق، لكنه ينطوي على مأزق. لأنه سؤال لا يصح إلا عندما يكون دفاعاً عن بديل حقيقي، بديل فكري وسياسي لـ «الإخوان»، وللإسلام السياسي بكل أطيافه. في الإطار العربي الحالي، خصوصاً في مصر، هذا السؤال مزيف، لأنه يطرح دفاعاً عن خيارات متشابهة: أيها الأقل استبداداً، وتغولاً على التعددية وحرية الرأي؟

 ولو تأملت في هذا المآل قليلاً لاكتشفت أنه بذاته يمثل تراجعاً (وليس ثورة) الى الخلف يتلفع بمكارثية عدوانية تغطية لهذا التراجع. الخيار ذاته كان الوحيد المتاح منذ أكثر من 60 سنة، خصوصاً بعد حادثة المنشية عام 1954. الفارق أن النظام الناصري آنذاك بدا على الأقل أنه يقدم بديلاً سياسياً واجتماعياً للملكية، ولـ «الإخوان» أيضاً. أخذ هذا البديل اسم الناصرية. ثم تبين أن هذه الناصرية أقل وأضعف من أن تكون بديلاً لأي شيء. لذلك اختفت بسرعة بعد وفاة عبدالناصر في خريف 1970.

في هذا السياق يمكن تصور مبرر الخوف من «الإخوان» على النحو التالي: لو استولوا على الحكم في أي بلد سيهمشون كل من يختلف معهم مذهبياً أو فكرياً، أو سياسياً، أو حتى اجتماعياً. بل سيلغون الحقوق السياسية لكل هؤلاء، وربما حقوقهم المدنية. حكم «الإخوان»، بعبارة أخرى، هو حكم شمولي، لا يعترف لا بالقيم الديموقراطية، ولا بالآخر. هذا ما حصل في السودان، وغزة، وأفغانستان. لذلك لا بأس من منع هذه الجماعة من حقها السياسي حماية للغالبية وحقوقها. لكن ما حصل في السودان لم يحصل، حتى الآن على الأقل، في المغرب وتونس. ما يعني أن الأمر احتمال، حتى ولو أنه الأرجح. وحصل ما هو أشد وطأة في إيران الشيعية. ما يعني من ناحية أخرى، أن هذا الاحتمال وارد في حال سيطرة حركة دينية على الدولة، أو تدخل الدين في عمل الدولة. لكن يسقط التبرير على وجاهته لسبيين واضحين: الأول أنه لا يستند إلى بديل يمكن الدفاع عنه، والثاني، وهو نتيجة للأول، أنه تبرير للتغطية على حكم استبدادي آخر، تحت شعار ليس «إخوانياً». وفي هذه الحالة نحن أمام صراع شموليات واستبدادات ينفي بعضها الآخر. لـ «الإخوان» في هذا الإطار الهزيل ميزة لا تتوافر لمخالفيهم، وهي أنهم يملكون أساساً فكرياً يستندون إليه في خياراتهم السياسية. خصوم «الإخوان» لا يتصرفون بطريقة مختلفة، والأرجح أنهم يفعلون ذلك لأنهم لا يملكون بديلاً فكرياً وسياسياً.

ومن ثم فإن ما يحصل ليس تعبيراً عن موقف، أو رأي آخر، بقدر ما أنه تعبير عن حال خوف غريزي متمكن، يتم التعبير عنه بآلية الإقصاء نفسها، والقيم المناهضة للحرية، التي يتهم بها «الإخوان» تأكيداً لحال الخوف ذاتها. في مصر، ضاق الجيش ذرعاً بمنافسه الوحيد على الشارع. تعايش معه لعقود لأنه كان يمسك بعصا القوة. ثم جاءت الثورة وهددت بقلب هذا التوازن في غير صالحه. وحتى لا يتكرر ذلك، كان لا بد من استئصال هذا المنافس، وإعادة تأسيس حال ردع نفسية أمام إمكان ثورة أخرى تهدد بسقوط المعادلة السياسية برمتها. من هنا جاءت غلاظة القضاء مع «الإخوان» ورئيسهم، وتسامحه مع الرئيس الذي قامت عليه الثورة ومع رجاله. إلى جانب ذلك، فإن كل ما كان محل اعتراض واحتجاج في عهد مرسي يتمتع به الآن الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومن دون اعتراض. من حسن حظ مصر أن لديها جيش وطني قوي حماها من الانزلاق الى حرب أهلية. لكن مع تغير المرحلة، والإقليم، وتغير مصر ذاتها، لن يكون الجيش وحده ضمانة كافية. لن ينجح النظام في ترميم حال الردع الداخلية لزمن طويل. سيستمر النظام موضوعاً للإحتجاج الداخلي، والنقد الخارجي. وهذا لن يساعد كثيراً السياحة والاستثمارات الخارجية، الأمر الذي سيجمد المأزق الاقتصادي ومعه سيزداد انكشاف النظام. لا يمكن إبقاء المكارثية ضد «الإخوان» لزمن طويل. الناس ستسأل عن الإنجازات والبدائل. الأمر يحتاج إلى إنجازات اقتصادية، والى إعادة صوغ شرعية الدولة، وإعادة تأسيسها دستورياً. وكل ذلك يتطلب منطلقات فكرية وقانونية وسياسية، الأمر الذي يفرض تقديم البديل المطلوب. وهو ما لم يحصل حتى الآن.

العرب يهاجرون… وأوروبا قلقة
 الياس حرفوش/الحياة/21 حزيران/15

لم نكن بحاجة إلى الرقم المفزع الذي نشرته المفوضية العليا للاجئين هذا الأسبوع لنعرف حجم المآسي التي تمر بها غالبية البلدان في منطقتنا العربية. ستون مليوناً من البشر هجروا بيوتهم العام الماضي، أكثر من نصفهم من الأطفال، ذهبوا إلى الملاجئ والخيم أو ما تيسر من المنافي. أما العناوين التي يتم تشتيت هؤلاء المساكين منها فهي كما تتوقعون: سورية، العراق، اليمن، ليبيا، جنوب السودان، الخ…بكلام آخر، العالم العربي يفرغ من سكانه. ليست الحدود وحدها هي التي تنهار بين الدول. البشر أيضاً يهربون كيفما استطاعوا، بالشاحنات، بقوارب الصيد، على أقدامهم في العراء تحت الشمس الحارقة. بشر كانوا في زمن ما مواطنين في دول، وأصبحوا الآن مشرّدين على قارعة الطرق، أو على ضفاف الشواطئ، بانتظار دولة ما، منظمة ما، مساعدة ما، تقيهم العطش والجوع.

لا يبالغ المفوض الأعلى للاجئين، البرتغالي أنطونيو غوتيريس، إذ يقول: «عندما نشاهد التلفزيون، يخيل إلينا أن العالم كله في حالة حرب». لا بد من فهم ذلك على ضوء انعكاسات الهجرات على أوضاع العالم كله، أمنياً واقتصادياً وديموغرافياً، لنستطيع تقدير حجم التغيير الجذري الذي تشهده الكرة الأرضية بكل قاراتها نتيجة ما يجري في منطقة الشرق الأوسط. أكثرية الستين مليون نازح ولاجئ الذين تتحدث عنهم المفوضية آتية من دول عربية. وتشكل الحرب في سورية السبب الأكبر لارتفاع أرقام اللجوء منذ عام 2011. تصف المفوضية عملية النزوح هذه بأنها أكبر عملية نزوح للسكان في العالم على الإطلاق. ما يقارب نصف السوريين اليوم لاجئون أو نازحون (7 ملايين ونصف مليون نازح و4 ملايين لاجئ حتى أواخر عام 2014). والفارق بين النازح واللاجئ لا يعني شيئاً في واقع الأمر، ذلك أن النازحين لن يستطيعوا العودة إلى بيوتهم وسينتهون لاجئين في مخيم ما في بلد ما.

ليست خريطة العالم العربي هي التي تتغير وحدها، جغرافياً وديموغرافياً. فأوروبا، القارة المقيمة على حدود المنطقة العربية تتغير أيضاً تبعاً لذلك. وبسبب هذا القرب الجغرافي، أصبحت ايطاليا واليونان أكثر بلدين تشهد شواطئهما وجزرهما آثار اللجوء. آلاف القتلى شاهدنا جثثهم على الشاشات بعد أن قضوا في عرض البحر قبل وصولهم إلى الشواطئ، أما الذين يصلون وهم على أتعس حال فيشكرون ربهم على النجاة من أهوال البحر ومن أهوال بلدانهم. أحد المعلقين البريطانيين وصف ظاهرة الهرب المتمادية إلى الجنوب الأوروبي. قال أن نظرة بسيطة إلى المشهد عند تلك الشواطئ تكفي للتأكد من أن دول الجنوب الأوروبي تنزلق أكثر فأكثر إلى ما أطلق عليه مصيراً متوسطياً لهذه الدول، بدل المصير الأوروبي الذي كانت تطمح إليه. غير أن القلق لا ينحصر في ايطاليا واليونان، اللتين يمكن أن تضاف إليهما إسبانيا بسبب هجرة أهل الشمال الأفريقي عبرها إلى أوروبا. فهذه الدول الثلاث التي تعتبر أفقر من زميلاتها في الشمال الأوروبي تسعى إلى تقاسم عبء المهاجرين مع الدول الأخرى. لهذا يمتد القلق إلى القارة كلها، التي أصبحت أوضاعها الاقتصادية وضماناتها الاجتماعية مغرية لكل طالب لجوء. وستكون القمة الأوروبية في بروكسيل في أواخر هذا الأسبوع مخصصة لمناقشة خطة عمل متكاملة لمواجهة هذه الأزمة. فالدول الأوروبية تشعر أن الحدود وقوانين الهجرة وإجراءات الدخول لم تعد صالحة لمواجهة من يمكن أن نسميهم بالانتحاريين، المستعدين لمواجهة أي خطر للوصول إلى أوروبا. وهكذا، فمثلما يطمح تنظيم «داعش» إلى إزالة الحدود بين الدول العربية، تأتي موجة الهجرات هرباً من «داعش» وأمثاله لتفعل الشيء نفسه بالنسبة إلى حدود معاهدة شينغن، التي نظمت ذات يوم إجراءات الدخول إلى بلدان القارة القديمة.