شارل الياس شرتوني: حادثة الكحالة، سقوط الجيش والتنكر للواقع/لبنان أو إلاحتضار الذي ينهي ولا ينتهي

117

حادثة الكحالة، سقوط الجيش والتنكر للواقع

شارل الياس شرتوني/11 آب/2023

لبنان بصيغته الحاضرة، إنتهى وعلينا الاعتراف بهذا الواقع، إذا ما أردنا الخروج من هذا الأفق المسدود القائم على دفاعات نفسية دفينة لا تختزن إلا الشر والعنف المضمرين والخوف المرادف من التسليم بهذا الاستنتاج. أما القرائن فتتلخص كالتالي:

أ-جمهورية الطائف لم تكن إلا جسر عبور نحو تصفية الكيان الوطني والدولتي على قاعدة مفارقات دستورية وسياسية أدت الى تعطيل السيادة اللبنانية، وجعلت من الدولة محور تناظم لسياسات نفوذ داخلية وخارجية تحكمها ديناميكيات نفوذ متقلبة تمفصلت بشكلٍ أساسي حول سياسات النفوذ السورية والإيرانية، وتقاطعات ظرفية قصيرة مع السياسات السعودية. البلد تحول منذ ١٩٩٠ الى مجموعة مقاطعات سلطوية تقاسمت فيما بينها ما سمي “سياسات إعادة الاعمار” وموارد البلاد, على قاعدة مقايضات حكمتها موازين القوى المتبدلة والمظللة بمراكز النفوذ الإقليمية ومندوبيها. الأزمة المالية وما إنطوت عليه من سياسات نهب منهجية، كانت التعبير الابرز عن التبدل الاستراتيجي لقواعد اللعبة السياسية بإتجاه سياسات انقلابية ألغت مفهوم وواقع دولة القانون، لحساب المصالح الاوليغارشية المتقاطعة والسياسات الانقلابية المتعارضة، وما نشأ عنها من اغتيالات وتعديلات في مراكز القوى، ضربت المرتكزات الميثاقية والدستورية والديموقراطية التي جعلت من الكيان الدولتي أمرأ ممكنًا، في ظل أزمات منازعة شرعية الكيان على مدى المئوية المنصرمة. لا تفهم سياسات النهب وآلياتها الاجرائية والإجرامية إلا من خلال تبدل روافع العمل السياسي وتموضعها على خطوط التقاطع بين مراكز القوى الاوليغارشية والنزاعات الإقليمية المتوالية منذ ١٩٩٠، وانتظامها الثابت على خط الفالق الزلزالي السني-الشيعي.

ب- السياسة الانقلابية الشيعية ليست إلا تعبيرا  عن إستراتيجية انقلابية إقليمية يقودها النظام الايراني، من خلال استحداث مراكز نفوذ واستثمار نزاعات وتبدلات استراتيجية، في كل من لبنان والعراق والاراضي الفلسطينية واليمن ودول الخليج العربي. تتلازم هذه السياسة الانقلابية مع تداخل عوامل ثلاث: صياغة متخيل شيعي إنقطاعي مبني على پارانويا معممة تستخدم العوارض الشيعية التاريخية المنعقدة حول المظلومية والحرمان والدونية، منطلقًا لسياسات نهيلية تستبيح كل المحرمات وقواعد التواصل الانساني السوي والمطبع مع الآخرين، على نحو يتماثل  مع القاعدة وداعش.

ج- الانهيار التلقائي لفكرة وواقع وإرث دولة القانون، كما تأسس  مع نشوء دولة لبنان الكبير، واندثارها التدرجي من خلال أزمات كيانية متعاقبة، لم تترك حيزا زمنيًا ولو بالحد الادنى، لتركيز وتشريع واستدخال هذه المعطيات الأساسية في صلب الاجتماع السياسي الفعلي في البلاد، الأمر الذي دمر النموذج الديموقراطي الأوحد في الفضاء السياسي العربي.

حادثة الكحالة لم تكن الا إحدى التظهيرات الظرفية لسياسة إنقلابية نهيلية الطابع حيث تتقاطع الهلوسات الشيعية حول عاشوراء مع  كل أشكال الاستباحة المعنوية، والعنف المطبع، وتشريع النهب، واستخدام المؤسسات الدستورية غطاءات رثة لممارسات إنقلابية، تنتظم على خطوط تقاطع الإرهاب والجريمة المنظمة والأنومية السلوكية التي تستبيح كل المحظورات التي تجعل الاجتماع الانساني ممكنًا، انطلاقًا من الشرع الجعفري ومنطق الافتاء الذي يتوازى مع التشريعات المدنية ويلغيها. هذه الشاحنة، هي صورة عن هذا البلد الذي تقطره سياسات النفوذ والجريمة المنظمة والإرهاب الديني الطابع الى حيث ما تقتضي المصالح الظرفية وإملاءاتها.

لقد اسقطت حادثة الكحالة الوهم حول أخر حيثية للوجود الدولتي في لبنان: الجيش. لقد سقط الجيش مع رضوخه لاملاءات حزب الله الذي استثمر الحادث للتأكيد على أولوية مرجعيته الأمنية والمعنوية، وإرهاب سكان الكحالة الذين يعيشون للمرة الثانية تحت وطأة إغتيالاته، وبث الخوف في الأوساط المسيحية. هذا الاداء هو نموذج لما نحن قادمون إليه في الأشهر القادمة،  وكما تؤذن به أحداث عين إبل، وبشري-الضنية، وجرود كسروان وجبيل …  هذا ليس بحادث عابر، فشاحنات الاسلحة والتهريب والعمل الارهابي ليسوا حوادث طارئة، بل مؤشرات لتبدلات بنيوية تطال قواعد الاجتماع السياسي في البلاد، والسلم الاهلي، والتوازنات الاستراتيجية. إن مهزلة إجتماع الديمان واداء هذه الحكومة المسخ، والانتخابات الرئاسية هي جزء من مسرحية الظلال حيث تتوازى لعبة الدمى مع لعبة الدم والهمجية المتقادمة.

المسرح السياسي المسيحي يترنح بين دجل السياسة الفاشلة التي بنى عليها ميشال عون: الاذعان لإرهاب الهمجيات الشيعية أو الدخول في متاهات سياسة التنظيف الاتني التي اعتمدت في الأوساط الشيعية، وانتظمت قواعدها منذ بدايات الحرب الأهلية مع احتلال ساحل المتن الجنوبي والشوف الساحلي والشمالي وصولا الى تخوم المتن الاعلى البقاعية، ووصولا الى سياسات الارهاب والاغتيال المنهجي التي تظهرت مع عملية تفجير المرفأ الارهابية، وانطلاقًا من الاغتيالات الجماعية والترهيب الذي طاول سياسيي ١٤ آذار، والمناطق السنية في غربي بيروت سنة ٢٠٠٨، وشهود تفجير مرفأ بيروت. مفارقات سياسات القوات والكتائب اللبنانية لجهة الانخراط في لعبة الطائف الاستراتيجية والقدرة على ضبط مفاعيلها، في وقت تبدلت فيه قواعد اللعبة المقفلة في إشكالياتها ولاعبيها. البطريركية المارونية خسرت مرجعيتها المعنوية لحساب زئبقية مواقف البطريرك الراعي، ونوعية أدائه، وعدم وعيه لطبيعة المرحلة، وخطورة الإشكاليات الاستراتيجية المطروحة.

كل اللعبة المؤسسية في لبنان مغلوطة ومزورة وأي مشاركة فيها دون تعديل في موازين القوى هو تضليل لا ثاني له.  إن احياء اللعبة المؤسسية لا سبيل له خارجًا عن التدويل في كل مندرجاته السياسية والمالية، وإلا فنحن أمام سياسات إنقلابية موصدة.  لقد سقط دور  الجيش كحام للكيان الدولتي واللعبة الدستورية بفعل الانصياع لاملاءات الفاشيات الشيعية، وتحت تأثير الخروقات البنيوية التي نالت من تماسكه واستقلاليته المهنية، وحرية مبادرته ضمن اللعبة القائمة.  لقد دخلت المنطقة في ديناميكية سياسية جديدة دفع به إنهيار التفاهم السعودي -الايراني، وبروز محور أميركي-سعودي يؤسس لتسوية فلسطينية-اسرائيلية، وعودة لبنان الى مسرح المواجهات الاقليمية والدولية البديلة، وكل الباقي يندرج في سياق النتائج والخلاصات التي تستحثها.

لبنان أو إلاحتضار الذي ينهي ولا ينتهي
شارل الياس شرتوني/09 آب/2023
إن الاجتماع الهزلي الذي عقد في الديمان بحضور بعض أعضاء حكومة تصريف الأعمال، وملابسات فراغ حاكمية مصرف لبنان، ورمي الملف الجنائي والقضائي العائد لتفجير مرفأ بيروت إلارهابي في سلة المهملات وسط تواطاءات سياسية وقضائية بينة، ومعارك توحيد الساحات التي ظهرتها حرب المخيمات، وإسقاط ملف التهجير السوري من دائرة التداول، والتلاعب الوقح بالمهل والصلاحيات الدستورية العائدة للانتخاب الرئاسي ومداخلة حكومة تصريف الاعمال، ما هي إلا مؤشرات تظهر تداعي الكيان الوطني والدولتي الذي لم يعد سوى تورية لسياسات النفوذ الشيعية التي تديرها إيران.

لقد أعادنا إجتماع الديمان الى مهزلة إتفاق مار مخايل ومقايضاتها التي أسست لإنهيار المد الاستقلالي الذي نشأ مع ثورة الارز، والإتفاق الرباعي الذي أعاد تركيب إختلالات قديمة في مرحلة جديدة، وإنتخاب ميشال عون،الى واقع تصفية السيادة اللبنانية، وتحويل الدولة الى كيان إسمي يستعمل غطاء لسياسات إنقلابية متوالية. لقد وصلت سياسة إلانقلاب الشيعية الى قلب الممانعة السيادية التي شكلتها بكركي في مرحلة البطريرك نصرالله صفير. إن كل المبررات التي يعطيها البطريرك بشاره الراعي ليست الا غطاءات رثة لتغطية سياسة انقلابية تعتمد المناورة، والكذب نهجًا من أجل الدفع قدمًا بخياراتها وفرض ترشيحاتها.إن مهزلة انعقاد مجلس الوزراء في المقر الصيفي للبطريركية المارونية على مفارقاتها الدستورية والسياسية، تنبئنا عن واقع التفكك المديد والنافذ الذي طال الحياة السياسية، والتآكل الذي أصاب الديناميكية الكنسية المجمعية غداة إنتخابه بطريركًا.

تظهر مسألة نهاية ولاية حاكمية المصرف المركزي الالتباسات التي تكتنف سياسة النفوذ الشيعية التي وضعت يدها على القرار المالي في البلاد (وزير المالية، المدعي العام المالي، حاكم المصرف المركزي ولجنة المال النيابية من خلال ابراهيم كنعان). المعادلات المالية مقفلة مع متابعة سياسة الاقتراض التي أسست لسياسة النهب المنهجي للودائع على خط التواصل بين جمعية المصارف، والبنك المركزي والحكومات والمجالس النيابية المتعاقبة. ليس سرًا أن متابعة سياسة الاقتراض من المصرف المركزي لتمويل رواتب القطاع العام ومندرجاتها الزبائنية والريعية والحيازية، وغياب السياسات إلاصلاحية لجهة إنهاء التضخم الوظيفي السرطاني، والمصاريف العامة المفخخة، وسياسات شفط ما تبقى من أموال المودعين من خلال منصة صيرفة وتعاميم مصرف لبنان، والسوق السوداء والتهريب على أنواعه، وإقتصاد الجريمة المنظمة المتوازي، وتعمم التبادل المالي الكاش، وإبقاء الهيكليات المصرفية على حالها خارجًا عن أية خطة إصلاحية تقلص هذا القطاع الذي لا دور له سوى تأمين المداخيل الريعية وتبييض أموال الجريمة المنظمة والإرهاب، لحساب قطاع مصرفي منتظم على قاعدة مقررات بازل، ومرتبط بشكل عضوي بالسياسات الانمائية على إختلاف أوجهها، الصناعية والزراعية والتربوية والاستشفائية والبيئية…،.هذا لن يتم من خلال موظف مرتبط بسياسة النفوذ الشيعية، بل من خلال تطبيع الوضع السياسي عبر انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة حول برنامج إصلاحي بنيوي قائم على تثبيت الاستقرار السياسي، وإعادة هيكلة النظام المالي والاقتصادي والقضائي، وإحترام مبدأ فصل السلطات، وسلطة دولة القانون. أما الحل المرحلي لرواتب القطاع العام، فيتطلب تأمين الموارد الضريبية السوية، وإقفال المعابر الحدودية على التهريب والاقتصاد غير المشروع، وضبط إيرادات الجمارك، ووقف الافتاء الجعفري لحساب تشريعات دولة القانون (خلافًا لفتاوى صادق النابلسي وأحمد قبلان بشأن التهريب)، ووضع حد لنهب الإدارات اللبنانية العامة من قبل المافيات الشيعية وأصنائها.

لقد تظهرت مسألة نسف المسار الجنائي والقضائي لجريمة المرفأ إلارهابية خلال الذكرى الثالثة التي أحالتنا الى الاقصاء الإرادي لهذا الملف بكل جوانبه، لحساب سياسة قهر وإذلال متعمدة. تقع المراهنة على العدالة اللبنانية في سياق سياسة التضليل، والاستسلام للسياسات التي تقف وراء هذا العمل الإرهابي، وما انطوت عليه من إسقاط للتحقيق بشقيه الدولي والمحلي، ومسلسل إلاغتيالات المتوالية، والتدخل السافر في عمل القضاء اللبناني، والحؤول دون أي نقاش ومساءلة داخل البرلمان. لا إمكانية لأي خرق جدي في حيثيات هذا الملف خارجًا عن تدويل الجريمة على تقاطع أعمال إستقصائية، وقانونية، وقضائية.

معارك المخيمات الفلسطينية متغير ثابت في مجال تدمير الكيان الوطني والدستوري للدولة اللبنانية لحساب سياسات النفوذ الدولية والإقليمية منذ ما يقارب السبعة عقود. أما الجديد مع هذه المعركة فهو استعمال الفصائل الفلسطينية لهدفين متوازيين، قلب موازين القوى في المخيمات لصالح التيارات الاسلامية بالتواتر مع إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، في محاولة لاحتواء سياسة التسوية المزمعة من خلال مبادرة أميركية-سعودية مستحدثة، وغداة تبدد سياسة التطبيع السعودية-الإيرانية. لبنان كما في زمن التحالف بين الفصائل الفلسطينية واليسار خلال الحرب (١٩٧٥-١٩٩٠) ، ليس سوى ساحة تصريف لنزاعات تستحثها الديناميكيات النزاعية الإقليمية. لا سبيل لأي إستقرار سياسي داخلي خارجًا عن إستئصال الدوامات النزاعية الإقليمية من تضاعيف السياسة اللبنانية وسياقاتها. إن الابقاء على الفراغات الدستورية ومحاولة تطويعها لأولويات سياسات النفوذ، هو نهج إرادي يستهدف إرساء آلية تآكل تنهي الكيان الدولتي اللبناني على نحو تدرجي وثابت يختصر أهداف سياسة النفوذ الشيعية. من ناحية أخرى، لقد أدخل التهجير السوري متغيرا جديدًا على الديناميكيات النزاعية في البلاد، لجهة كثافته وتمدده، وتردداته الديموغرافية والسياسية والأمنية، والتعامل معه على قاعدة الاستثناءات السيادية التي دمرت لبنان على مدى العقود السبعة الماضية. إن إسقاط مسائل الاستثناءات السيادية والسلاح غير الشرعي في المخيمات الفلسطينية والتموضع السوري داخل النسيج اللبناني من المفكرة السياسية، سوف يضاعف عوامل التفكك البنيوي الذي يصيب الاجتماع السياسي على إختلاف مندرجاته.

مسألة الانتخاب الرئاسي تلازم مسألة دستورية أكثر شمولية لجهة إستعادة الدولة اللبنانية لحيثياتها الدستورية، والجيو-سياسية، والمعنوية، وإستقلاليتها عن محاور النفوذ الداخلية والخارجية. إن ربط الاستحقاق الرئاسي بحسابات سياسة النفوذ الإيرانية وأولوياتها المتحركة والتسليم باملاءاتها، يدخلنا في سياق تثبيت سياسة الهيمنة الشيعية، وترسيخ واقع الأزمات الكيانية والدستورية والمالية التي سوف تقضي على ما تبقى من قدرة على إحياء الدولة، وإستعادة المبادرة من خلال عمل المؤسسات، والتواصل الديموقراطي المهدد بالاغتيالات المتوالية التي ترافق سياسة الأبواب الموصدة والخيارات المقفلة. إن سياسة البلد الرهينة المبنية على سياسة أخذ الرهائن الملازمة للإرهاب الدولتي الإيراني، والمناورات السياسية المضللة لم تعد تجدي في واقعنا ولا مجال للتعايش معها.