زهير قصيباتي: المفاجآت الإيرانية لإنقاذ الأسد//عبدالوهاب بدرخان: إيران إذ ترى «مصلحتها» في «دويلة» مذهبية لا في سورية موحّدة

339

«المفاجآت» الإيرانية لإنقاذ الأسد
 زهير قصيباتي/الحياة/04 حزيران/15

أحدث مفارقات الوهم لدى النظام السوري، أن حكومته واثقة ومطمئنة إلى قدرة الجيش السوري على فرض الأمن في أنحاء البلاد… بعد نحو أربع سنوات ونصف سنة من الصراع. وآخر مفارقات البروباغندا الروسية أن موسكو تتمنى تشغيل الأميركيين لحسابها، فيُرسلون طائرات لتكثيف القصف على «داعش»، لئلا يقترب أكثر من آسيا الوسطى. أليس في الأمر تكرار للتضليل الإيراني الذي يتّهم واشنطن بالتواطؤ مع تنظيم «داعش»، ثم يوعز إلى رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بطلب تفعيل دور التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة؟

لواشنطن حصة أيضاً في حفلة التراشق بالاتهامات، فهي تكرّر أنها واثقة من أن نظام الرئيس بشار الأسد يساعد «داعش»، لكنها لا ترمي قوات النظام بحجر! طهران تتّهم أميركا بترك العراق لقمة سائغة لـ «داعش»، وبغداد تتهم التحالف الدولي بالتقصير، وواشنطن وباريس تتهمان حكومة العبادي بالامتناع عن وعدها إطلاق قطار المصالحة بين العراقيين، سنّة وشيعة، ومعالجة أزمة تهميش السنّة التي تسلّل منها «الجهاديون» والتنظيم الذي ما زال لغزاً غامضاً، فيما السؤال هو: مَنْ يشغّل «داعش»، ولماذا تعجز عشرون دولة في التحالف عن تحطيمه في سورية والعراق؟

كان واضحاً في مؤتمر باريس، قلق التحالف من قدرة التنظيم على ابتلاع مزيد من المساحات السورية والعراقية، وقلقه خصوصاً من تشغيل بغداد «حشداً شعبياً»، ما إن يحرر بلدة أو مدينة في المناطق السنّية العراقية حتى تنطلق آلة التنكيل بسكّانها وهدم بيوتهم، وتشريدهم. والحال أن تأييد التحالف مشاركة «الحشد» في القتال لاستعادة مناطق يحتلها «داعش»، كما يوحي بيان مؤتمر باريس، جاء ملتبساً من دون اشتراط واضح، بمنع استهداف المدنيين، أو اضطهادهم ومعاقبتهم كأنهم عملاء لـ «داعش». وهل يثق التحالف فعلاً بحكومة يُمنع مواطنوها المهجّرون والمشرّدون من دخول بغداد، فقط لكونهم من السنّة؟

عودة إلى مسلسل الاتهامات حول الانتكاسة في الحرب على «داعش»، يقول العبادي إن المشكلة دولية، ويردّ التحالف بأن المشكلة عراقية أولاً، فلا مصالحة حقّقها العبادي، ولا دفاعه عن «الحشد الشعبي» يهدّئ مخاوف عشائر الأنبار من تكرار مآسي الانتقام. بين العراقيين اليوم، كثيرون- ربما بالملايين- محاصرون بين رعب «داعش» وبطشه، وبين جور ميليشيات شيعية، بها وحدها يثق قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»، ولها فقط ترسل طهران الصواريخ.

نكبة ونكبات في سورية، وأخرى في العراق. تدعم إيران ميليشيات ذات لون مذهبي، فيما يعد رئيسها «المعتدل» حسن روحاني بالدفاع عن الأسد حتى النهاية. يفاوض «الشيطان الأكبر» في الملف النووي ويتمنى التطبيع معه، لكنه يحارب حتى النهاية مَنْ يقاتل نظام الأسد… ولو سقط مليون سوري في الحرب الوحشية. يريد الكرملين من البيت الأبيض أن ينسّق مع جهود نظام الأسد ورُعاته الإيرانيين، ليس فقط لضمان بقائه، بل لحماية أمن روسيا من تمدُّد طموحات «أبو بكر البغدادي»… وفيما يشيع الأميركي تفاؤلاً بالحوار مع موسكو، يكرّر أن الأسد لن يكون جزءاً من الحل. بالتالي أي تقارب بين روسيا والولايات المتحدة يلغي الأضداد؟ وحين تروّج طهران لمفاجآت ميدانية في سورية قريباً، هل تتحقق بمجرد قيادة سليماني معركة كبرى لاستعادة إدلب؟

خيار العراقيين بين المرّ والأمرّ، خيار السوريين بين المجازر المتنقلة والقتل الأعمى الذي ما زال الرئيس باراك أوباما عاجزاً عن رؤيته، بعدما نصح العرب باقتلاع شوكهم بأيديهم. وبين البراميل المتفجّرة والصواريخ الإيرانية وغبار «داعش» وبطشه، تتفرّج طهران وتصفّق ويثير دهشتها عدم تورُّط الأميركي بعد، على الأرض. «الشيطان الأكبر» مطلوب للأسواق الإيرانية بعد التطبيع، «الشيطان الأكبر» مطلوب بإلحاح، لتدمير مزيد من العواصم العربية، ولو سقط أبرياء كثيرون. الأميركي يقصف من الجو، إيران تتحرك على الأرض لتشغيل أنظمة عربية لحسابها، ولو أفنت مئات الآلاف، في سورية والعراق… «داعش» فرصة ذهبية، ووحده يوحّد مصالح طهران وموسكو وواشنطن ونظام الأسد، على رقاب الجميع. الحرب الكونيّة في العالم العربي مديدة، والتحالف لم يبدّل تشاؤمه. هو يبرِّر بذلك فصولاً أكثر سواداً، وأشدّ مرارة.

إيران إذ ترى «مصلحتها» في «دويلة» مذهبية لا في سورية موحّدة
 عبدالوهاب بدرخان/الحياة/04 حزيران/15

ثلاثة لاعبين الآن على الأرض السورية: إيران وتنظيم «داعش» و «جبهة النصرة». إيران تهيمن على نظام بشار الأسد وتخطّط بالنيابة عنه و «حزب الله» ينفّذ. «النصرة» باتت القوة الضاربة لـ «المعارضة» في الشمال والجنوب ومحيط دمشق والقلمون، لكنها لا تشكّل سوى جزء من الواقع السوري ومن الشعب السوري. و «داعش» يحتل نصف مساحة البلد ويضطهد نحو عُشر السكان ويسيطر على المعابر الحدودية مع العراق، وليس معروفاً بالدقة لمن يعمل، لكن الواضح أنه كيفما اتجه يجد مستفيداً واحداً من تحركاته: إيران… بعد سقوط إدلب وجسر الشغور وأريحا في أيدي «جيش الفتح»، الوريث الهجين لـ «الجيش الحر»، أصبح مناوئو الأسد أمام خيارات عدة، منها: 1) الاتجاه شرقاً لاستكمال السيطرة على حلب، وهو يضاعف انهيار معنويات النظام لكنه الأقل خطراً عليه. 2) الاتجاه جنوباً نحو حماة وحمص، أو غرباً نحو اللاذقية على الساحل، كلاهما ممكن ويضيّق الخناق على النظام، بل يمكن أن يؤدي فعلاً إلى انهياره.

يشعر مؤيدو النظام بأنهم في مناخ نهاية العهد. تضاءلت آمالهم بإمكاناته عسكريةً كانت أم سياسية، يعرفون أنه لم يُهزم بعد، ويعرفون أيضاً أنه لم يعد قادراً على الانتصار. أصبح طموحه إنقاذ ما يمكن إنقاذه. كأن يحصل على «دولة» – «دويلة» لطائفته ومن يرغب في العيش معها. كذلك انعدمت ثقتهم بـ «الحليف الإيراني» الذي تغيّرت حساباته، مع اقتراب التوقيع على الاتفاق النووي وافتتاح «البازار» الأميركي – الإيراني للملفات الإقليمية. كان برود طهران في التعامل مع هزائم النظام مؤشراً واضحاً إلى أنها لم تعد معنية باستعادة النظام سيطرته على كامل سورية أو حتى على 60 في المئة كما كان الهدف مطلع 2014، أي أنها تفضّل الآن «دويلة علوية – شيعية» تستطيع أن تحافظ فيها على «مصالحها»، لسبب بسيط هو استحالة إبقاء الأسد كضمان لنفوذها واستحالة إبقاء هذا النظام في أي صيغة دولية لإنهاء الصراع، وبالتالي استحالة إبقاء الهيمنة الإيرانية كما أصبحت منذ منتصف 2012.

تعتبر طهران أن الانتشار الحوثي – «الصالحي» في اليمن شكّل لها ندّية على الأرض في مقابل سيطرة السعودية و «التحالف العربي» جواً وبحراً. أي أن الصراع مفتوح هناك على حرب ستحرص إيران على إطالتها، لتتمكّن من استخدام أوراقها التخريبية الأخرى في الخليج أو في سواه. ومن ذلك ألا تفقد «البوصلة» التي ساهمت في تخليقها: العودة إلى «داعش». فمن جميع الحلفاء الذين صنّعتهم بالشحن المذهبي، بقي هذا «اللاحليف» أفضلهم وأكثرهم خدمة لـ «محور الممانعة» ودرء «المؤامرات» التي تحاك ضدّه. بل إن المفتاح الرئيسي لكل أزمات المشرق أصبح يحمل اليوم اسماً واحداً: «داعش».

على رغم المكابرة والانفعال ظلّت إيران محتفظة بمقدار من البراغماتي يسمح لها بالاعتراف عملياً بأن «عاصفة الحزم» هزّت مشروعها «الإمبراطوري» وحالت دون تتويجه بالسيطرة على اليمن. لكن التطورات السورية وضعتها أمام خطر لم تره مقبلاً، وهو أن احتمال سقوط حليفها في سورية يمكن أن يقزّم مشروعها ويلحق بها هزيمة ستنعكس حتماً على نفوذها في بقية أنحاء «الإمبراطورية». لم تتحسّب لإمكان أن يتساهل «شريكها» الأميركي المقبل مع صعود «جبهة النصرة» ودورها في انتصارات المعارضة السورية. والواقع أن واشنطن أوفدت مبعوثها الخاص دانيال روبنشتاين إلى تركيا لإبلاغ أطراف المعارضة رفضاً أميركياً حازماً لإشراك «النصرة» في معاركها، ويفيد مصدر معارض بأن المبعوث تحدّث بعصبية بادية رافعاً صوته للإعراب عن غضب شديد. هل سينعكس ذلك على الوضع الميداني؟ هذا ما تراهن عليه طهران، خصوصاً مع استئناف المفاوضات النووية في جولة يريدها الجميع حاسمة. عادت إيران، إذاً، إلى تنشيط ورقة «داعش»، فقد أفادت سابقاً في تمييع مواقف الدول الغربية من قضية الشعب السوري وجعلها مسألة إرهاب، كما كانت مفيدة في محاولة حسم هوية العراق ونظامه في شكل لا رجعة فيه، وفي تغليب كلمتها مقابل الشروط الأميركية على بغداد بالنسبة إلى الاعتماد على ميليشيات «الحشد الشعبي». والأهم أن ورقة «داعش» مكّنتها من افتعال أزمة إقليمية عشية تنازلاتها النووية كي تفرض على الولايات المتحدة «شراكة حصرية» بحكم الأمر الواقع لمحاربة هذا التنظيم. وفيما سهّل سقوط الرمادي إقحام ميليشيات «الحشد» في القتال شاء الأميركيون أم أبوا، أرسل المرشد علي خامنئي مستشاره علي أكبر ولايتي إلى بيروت لنقل توجيهاته إلى الأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله بأن يريح نفسه موقّتاً من الشأن اليمني ليركّز مجدداً على سورية، إذ ينبغي منع سقوط النظام قبل أن تتمكّن إيران من المساومة به وعليه. ويحاول الإيرانيون الآن حصر خسائر نظام الأسد، بدءاً ببذل أقصى الممكن لإحراز نصرٍ ما في القلمون، ومن ثمَّ العمل على إفساد مكاسب المعارضة باستعجال «صراع وجود» بين «النصرة» و «داعش»، وكذلك بتفعيل الـ «فيتو» الأميركي – الروسي على توجّه المعارضة إلى الساحل.

لم يؤدِّ التدخل الإيراني إلى تدمير كبرى مدن سورية واقتصادها فحسب، بل أدّى خصوصاً إلى تقويض أي فرصة لحل سياسي – داخلي، مهما كانت ضعيفة، سعياً إلى صفقة دولية يُعتقد على نطاق واسع أن البحث فيها اقترب. ومن المؤشرات عودة التحادث الأميركي – الروسي عن روسيا على رغم القطيعة والانقطاع في مسائل أخرى. ومنها أيضاً الحوارات التي يجريها المبعوث الأممي في جنيف وتقريره الذي سيشكّل منطلقاً جديداً لواشنطن وموسكو، كذلك سعي القاهرة إلى امتلاك «ورقة» من خلال جمع معارضين معظمهم من الداخل، فضلاً عن الإعداد لمؤتمر موسّع في الرياض غداة عيد الفطر في تموز (يوليو) المقبل قد يبني على مؤتمر القاهرة ويستفيد منه.

وإذ يقول الجميع أن الدور والقرار هما للسوريين، فإن الأميركيين والروس والإيرانيين تجمعهم مصلحة في بقاء النظام وفي دور محوري يلعبه في إتاحة مرحلة انتقالية وفي إدارتها، لذلك فهم يميلون إلى «صفقة» يُطرح على أساسها «الحل السياسي». سيصعب التوصّل إلى هذه الصفقة ما لم تحصل إيران على كيان من لون مذهبي واحد معترف به وبتولّيها الدفاع عنه. ففي سورية موحّدة تحت حكم جامع لن تتحقق لإيران أي مصلحة. لكن هذا يفترض أن تكون القوى الدولية الأخرى جاهزة بدورها لسحب السكاكين والشروع في تقطيع الجغرافية السورية. وبمقدار ما يُنظر إلى «معركة الساحل»، إذا حصلت، على أنها ستؤدّي إلى مذابح طائفية، بمقدار ما تُعتبر ضربة قاصمة لأي «كيان إيراني»، وحائلاً دون تقسيم سورية. لذلك، كان الظهور الأول للجنرال الإيراني قاسم سليماني في سورية، بعد هزائم النظام، في ريف حماة، بما يوحي بالإعداد لهجمات مضادة والتركيز على إبعاد الضغط من منطقة الساحل.

قد لا يكون الأميركيون والروس في صدد تلبية الرغبة الإيرانية، لكن استمرارهم في الحديث عن الأزمة السورية والحل السياسي وعن ثبات اختلافاتهم، وبالمصطلحات نفسها كما قبيل فشل مؤتمر جنيف، يشير إلى أحد أمرين: إما أنهم يتجاهلون الواقع والمتغيّرات، أو أنهم يبحثون في خيارات لم يكشفوا عنها، إذ لم يعد هناك معنى حقيقي لـ «حل سياسي تفاوضي» منذ أطاح النظام «فرصة جنيف» على رغم التوافق/ التواطؤ الروسي – الأميركي لإنقاذه من جريمة استخدام السلاح الكيماوي. بل لا مجال لمثل هذا الحل ما دامت أميركا نفسها اعتمدت تقويضاً منهجياً للمعارضة بما فيها تلك التي تصنفها «معتدلة»، وواصلت تمسّكها بالنظام متذرّعة بـ «داعش» على رغم علمها بأن دخوله سورية وانتشاره كانا بتنسيق مع النظام والقنوات الإيرانية.