عبدالوهاب بدرخان: أميركا وإيران واستخدام «داعش» حافزاً لمشاريع التقسيم//غازي دحمان: كم سيبقى من نظام الأسد للتفاوض عليه؟

186

كم سيبقى من نظام الأسد للتفاوض عليه؟
غازي دحمان/الحياة/18 حزيران/15

مثل كتلة ثلج يذوب نظام بشار الأسد وتبتلع جغرافية سورية قُطعه الواحدة تلو الأخرى، وقد فاجأت طريقة تلاشيه تلك حتى حلفاءه الذين بنوا تقديراتهم على بقائه مدة اطول تمنحهم مساحة كافية لفحص الخيارات المختلفة بشأن التفاوض عليه وعلى دورهم في سورية وموقعهم في المنطقة. فجأة أصبحت كل الصيغ الميدانية التي اعتمد عليها النظام من دون فعالية، فلا طائراته ولا كثافة نيرانه باتت تحقق فارقاً في التوازن مع قوى الثوار ولا موارده عادت كافية لإخراجه من دائرة الإنكسارات المتوالية، وبالكاد يستطيع تحقيق انسحابات نصف ناجحة، وفجأة تغيرت ديناميكيات الصراع وتبدلت المواقع بحيث صار النظام يعاني حالة من الفوضى وكأنه استعارها من خصومه الذين طوروا مستوى تنسيقهم بدرجة لافتة، وانتهى الوقت الذي كان يشكل تدخل حلفائه فارقاً في الميدان لصالحه. يكفي أنّ أقواهم «حزب الله» صار مستنزفاً في بقعة جغرافية صغيرة ويقاتل من أجل الاحتفاظ بتلة على واد في جرود القلمون لينتقل بذلك من بحبوحة إستراتيجية هجومية تسمح له باختيار مواقع وأمكنة المعركة إلى الوضعية التي يدافع فيها عن مواقع تجمعاته ومخازن أسلحته وخطوط إمداده.

بالحسابات العسكرية، لم يكن صعباً قراءة تطورات المشهد الراهن أو تقديرها بالتقريب. تلك نتيجة منطقية لحالة الإستنزاف التي يعانيها النظام على مدار أربع سنوات وفي ظل استمرار دينامية الثورة ضده، فقد تدمّرت آلته العسكرية بمختلف تشكيلاتها، وخسر مساحات إستراتيجية واسعة، وحوصر جزء كبير من طرق إمداده، وترافق ذلك مع خسارته لجزء كبير من كادره المقاتل وبات صعباً عليه تعويض ذلك بسهولة، كما أن البنية التي صنعتها إيران من مئات الميليشيات تبين أنّها بنية فوضوية قد تساعد على إدامة حالة اللاإستقرار والأذى لكنها لا تساهم في الحفاظ على نظام الأسد. لكنّ هذه الحسابات فاتت داعميه الذين ركّزوا جهودهم على خيار واحد وحسب هو الانتصار وسحق ثورة الشعب السوري بكل الطرق والوسائل بما فيها التهجير والإبادة، واستخدموا في سبيل ذلك سياسة حافة الهاوية في تكتيكات الحرب والتفاوض، ولم يوسّعوا دائرة خياراتهم، بل عملوا على دمج الصراع في إطار نسق أحلامهم الجيوسياسية المفترضة ما جعل تقديراتهم لمجريات ومآلات الصراع رغبوية بحيث لا تسمح لهم برؤية المعطيات وتقيّيمها بشكل حقيقي.

والراهن أن النظام اليوم صار مشكلة كبيرة بالنسبة الى حلفائه أنفسهم وبالنسبة حتى الى كثير من القوى التي كانت ترغب بزواله ورحيله. الكل ينطلق من قاعدة ضرورة الحل السياسي للأزمة لأن من شأن ذلك توفير حالة يمكن السيطرة عليها وضبطها بحدود معينة، ذلك أنّ أغلب القوى تدرك أنّ في سورية هناك مشكلة إندماج الدولة ومؤسساتها بالنظام، بمعنى أن المؤسسات جرى تصميمها للعمل فقط ضمن شروط وقوانين النظام، وبالتالي فإن تفكيك هذه الحالة أمر معقّد وغير مضمون النتائج ومغامرة لا يريد أحد الدخول فيها، والطريقة الأفضل للخروج من هذا المأزق تتمثّل بحصول اتفاق يبقي جزءاً من النظام ويضمن بقاء تسيير مؤسسات الدولة، بخاصة تلك التي لها علاقة بالأمن.

ولعل هذه الحقيقة شكلت على الدوام نقطة قوة لصالح النظام وداعميه وهي التي سمحت لهم بتصعيد سقف مطالبهم واللعب على حافة الهاوية اعتقاداً منهم أن لا خيار للمجتمع الدولي غيرهم، وبخاصة بعد ظهور «داعش» ومحاولة طرح معادلة إما النظام أو «داعش» والقوة المتطرفة في مجتمع غير متجانس لا دينياً ولا ثقافياً ولا حتى عرقياً. اليوم يبدو أننا نقترب من نهاية مرحلة كان يمكن لنظام الاسد فيها فرض شروطه وكان يمكن لحلفائه طرح مقاربتهم ورؤاهم للحل، مع اقتراب فقدانهم السيطرة على الأرض، وحتى بالنسبة الى الاطراف التي كانت تدعو الى الحل السلمي مثل الولايات المتحدة، فكيف يمكن المحافظة على ما تبقى من نظام الأسد للوصول به الى مرحلة التفاوض وإنجاز التسويات في وقت ما زالت تلك الأطراف تفتقر لتصور مشترك للحل ولم تتفق على الخطوط العريضة سواء في الحصص أو الأدوار أو موقع سورية من التحالفات وفي وقت تتحرك فيه التغيرات على الأرض بسرعة؟ غالبية الأطراف تبدو خياراتها قليلة ومتساوية في الوقت نفسه. بالنسبة الى حلفائه لا يبدو أن جسد النظام قد يستجيب لجرعات جديدة من المساعدات تنقذه من السقوط إلا في حال تطبيق انواع من العلاجات الخطرة كالتدخل المباشر على الأرض من قبل روسيا وايران وهو ما لا يبدو أنه يلوح في الافق، وبالنسبة الى الولايات المتحدة لديها خيار واحد هو الضغط على الدول الداعمة للثوار كي تخفف من زخم دعمها أو تشترط عليهم التركيز على جبهات محددة للمحافظة على ما تبقى من النظام. في الحسابات العملانية يمكن لهذه الإجراءات تحقيق نتائج معينة، لكن الواقع يقول أن وقوع النظام على خط الاحتمالات السيئة قد لا يفيد معها الكثير من هذه الإجراءات، ذلك أن مروحة الإنهيارات تتوسع بما يفوق القدرة على ترميم الأوضاع وقد يجد الجميع أنفسهم أمام حالة لا يمكن ضبطها والتحكم بها، وبخاصة أن النظام صار في عين الاستهداف من أكثر من جبهة بما فيها جبهة بيئته الداخلية التي تحصل فيها تغيرات من شأن تطورها الإطاحة برأس النظام وفرط جبهته بالكامل.

 

أميركا وإيران واستخدام «داعش» حافزاً لمشاريع التقسيم
عبدالوهاب بدرخان/الحياة/18 حزيران/15

 في «الحرب على الإرهاب» عمدت الولايات المتحدة إلى تهميش حلفائها وأصدقائها من عرب ومسلمين، وغدا تنظيم «القاعدة» أهم عندها من أي دولة في المنطقة. لم تحترمه كـ «عدو» يقاتلها لكنها صدمت بجرأته وتحدّيه لها في ما تفتخر به من رموز نظامها، ولعلها ممتنّة له، إذ أتاح لها استخدامه ذريعة لتغليظ تدخلاتها وإفراغ سياساتها من أي بعد إنساني أو قانون – دولي. وفي «الحرب على داعش»، مع ابتعاد الخطر عن الأراضي الأميركية، واصلت واشنطن النهج نفسه مستفيدةً من هذا التنظيم كما لو أن وحشيته مستمدّة من فظاظتها، أو أن دوره يمارس وظيفة رسمتها له، فمعظم قادته تخرّج في السجون الأميركية – العراقية. أما المتطوعون للقتال فجاؤوه عبر التنسيق الإيراني – السوري. وبفضل «داعش»، كما بفضل حوثيي اليمن، كما بفضل «الإسلاميين» هنا وهناك، تجد أميركا أمامها خيارات لا حصر لها لتصنيع الأنظمة الجديدة العديمة الخبرة، وإقامة «دول» و «جيوش» و «مؤسسات» أكثر هشاشةً من تلك التي كانت وسقطت، بل الأهم أنها تستند إلى هذه التنظيمات والجماعات كمبرر لسياسات استثنائية من خارج السياقات المعهودة، بدءاً بغضّها النظر عن مجازر النظام السوري واقتلاعه نحو عشرة ملايين سوري من مواطنهم، ثم بتكيّفها مع استخدامه السلاح الكيماوي والسكوت على تدخل إيراني تخريبي في سورية وصولاً إلى استيراد «داعش» لتلميع «شرعية» للنظام. وكانت هناك بالتوازي، في العراق، جملة سياسات عبّرت عن نفسها بمراقبة أميركية سلبية للخلاف الحاد الذي نشب بين نظام أدارته طهران عبر نوري المالكي وبين السنّة في محافظاتهم، وقد أدّت الممارسات المذهبية والفئوية للحكومة إلى استدراج منهجي لصعود «داعش» وإسقاطه جيش النظام. هكذا، طُرحت في سورية المفاضلة بين بشار الأسد و «داعش»، وفي العراق بين المالكي و «داعش».

وقائع كثيرة تراكمت على مدى أعوام وباتت تشكّل اليوم الخلفية التي تبرر «سياسات الضرورة»، كالتعاطي الأميركي المباشر مع عشائر الأنبار لتسليح أبنائها وتدريبهم لمواجهة «داعش» طالما أن الثقة مفقودة بينهم وبين «حكومتهم»، أو اعتماد برامج لتدريب فصائل سورية معارضة «معتدلة وموثوق بها»، أو إظهار قبول للتوسّع الحوثي على حساب الحكم الشرعي في اليمن، أو على العكس اعتماد شروط للحل السياسي في ليبيا لا تأخذ في الاعتبار شرعية مجلس نيابي منتخب. وعدا ليبيا، فمن الواضح أن هذه السياسات رمت إلى تجميع أوراق في انتظار المساومة على الترتيبات الإقليمية بين أميركا وإيران. وفي ظل «لا استراتيجية» اتّسمت بها «الحرب على داعش»، برز خلال الشهور الماضية تنافس على الاستفادة من هذا التنظيم.

يتحدّث مسؤولون عرب، من سياسيين وعسكريين واستخباريين، باستياء عميق عن حرب يخوضونها ولم يتوصلوا بعد إلى فكرة شاملة ودقيقة عمّن هو «داعش» ومِن أين جاء ومَن دعمه ويدعمه ومتى ستصبح الحرب عليه ناجعة حقاً وما هو التصوّر الواقعي لنهايته الفعلية. يروي أحدهم أنه بادر نظيره الأميركي في لقاء ثنائي: إذا لم تقل لي، وأنا حليفك، من هي الأطراف التي صنعت «داعش» وما هو موقفكم منها، فإمّا أنكم لا تعرفون وهذا مستبعد، وإمّا أنكم متورّطون وهذا يقلقنا جداً، فهل أنتم ضد الإرهاب كما تقولون، أم أنتم معه طالما أنه بعيد عنكم. وردّ الأميركي بأنه في الحالين لا يستطيع إعطاءه إجابة… فمَن يُسمّى «حليفاً» أميركياً لا يصارح الحلفاء العرب بأي تقدير للموقف ولا يشاطرهم ما لديه من معلومات أو جزءاً منها على الأقل. لذا، يتحدّث هؤلاء المسؤولون بتشكيك بالغ عن «المواجهة» الأميركية لـ «داعش»، ولا يتردّدون في القول «حليفك عدوّك».

يقول مسؤول عربي آخر أنه وعدداً من نظرائه بلغوا في اتصالاتهم خلاصة مفادها أن أميركا ودولاً كبرى أخرى، فضلاً عن إيران، ترى في «داعش» و «جبهة النصرة» وأشباههما حافزاً للبحث في مشاريع لتقسيم سورية والعراق وليبيا، كما تعتبر أن سلوك الحوثيين قطع منذ زمن الأشواط الأخيرة التي تحول دون إبقاء اليمن موحّداً. وقد استنتج مسؤولون عرب من خلال لقاءاتهم بمبعوثي الأمم المتحدة إلى هذه الدول أنهم يكلفون تنفيذ قرارات لمجلس الأمن، وبعد تعيينهم يتلقون توجيهات قد تناقض مضامين القرارات الدولية، حتى لو كانت صادرة تحت الفصل السابع. فالمبعوث إلى ليبيا مثلاً مطلوب منه جلب الميليشيات الإسلامية إلى عملية سياسية مبنية شكلاً على «حكومة معترف بشرعيتها» لكن، بإمكانه أن يتجاوز هذا الاعتبار إرضاءً للميليشيات. وكان المبعوث إلى اليمن ذهب في التزام التوجيهات إلى حد تغطية للحوثيين في احتلالهم صنعاء وغزوهم منشآت الدولة وحتى في احتجاز الرئيس وأعضاء حكومته في إقامة جبرية، بل راح يواصل في الأثناء ما سمّاه حواراً بين الأطراف لوضعها أمام خيار وحيد هو الاعتراف بالحكم الحوثي كأمر واقع.

والثابت في كل هذه الظواهر أن المجتمع الدولي بات طريح عجزه عن التدخل من جهة، وضحية «الحرب الباردة» المتجددة بين أميركا وروسيا من جهة أخرى. لذلك، زادت مبادئ الأمم المتحدة تراجعاً وفقد «الفصل السابع» هيبته، ولم تعد هنا قيمة إلا لـ «الفيتو» التعطيلي الذي تتمتع به الدول الخمس المعروفة. وحتى الأمين العام لا يملك سوى أن ينفذ ما تريده الولايات المتحدة كما فعل في مناسبات عدة كان آخرها رفضه إدراج إسرائيل في لائحة الدول والجهات المنتهكة حقوق الأطفال… وفي مثل هذه الظروف الدولية، تصبح مصائر الشعوب والدول في مهب الريح، ويُنظر إلى المجزرة التي قضى ضحيتها عشرون سورياً من الطائفة الدرزية باعتبارها إنذاراً إلى القوى الدولية المعنية بسورية لأن تغيّر المعادلة الميدانية لمصلحة المعارضة بلغ لحظة تهديد الأقليات. كانت الولايات المتحدة ساءلت المعارضة باكراً جداً عمّا لديها من ضمانات لمنع حصول مجازر طائفية، ويومذاك لم يكن لدى المعارضة (وليس لديها الآن) ما تضمن به وجودها نفسه. لم تتنبّه أميركا أبداً إلى أن تعنت نظام الأسد ورفضه أي حل غير عسكري وتكراره المجازر (الطائفية أيضاً) كانت الخطر الأكبر ليس فقط على الأكثرية والأقليات معاً، بل على سورية كدولة ووجود.

ها هو نظام الأسد يتخذ من «داعش» ورقة ضمان للدويلة التي يريد أن ينكفئ إليها في رعاية الإيرانيين وحمايتهم، وبموافقة ضمنية من إسرائيل التي انتهزت الجريمة التي ارتكبتها «جبهة النصرة» ضد دروز ريف إدلب لتطرح مسألة «حماية» دروز السويداء. وفي هذا الوقت تبدي تركيا خشية من تقدّم «أكراد أوجلان» السوريين من عين العرب – كوباني الى مواقع «داعش» لطرده منها، فمثل هذا التطوّر معطوفاً على وصول أكراد تركيا للمرة الأولى بهويتهم القومية إلى برلمان أنقرة في الانتخابات الأخيرة يعني سقوط مشاريع رجب طيب أردوغان لـ «السلام الداخلي» لمصلحة صعود فكرة الكيان الكردي، إذ لا حياة لـ «إقليم غرب كردستان» السوري إلا بالتواصل مع كردستان العراق أو مع أكراد جنوب شرقي تركيا.

أما في العراق فشكّل الاحتلال «الداعشي» للمحافظات السنّية ورقة الضمان للهيمنة الإيرانية، وزاد من احتمالات تفعيل خيار الأقاليم أو حتى الفصل والتقسيم، خصوصاً أن طهران تريد المضي في تغيير وجه بغداد لتكون تحت سيطرة أتباعها. وتكمن المفارقة في أن الإعداد لـ «تحرير» هذه المناطق، بما اكتنفه من نقاش حول تسليح العشائر وتعامل سيئ مع نازحي الأنبار، عزز الاتجاه التقسيمي بدلاً من أن يحبطه، إذ بدا أن لدى الحكومة والإيرانيين تساؤلات عن جدوى مثل هذا «التحرير» ما لم يفضِ إلى اختيار واضح من جانب السنّة، فإمّا الخضوع لحكم إيران أو لحكم «داعش». استطراداً، في ليبيا، يساعد التوسع «الداعشي» في الضغط الدولي على «الحكومتين» للقبول بتسوية سياسية تتجاوز إرادة غالبية الشعب من الناخبين، وهو ما دفعت إليه أميركا وبريطانيا سرّاً لاستثمار انفتاحهما على «الإسلاميين». وأخيراً، في اليمن، يستخدم الأميركيون وجود تنظيم «القاعدة» لاجتذاب الحوثيين ومراعاة أطماعهم السلطوية على حساب بقية اليمنيين… ولا شك في أن وظائف «داعش» وأخواته لا يزال أمامها مسار أميركي طويل.