نديم قطيش/الفكرة اللبنانيّة أقوى من الحزب….مضحك أن يسطوَ حزب على فكرة السيادة، هو الذي يُعتبر مجرّد وجوده، نقيضاً لمضامينها ومعانيها

110

مضحك أن يسطوَ حزب على فكرة السيادة، هو الذي يُعتبر مجرّد وجوده، نقيضاً لمضامينها ومعانيها.
ما لم تكن الرئاسة المقبلة مناسبة لاستعادة لبنان، فلتكن فرصة لإعادة تأسيس القضيّة اللبنانية وتحرير “الفكرة اللبنانية” من براثن السطو والتأويل.

الفكرة اللبنانيّة أقوى من الحزب
نديم قطيش/اساس ميديا/الإثنين 22 آب 2022
لا يكفي العنوان للاطمئنان طبعاً. بيد أنّه ملمح بارز في سلوك ميليشيا حزب الله، الذي كلّما حاد عن مضامين ما يتّفق عليه اللبنانيّون أنّه هويّتهم وقيمهم وأسلوب عيشهم، عاد واستعار من هذا المَعين، ولو في إطار الدعاية السياسية، والفولكلور والكليشيه.
يسند هذا بعضاً من اليقين في الفكرة اللبنانية في لحظة تشبه الاحتضار.
إبّان صعود حركة “14 آذار”، فرضت الجماهير والقوى السياسية، والعقول النيِّرة التي زخرت بها أركان الثورة، عنواناً بسيطاً للصراع هو “أحبّ الحياة”.. في العمق كان الصراع فعلاً بين قوى الموت و”التمويت” وبين قوى الحياة، بكلّ مباهجها ومفاتنها ومباعث السرور فيها. كنّا ندافع عن أفضل أساليب العيش، وكانت الميليشيا تقترح علينا أفضل سبل الموت وتسمّيه “استشهاداً”!
بإزاء الحملة، استعارت الميليشيا عنوان “أحبّ الحياة” وأضافت إليه مفردات من معجمها الأيديولوجي، لتصير العبارة “أحبّ الحياة.. بكرامة” مثلاً! ولك أن تتخيّل عزيزي القارئ مآلات الكرامة اليوم، وهي بالمناسبة أقوى وأعزّ مفردات خطاب الميليشيا، وأنت تراقب وجوه البشر الواقفين في طوابير الخبز والماء والدواء.
مضحك أن يسطوَ حزب على فكرة السيادة، هو الذي يُعتبر مجرّد وجوده، نقيضاً لمضامينها ومعانيها. فالسيادة فكرة لا تنفصل عن فكرة الدولة والحدود والدستور
تنمّ هذه الاستعارات المزمنة عن فشل ميليشيا حزب الله في إنتاج فكرتها الخاصّة عمّا تريده للبنان، أو عن إقرارها بقصور فكرتها، التي تعلن عنها أحياناً، عن ملاقاة القبول الواسع خارج الملتزمين بها داخل البيئة الخاصّة بالميليشيا.
قبل أيّام أتحفنا رئيس كتلة حزب الله البرلمانية، بأنّ حزبه هو حزب السيادة الحقيقيّ، في سياق السجالات المندلعة حول مواصفات الرئيس المقبل، والأرجّح أن يتأخّر كثيراً عن السكن في قصر بعبدا.
مضحك أن يسطوَ حزب على فكرة السيادة، هو الذي يُعتبر مجرّد وجوده، نقيضاً لمضامينها ومعانيها. فالسيادة فكرة لا تنفصل عن فكرة الدولة والحدود والدستور، وكلّها طرق تؤدّي إلى فكرة أخرى بسيطة تقوم على أنّ الدولة الشرعية صاحبة التفويض العلنيّ من الشعب، تحتكر حقّ استخدام أدوات العنف التي تراوح في الداخل بين السجن والإعدام لمواطنيها وفق محاكمات عادلة وقوانين معلنة ومتوافق عليها وبين إعلان الحرب بالنسبة للخارج. أمّا حزب الاغتيالات وحروب المرتزقة في الإقليم فلا صلة بينه وبين مضامين السيادة، إلّا إدراكه أنّ المقاومة ما عادت مقنعة ولا بدّ من تلبيسها لبوساً من قاموس اللبنانيّين وفكرتهم عن أنفسهم منذ بدأت مغامرة بناء هذا الكيان منذ القرن السادس عشر! تركيب السيادة على مقاومةٍ صارت بكلّ سلوكها، النقيض الموضوعيّ لكلّ شأن سياديّ، يقدّم دليلاً على هُزال أفكار حزب الله (إن وجدت)، في مقابل التاريخ المديد للفكرة اللبنانيّة..
استعارة السياحة… الجهادية
ولا تتوقّف الاستعارات عند اللغة، بل تمتدّ لتطال أسلوب العيش نفسه، مثل استعارة السياحة وتوظيفها في لعبة الدعاية والتعبئة.
فقبل أيّام أعلنت ميليشيا حزب الله عن وضع حجر الأساس لـ “معلم جنتا السياحيّ الجهاديّ” وألقى رئيسها خطاباً للمناسبة.
فبدل بعلبك التي يشاغب حزب الله على مهرجاناتها وفعّاليّاتها كلّ حين، ويتسلّل بمجسّماته وصوره وأقواسه إلى فنائها، وبدل كازينو لبنان الذي يمقته محمد رعد شخصيّاً، وبدل شواطئ ومطاعم وملاهي لبنان، يتهيّأ معلم جنتا للانضمام إلى معلم مليتا في إقليم التفّاح، في سياق بناء سياحة بديلة، وهويّة بديلة للبنان.
المفارقة أنّ “حزب السيادة الحقيقي”، بحسب محمد رعد، يُقيم معلماً يحتفي بوصول “رُسل الإمام الخميني” إلى لبنان وتأسيس أوّل “معسكر للتدريب” يُقيمه الحرس الثوريّ الإيراني في المشرق، بهدف “مساعدة المقاومين اللبنانيّين، وتدريبهم ونقل التجربة العسكريّة إليهم وتقديم الدعم اللوجستي لهم”. ولا بدّ من التذكير هنا أنّ معسكر جنتا وُلِد بعد أن رفض حافظ الأسد التغلغل الخمينيّ في سوريا، وقنّن دخول “رُسل الإمام”، ثمّ تنازل لاحقاً بالسماح لهم بالتوجّه إلى لبنان، بعد أن عبر الإسرائيليون نهر الأوّلي نحو بيروت، خلافاً للتفاهم الإسرائيلي السوري على حدود الاجتياح وضرورة بقائه ما قبل الأوّلي ساحلاً وتلال جزّين جبلاً.. ولا بدّ من التذكير أيضاً أنّ موقف الأسد المعارِض سيولّد لاحقاً حرباً طاحنة بينه وبين الخميني طوال النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي، دفعت ثمنها آلاف الأسر الشيعية اللبنانية التي ذبح أبناؤها بعضهم البعض بالوكالة عن صراع دمشق طهران.
إلى السيادة والسياحة التي يستعيرها حزب الله من قاموس الفكرة اللبنانية، يستعير أيضاً فكرة التعايش الإسلامي المسيحي. غالباً ما تختار ماكينة الدعاية، مناسبات مسيحية للترويج في سياقها لصور مسؤولي الحزب وبعض الكهنة المسيحيّين مترافقين ومتضاحكين، أو كما صورة أحد مقاتلي الحزب يؤدّي التحيّة لتمثال للسيّدة العذراء، في سياق الدعاية لحرب حزب الله في سوريا والتحريض على السُنّة اللبنانيّين كدواعش يستهدفون المسيحيّين، الذين يُلقي عليهم حزب الله عباءة الحماية..
تُفصح هذه الاستعارات عن ضحالة فكرة حزب الله أبعد من السلاح، وعن حاجته إلى تعويض هذه الضحالة باستخراج ما تيسّر من كليشيهات الفكرة اللبنانية، بغية ضمان انتساب إليها، ولو زوراً وتمثيلاً.
الفكرة اللبنانية قويّة. يشهد لها هذا السطو الممنهج على أركانها، كأن لا فكرة بديلة تقوم خارجها أو باستقلال تامّ عمّا راكمه اللبنانيون من تصوّرات عن أنفسهم وبلدهم ونظرتهم للحياة وأسلوب العيش.
فكرة قويّة وموجودة وتستحقّ الدفاع عنها، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه مضامين معركة الرئاسة المقبلة، مهما بدت حظوظ الانتصار فيها قليلة. ما لم تكن الرئاسة المقبلة مناسبة لاستعادة لبنان، فلتكن فرصة لإعادة تأسيس القضيّة اللبنانية وتحرير “الفكرة اللبنانية” من براثن السطو والتأويل.