العميد الركن المتقاعد يعرب صخر: هل تقطع أميركا اليد التي تخدمها؟

92

هل تقطع أميركا اليد التي تخدمها؟
العميد الركن المتقاعد يعرب صخر/موقع الأمصار/16 آب/2023

يتردد في الآونة الأخيرة حديث يتصاعد يوميا” عن استعدادات وحشود أميركية برا” في شرق الفرات وبحرا” في المتوسط، بلغت لحد الآن ٧٥٠٠ جندي وطيران حربي وأساطيل وغيرها، في حراك غير طبيعي لم تشهده السنوات الماضية رغم ارتفاع وتائر التوتر وبلوغ التشنج مدياته القصوى، ولم تبادر أميركا فيها إلى أي تدبير أو تفاعل مع محيط الشرق الأوسط الدائم التصادم، تاركة” فيه التمادي الإيراني وأذرعها وعبثها المستمر في الساحات العربية، دون تحريك أي ساكن.

وعليه؛ لماذا الآن هذا الحراك الاميركي؟ ما الدواعي والمحفزات؟ وماذا تغير في النظرة الإستراتيجية الأمريكية للشرق الأوسط التي أخلت قبلها في عهد اوباما الساحة لإيران مع أن الإدارة الديموقراطية الحالية هي امتداد للتوجه الاوبامي قبلها؟ وما الذي استجد كي تنخرط مباشرة” الان؟ هل بفعل التراجع الروسي وانشغاله البالغ في أوكرانيا ؟ أم بسبب الانخراط الصيني المباشر في المنطقة؟ أم كليهما معا”؟ أم أن إيران قد تجاوزت حدود الدور المرسوم لها؟ اخيرا”؛ هل لتدارك التحول العربي والخليجي الذي تقوده السعودية عن أميركا نحو الصين، واستشعار الاميركي بخطورة انفلات الأوراق الجيواستراتيجية والجيو سياسية من بين يديها نحو فاعلين عالميين واقليمين جدد، ولا تريد خسارة الدور الريادي لها بهذه المنطقة الحيوية العالمية الأهم؟ وسياقا” مع ذلك؛ هل خطة الإحتواء الأميركية للإحاطة بالصين قد فشلت وها هي الصين تقلب خطتها عليها؟ ولا يفوتنا نهاية” أن نتساءل كذلك: هل يريد بايدن تسجيل إنجاز ما كما درج عليه معظم الرؤساء الأميركيين في منطقتنا، على أعتاب الانتخابات الرئاسية أو تجديد الولاية؟ (أوباما وتصفية بن لادن – ترامب وقتل سليماني…). وغير ذلك من تساؤلات متصلة لا شك أنها تحتمل جل اجوبتها في طياتها وبين حناياها.

إذا استعرضنا المسار الأميركي في المنطقة وتقلباتها منذ السبعينات، نستطيع تلمس التغيير والمستجد ونبني عليه ونستخلص منه استشرافا” المرحلة المقبلة.
وباقتضاب؛ نجحت خطة الاحتواء الاميركية للإتحاد السوفيتي منذ ترومان ١٩٤٧ حتى ريغان وادت لانهياره ١٩٨٩، واستفردت على إثره أميركا في الجيواستراتيجيا (قيادة العالم) وانتصرت الرأسمالية على الشيوعية، واندفعت مباشرة في الشرق الأوسط تستغل ظرفها. سبق ذلك في ١٩٧٩ عقيدة كارتر المرتكزة على ثلاث: امن إسرائيل وامن الطاقة وأمن الخليج هي مصلحة أميركية حيوية، لا تهاون في التصدي بالقوة لمهدداتها، وتعزز هذه العقيدة بعد بروز إيران في نفس السنة واجتياح السوفييت لافغانستان. لكن الذي تغير بعد أن لجأت أميركا بوش للقوة الصلبة في إزاحة آخر قوة عربية وهي العراق، سرعان ما استبدلتها بالقوة الناعمة أوباما بعد استتباب الامر لها في المنطقة. وحدث أن عقيدة كارتر الثلاثية قد أسقطها أوباما وابقى منها فقط أمن إسرائيل؛ حيث في بدايات العقد الثاني من القرن ٢١ اكتشفت أميركا النفط الصخري وحققت مخزونا” هائلا” واكتفاء” ذاتيا” للخمسين سنة القادمة، إلى جانب سيطرتها على ممرات وامدادات وأسعار الطاقة العالمية وأساطيلها تتحكم بكل المضائق؛ وأن إيران البارز الجديد يمكن لها أن تنوب عنها في إشغال العرب وانشغالها بهم فيتحقق أمن إسرائيل. من هنا نفهم كيف عقد أوباما الإتفاق النووي مع إيران وأخلى لها ساحة العراق تتوغل منه حيثما استطاعت في بؤرها العقائدية في الساحات العربية. كل ذلك كرمى الهدوء والأمن لإسرائيل؛ حيث بتنا نرى كيف تتوالى مشاهد القتل والخراب والعبث على يد إيران في الدول العربية المتاخمة والمهددة لإسرائيل، على رغم بعض التشنج الإيراني واذرعه مع إسرائيل الذي انتظم في قواعد اشتباك محدد ومحدود، لزوم ذر الرماد في العيون، ولم يؤد سوى إلى ضعضعة العرب وامكاناتهم واستنزاف إيران ومقدراتها وإسرائيل تعيش أزهى زمانها.

المتغير
هناك مفصلان أساسيان هما أساس التغير في النظرة الإستراتيجية الأمريكية نحو الشرق الأوسط، أو بالأحرى هما وراء عودتها:
١- القيادة السعودية الرشيدة:
اليقظة العربية وبالذات الخليجية وبالأخص السعودية، تنبهت لكل هذه التقلبات وتيقنت أن البراغماتية الأميركية ونظام المصلحة والنفعية هو المتحكم في اداراتها المتعاقبة. وادركت حضور عدو متربص جديد يشاغلها في اليمن خاصرتها الحيوية، يناوشها في العراق وسوريا ولبنان مجتهدا” لقطعهم عن هويتهم العربية، مثيرا” العقائديات المذهبية لتغليبها على الروح الوطنية للتمرد على أوطانها، محدثا” فيها التغييرات الديموغرافية والبنيوية أينما وحيثما وكيفما استطاع، باعثا” للفوضى واللا استقرار المستدام.. وحيال كل ذلك؛ أميركا تدير وجهها وتحول وجهتها، وكأنها تؤكد على سعيها لتفتيت المنطقة على قاعدة الأقليات التي قدمها مرشد المحافظين الجدد برنارد لويس وتبناها الكونغرس الأميركي ١٩٨٣ في جلسة سرية ونشرتها مجلة ال CIA في عددها الصادر في آذار ٢٠٠٣، سعيا” لتطوير سايكس بيكو من التقسيم إلى التفتيت، وانظر كيف يتشرذم العراق وسوريا والسودان ولبنان واليمن.
بعد كامب ديفيد والسلام المصري الإسرائيلي فوق الطاولة ومكافاتها بسيناء، وقبلها الاتفاقيات الكيسنجرية الأسدية الإسرائيلية تحت الطاولة بوقف النزاع ومكافاتها بلبنان…لم تعد الأمور كما قبلها أيام الملك الفذ فيصل. وبعد القضاء على العراق آخر قوة عربية وبروز إيران كمهدد إقليمي ورعاية أميركا لها أو على الأقل عدم التعرض الأميركي لها لا بل وعقد الإتفاق النووي معها ثم سحبه ثم إعادة إحيائه. وبعد ثبوت النية الأميركية بمنع العرب من النهوض وتغذيتها لكل صنوف التشويه للإسلام الأصيل بحجج محاربة الإرهاب، واعتمادها البراغماتية المغالية المتنافية في احيان كثيرة مع قيم الديموقراطية … وبعد أن باتت الشركات العملاقة العابرة للقارات بفعل العولمة وأولها شركات السلاح والطاقة صارت تتدخل وتؤثر في صنع القرار القائم على النفعية المادية والمصلحة المجردة بعيدا” عن مباديء وقيم الأمم المتحدة والضمير العالمي….

كلها وغيرها إشارات من شأنها أن تدفع بالقادة الخليجيين وعلى رأسهم السعودية، نظرا” لتغير الاهتمامات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، لتغيير كل التوجه الإستراتيجي الخليجي عبر نسج تخطيط استراتيجي جديد ورسم أهداف ومرامي قومية فاعلة ونظرة واستشراف مستقبلي واعد، وعلى ضوئها لتحديد الصديق من العدو.

ان التخطيط الإستراتيجي السليم والرؤيا وبعد النظر، وبعد التراخي الدولي، وتمادي الخطر الفارسي وفروعه، حتم على دول الخليج والقوى العربية المخلصة أن تتنادى لوضع البدائل وأن تتداعى لتفكر عن نفسها ولنفسها وتخطط لذاتها وفق رؤاها، لاستباق المستقبل القاتم وغيومه المتلبدة.
وهذا ما نراه ونلمسه يوميا” بثبات وتؤدة، إذ بتنا نرى السعودية مقررا” ليس اقليميا” فحسب، بل وعالميا” مؤثرا” مطلوب منه ويحسب له حساب.
فقهت القيادة السعودية الحالية كل ذلك، وبدأت بخطة التنمية الواعدة ٢٠٣٠ لخلق مجتمع يسوده الرخاء والاستقرار والأمان، ومنه توسع الدائرة لتشمل كل الشرق الأوسط، وتزامنا” بناء القوة الجيوسياسية والريادة الاقليمية والفاعلية العالمية؛ وهو ما يتحقق بخطوات وثابة ثابتة.

٢- الأزمة الروسية الأوكرانية
إذا كانت أميركا اللاتينية هي الحديقة الخلفية لأميركا، فأوروبا هي حديقتها الأمامية. وبفعل الأزمة الروسية الأوكرانية ومخاطر انقطاع أو شح الغاز الروسي عن أوروبا؛ اذا” وعلى ضوء ذلك؛ كيف تتصرف أميركا قائد الناتو حيال حليفتها أوروبا؟ من أين المصادر البديلة وكيف تتنوع؟ إنه الشرق الأوسط خزان الطاقة والوقود الأحفوري. حكمت الواقعية على بايدن أن يعود للخليج صاغرا” بعد أن كان يتعالى ويجافي ويزدري.

عودا” على بدء
كان لا بد من تتبع مسار السياسة الأمريكية /باقتضاب هادف/ في منطقتنا مع تقلباتها وأولوياتها، كي نتلمس من خلالها كيف تسير الإستراتيجية الأمريكية وكيف تتبدل وفقا” لظروفها، وكيف /وهو الأهم/ كيف نستفيد منها أو نتأثر ونؤثر بها لتطويعها لصالحنا. إذا كانت أميركا في حشودها الحالية وتعزيزاتها في سوريا وشرق الفرات، التي بدأنا بها دراستنا هذه، فعلا” بصدد إحداث تغيير فاصل على الأرض، فهذا معناه تغيير مهم في قواعد الاشتباك، والأهم أنه حضور بالأصالة بعد أن كان بالوكالة عبر إيران وأدواتها وإسرائيل. ترى؛ ما الداعي وما الهدف، وبالتالي ما هو المتغير، الذي اسهبنا في شرح جوانبه، الذي حدا بأمريكا أن تتهيأ لتغيير قواعد اللعبة؟ الثابت أن أميركا قد غيرت سلوكها ايجابا” مع السعودية كقائد عربي واعد يفرض نفسه وشروطه وحدود المسموح وغير المسموح. حاجة أميركا للخليج وعلى رأسه السعودية كما شرحنا آنفا”، ورغبتها في العودة الفاعلة التي بغيابها حدث الفراغ الذي ملأته الصين، وبوادر تعثر الإتفاق السعودي الإيراني برعاية الصين نتيجة إخلال إيران بتعهداتها.. وجدتها أميركا فرصة سانحة للعودة المباشرة؛ إلى جانب الرؤية الأميركية القديمة الجديدة في التطبيع العربي الإسرائيلي، ولا ننسى رغبة بايدن في تسجيل إنجاز ما في الشرق الأوسط يخدمه في تجديد الولاية أو لصالح حزبه في الانتخابات الرئاسية الوشيكة، بعد أن دانت له ولحلفائه الأمور تقريبا” في أوروبا بعزل وتحييد روسيا.

اكتملت التعبئة الأميركية في شرق الفرات. وبعدها ما الغرض ومتى التنفيذ؟ الأجدر بنا هنا بعد أن أسسنا لكل الحيثيات، أن نطرح الاحتمالات أو الفرضيات المباشرة التالية، بدل الجزم النهائي، وعلى ضوئها نتبين هل ان المطالب السعودية تمر عبرها؟: عزل ايران وتحجيمها في العراق وقطع خطوطها بين العراق وسوريا وصولا” للبنان؛ تحقيقا” لإضعاف تأثيرها في سوريا ولبنان، ومنعا” للخلل الديموغرافي الذي أحدثته وقطع مراكز وممرات تهريب المخدرات. انتهاء مهلة الصبر مع نظام بشار الذي اخل بكل تعهداته، وعزله عن التأثير الإيراني، تمهيدا” للتغيير السياسي الحاسم، وعودة اللاجئين.
متنفس للبنان لعودة الحياة السياسية السليمة فيه وبعث الروح في مؤسساته واقلاله من عثراته، وفك أسره من خاطفه حزب إيران في لبنان.
قطع الطريق على إيران للنفاذ إلى الاردن من العراق وسوريا، حيث بدات منذ مدة بوادر تصدير شحنات الكبتاجون والاستفزازات الحدودية والقلاقل الأمنية.

توالي الحديث عن تطبيع سعودي اسرائيلي بعد التعهد الأميركي للسعودية بقص أجنحة إيران وردعها عن التدخل في سيادة الدول العربية وإشاعة الفوضى وعدم الإستقرار؛ والتعهد الأميركي الإسرائيلي بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع. بالمقابل؛ نرى ان لا شيئا” قد استجد، بل يقتصر الحدث على حديث يومي بأن شيئا” ما قيد التحضير، وما من أي تغير. بل بالعكس رأينا الإفراج عن ١٠ مليار $ لإيران مقابل إخلاء سبيل ستة أسرى أميركيين. وتوازيا” رأينا شاحنة أسلحة لحزبللا تنقلب في لبنان/ الكحالة تخبرنا بما لا يدع مجالا للشك أن هذه الشاحنة قد سبقها مرور المئات ما قبلها ولا يزال يمر غيرها وسيبقى يمر ما بعدها وما بعد بعدها، تحت أنظار إسرائيل وأميركا، اللتان تعرفان مخازنها ومواقع تحميلها وخطوط سيرها وأماكن تفريغها، كراحة اليد. وما ضربات إسرائيل الفارغة وصفعات أميركا الناعمة، إلا تأديب وتذكير للالتزام بحدود دور مرسوم.

استنتاجا”
الى الآن لم يحدث أي تغيير على الارض؛ لكن يظهر أن الحراك العسكري الأميركي في شرق الفرات توطئة لعمل ما إذا تم، لا شك أن مهما سينتج عنه سيكون لصالح القوى الشرعية والوطنية العربية، لغير صالح الممانعين وأولهم إيران وتوابعها ونظام بشار؛ وبالتالي تغير حاد في مفاصل الجيوسياسية الشرق أوسطية. مع ذلك؛ من يضمن أن العملية ستقتصر في هذه البقعة لقطع أوصال ايران؟ وأنها لن تمتد كرد فعل إيراني إلى اليمن خاصرة السعودية والجولان وحدود لبنان واسرائيل، ما سيدفع بإسرائيل ايضا” إلى الانخراط المباشر وهي التي هددت بارجاع لبنان إلى العصر الحجري؟ أم أن العملية محدودة ومتفق عليها بحصرها في بقعة شرق الفرات وجواره؟ يبقى أن نقول بلا شك أن التفاوض الأميركي السعودي على مستوياته العليا هو الدافع لهذا الحراك الاميركي كشرط سعودي لتحجيم إيران وتوابعها وإنهاء الأسد ودولة فلسطينية في الضفة الغربية والقطاع، مقابل سلام مع إسرائيل وفق المبادرة العربية ٢٠٠٢. فهل تقبل إسرائيل التي بلغت للآن نسبة ٦٠% من مستوطناتها في الضفة؟ وهل وهو الأهم، ستقطع أميركا يد إيران التي خدمتها وخدمت إسرائيل طوال عقود!!!!