رسالة البابا فرنسيس الميلادية لمسيحيي الشرق: الحوار المرتكز على الانفتاح أفضل ترياق لتجربة الأصولية الدينية

305

رسالة البابا الميلادية لمسيحيي الشرق: الحوار المرتكز على الانفتاح أفضل ترياق لتجربة الأصولية الدينية

وكالات/23.12.14/وجه البابا فرنسيس، رسالة إلى مسيحيي الشرق الأوسط لمناسبة عيد الميلاد، جاء فيها: “تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل عزاء، فهو الذي يعزينا في جميع شدائدنا لنستطيع، بما نتلقى نحن من عزاء من الله، أن نعزي الذين هم في أية شدة كانت” (2 كو 1، 3- 4). عادت إلى ذاكرتي كلمات القديس بولس هذه عندما فكرت أن أكتب إليكم، أيها الإخوة مسيحيو الشرق الأوسط. أكتب إليكم مع اقتراب عيد الميلاد المجيد، عالما أنه بالنسبة للعديد منكم ستمتزج نغمات الترانيم الميلادية بالدموع والتنهدات. ولكن تبقى ولادة ابن الله في جسدنا البشري سر تعزية يفوق الوصف: “فقد ظهرت نعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع الناس” (طي 2، 11).

فالآلام والمحن لم تغب قط عن ماضي الشرق الأوسط البعيد والقريب. لا بل تفاقمت خلال الأشهر الأخيرة بسبب النزاعات التي تعذب المنطقة، لاسيما بسبب أعمال إحدى المنظمات الإرهابية الناشئة حديثا والتي تبعث على القلق، حجمها يفوق أي تصور، وتمارس شتى أنواع الانتهاكات وممارسات لا تليق بالإنسان، وتضرب بشكل خاص بعضا منكم الذين طردتم بطريقة وحشية من أراضيكم حيث يوجد المسيحيون منذ عصر الرسل.

وإذ أتوجه إليكم لا يمكنني أن أنسى أيضا الجماعات الدينية والعرقية الأخرى التي تعاني أيضا من الاضطهاد وتبعات هذه النزاعات. أتابع يوميا أخبار المعاناة الكبيرة للعديد من الأشخاص في الشرق الأوسط. أفكر بشكل خاص بالأطفال والأمهات والمسنين والمهجرين واللاجئين، وجميع الذين يعانون من الجوع، ومن عليه أن يواجه قساوة الشتاء بدون سقف يحميه. هذا الألم يصرخ نحو الله ويدعونا جميعا للالتزام بالصلاة والمبادرات بجميع أنواعها. أرغب بأن أعبر للجميع عن قربي وتضامني كما عن قرب الكنيسة وتضامنها، وأن أقدم كلمة تعزية ورجاء.

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، يا من تشهدون ليسوع بشجاعة في أرضكم المباركة من الرب، إن المسيح هو عزاؤنا ورجاؤنا وبالتالي أشجعكم لتثبتوا فيه، كالأغصان في الكرمة، واثقين بأنه لا يمكن لشدة أو ضيق أو اضطهاد أن تفصلنا عنه (را. رو 8، 35). لتساعدكم هذه المحنة التي تعيشونها على تعزيز إيمانكم وأمانتكم جميعا.

أصلي كي تتمكنوا من عيش الشركة الأخوية على مثال جماعة أورشليم الأولى. إن الوحدة التي أرادها ربنا هي ضرورية أكثر من أي وقت مضى في هذه الأوقات الصعبة؛ إنها عطية من لدن الله الذي يسائل حريتنا وينتظر جوابنا. لتغذي كلمة الله والأسرار والصلاة والأخوة جماعتكم وتجددها على الدوام.

يشكل الوضع الذي تعيشون فيه دعوة قوية لقداسة الحياة، كما شهد قديسون وشهداء من كل انتماء كنسي. أتذكر بمودة وتقدير الرعاة والمؤمنين الذين دعوا في الأوقات الأخيرة لبذل حياتهم وغالبا لمجرد كونهم مسيحيين. أفكر أيضا بالأشخاص المخطوفين، من بينهم بعض الأساقفة الأرثوذكس والكهنة من مختلف الطقوس. ليتمكنوا من العودة سالمين إلى بيوتهم وجماعاتهم. أسال الله أن يعطي هذا الألم، المتحد بصليب الرب، ثمار خير للكنيسة ولشعوب الشرق الأوسط.

في خضم العداوات والصراعات، تشكل الشركة المعاشة في ما بينكم، ضمن إطار الأخوة والبساطة، علامة لملكوت الله. إني مسرور حيال العلاقات الجيدة والتعاون القائم بين بطاركة الكنائس الشرقية الكاثوليكية وتلك الأرثوذكسية، وبين مؤمني مختلف الكنائس. إن الآلام التي يعاني منها المسيحيون تقدم إسهاما لقضية الوحدة لا يقدر بثمن. إنها مسكونية الدم التي تتطلب استسلاما واثقا لعمل الروح القدس.

أتمنى أن تتمكنوا دائما من الشهادة ليسوع من خلال الصعوبات! إن حضوركم ذاته هو شيء ثمين بالنسبة للشرق الأوسط. إنكم قطيع صغير، لكنكم تتحملون مسؤولية كبيرة في الأرض حيث ولدت المسيحية وانتشرت. إنكم كالخميرة وسط سواد الناس. وقبل الأعمال الكثيرة التي تقوم بها الكنيسة في المجال المدرسي والصحي والإعاني، والتي تحظى بتقدير الجميع، يشكل المسيحيون، أي أنتم، الكنز الأثمن بالنسبة للمنطقة. شكرا على مثابرتكم!

إن جهدكم الهادف إلى التعاون مع أشخاص من ديانات مختلفة، مع اليهود ومع المسلمين، يشكل علامة أخرى لملكوت الله. الحوار ما بين الأديان يكتسب أهمية أكبر بقدر ما تزداد الأوضاع صعوبة. لا يوجد سبيل آخر. إن الحوار المرتكز على مواقف الانفتاح، في الحقيقة والمحبة، يشكل أيضا أفضل ترياق لتجربة الأصولية الدينية التي تهدد مؤمني كل الديانات. والحوار هو في الآن معا خدمة للعدالة وشرط أساسي للسلام المنشود.

يعيش معظمكم في بيئة ذات غالبية مسلمة. يمكنكم أن تساعدوا مواطنيكم المسلمين على أن يقدموا، باستبصار، صورة أكثر أصالة عن الإسلام كما يريد كثيرون منهم، من يرددون أن الإسلام هو دين سلام ويمكن أن يتفق مع احترام حقوق الإنسان ويسهل التعايش بين الجميع. وهذا يعود بالفائدة عليهم وعلى المجتمع برمته. إن الوضع المأساوي الذي يعيشه أخوتنا المسيحيون في العراق، بالإضافة إلى اليزيديين والمنتمين إلى الجماعات العرقية والدينية الأخرى، يتطلب اتخاذ موقف واضح وشجاع من قبل جميع المسؤولين الدينيين، كي يشجبوا – بالإجماع وبشكل لا لبس فيه – جرائم من هذا النوع وينددوا بالتذرع بالدين لتبريرها.

جميعكم تقريبا مواطنون أصليون في بلادكم وتتمتعون بالتالي بالواجب وبالحق في المشاركة التامة بحياة أمتكم ونموها. أنتم مدعوون في المنطقة لأن تكونوا صانعي السلام والمصالحة والنمو، لتعززوا الحوار وتبنوا الجسور تماشيا مع روح التطويبات (را. مت 5، 3-12) وتعلنوا إنجيل السلام وتكونوا منفتحين على التعاون مع كل السلطات الوطنية والدولية.

أود أن أعبر بنوع خاص عن تقديري وامتناني لكم، أيها الأخوة الأعزاء البطاركة، الأساقفة، الكهنة، الرهبان والراهبات، يا من ترافقون باهتمام مسيرة جماعاتكم. ما أثمن حضور ونشاط من كرسوا أنفسهم بالكامل للرب، ويخدمونه في الأخوة، لاسيما المحتاجين منهم، من خلال الشهادة لعظمته ومحبته اللامتناهية! كم هو مهم حضور الرعاة إلى جانب قطيعهم، خصوصا في أوقات الشدة!

أيها الشباب، أعانقكم عناقا أبويا. أصلي من أجل إيمانكم، ومن أجل نموكم الإنساني والمسيحي، وكي تتحقق مشاريعكم الفضلى. أكرر لكم القول: “لا تخافوا أو تخجلوا من كونكم مسيحيين. إن العلاقة مع يسوع ستجعلكم مستعدين للتعاون بلا تحفظ مع مواطنيكم مهما كان انتماؤهم الديني” (بيندكتس السادس عشر، الإرشاد الرسولي الكنيسة في الشرق الأوسط، 63).

أوجه لكم أيها المسنون مشاعر التقدير. أنتم ذاكرة شعوبكم، آمل أن تكون هذه الذاكرة بذار نمو للأجيال الجديدة.

أود تشجيع العاملين بينكم في حقلي المحبة والتربية البالغي الأهمية. أقدر العمل الذي تقومون به، ولاسيما من خلال هيئات كاريتاس وبمعونة المنظمات الخيرية الكاثوليكية في عدة بلدان، مقدمين المساعدة للجميع بدون تمييز. فمن خلال شهادة المحبة، تقدمون الدعم الأكثر فائدة للحياة الاجتماعية وتسهمون أيضا لصالح السلام الذي تحتاج إليه المنطقة كالجوع إلى الخبز. وكذلك في حقل التربية أيضا حيث مستقبل المجتمع على المحك. كم هي مهمة التربية على ثقافة اللقاء، واحترام كرامة الإنسان والقيمة المطلقة لكل كائن بشري!

أيها الأعزاء، وإن كنتم قليلين من حيث العدد فإنكم رواد حياة الكنيسة والبلدان التي تعيشون فيها. إن الكنيسة كلها قريبة منكم وتؤازركم، مع الكثير من المحبة والتقدير لجماعاتكم ورسالتكم. سنواصل مساعدتكم من خلال الصلاة والوسائل الأخرى الممكنة.

وفي الوقت عينه، أواصل حث المجتمع الدولي على تلبية احتياجاتكم واحتياجات الأقليات الأخرى التي تتألم؛ وبالدرجة الأولى، عن طريق تعزيز السلام بواسطة التفاوض والعمل الدبلوماسي، وبالسعي لاحتواء ووقف العنف في أسرع وقت ممكن والذي سبب أضرارا كثيرة. أكرر الإدانة القاطعة للاتجار بالأسلحة. فنحن نحتاج بالأحرى لمشاريع ومبادرات سلام، لتعزيز حل شامل لمشاكل المنطقة. فكم من الوقت يتعين بعد على الشرق الأوسط أن يتألم من جراء غياب السلام؟ لا يمكننا الاستسلام للنزاعات كما ولو أن أي تبدل بات مستحيلا! على خطى زيارة حجي إلى الأرض المقدسة ولقاء الصلاة اللاحق في الفاتيكان مع الرئيسين الإسرائيلي والفلسطيني، أدعوكم لمواصلة الصلاة من أجل السلام في الشرق الأوسط. ليتمكن كل من أرغم على ترك أراضيه، من العودة إليها والعيش بكرامة وأمان. لتتضاعف المساعدة الإنسانية من خلال التركيز دائما على خير الإنسان وكل بلد في احترام هويته الخاصة، بدون تفضيل مصالح أخرى. لتكن الكنيسة كلها والجماعة الدولية أكثر إدراكا على الدوام لأهمية حضوركم في المنطقة. أيها الأخوات والإخوة الأعزاء مسيحيو الشرق الأوسط، لديكم مسؤولية كبيرة، ولن تكونوا وحدكم في مواجهتها! ولهذا أردت أن أكتب إليكم لأشجعكم ولأعبر لكم عن مدى قيمة حضوركم ورسالتكم في هذه الأرض التي باركها الرب. إن شهادتكم تفيدني جدا. شكرا! أصلي يوميا من أجلكم ومن أجل نواياكم. أشكركم لأنني أعلم أنكم، ووسط معاناتكم، تصلون من أجلي ومن أجل خدمتي للكنيسة. آمل كثيرا بنوال نعمة زيارتكم شخصيا ومؤازرتكم. لترافقكم العذراء مريم، أم الله الكلية القداسة وأمنا، ولتحميكم دائما بحنانها. أمنحكم جميعا وعائلاتكم البركة الرسولية وأتمنى أن تعيشوا الميلاد المجيد في محبة وسلام المسيح المخلص”.