كريستيان ساهنر/العالم العربي ينهي المسيحيين

380

العالم العربي ينهي المسيحيين
كريستيان ساهنر/السياسة/21.12.14

في عيد الميلاد هذا العام, مثل كل عام يسافر الآلاف من الحجاج والسياح إلى الشرق الأوسط للاحتفال بالعيد في أرض الكتاب المقدس. في بيت لحم, مهد السيد المسيح, سيتولى بطريرك اللاتين في القدس قيادة قداس منتصف الليل, بينما في سورية – حيث ما يزال بعض المسيحيين يتحدثون لهجات آرامية على غرار اللغة القديمة التي كان يتحدث بها السيد المسيح- من المرجح أن يكون العيد هادئا, أو مختصرة احتفالاته نظرا الى مخاطر الحرب التي تمزق البلاد. في الوقت الذي يشتعل فيه الشرق الأوسط بالفتنة الطائفية تأتي عطلة عيد الميلاد لتذكر بشكل محزن بأن التنوع, الديني والعرقي والثقافي, المميز في المنطقة يختفي بسرعة. في بداية القرن العشرين, كان المسيحيون يشكلون نحو 20 في المئة من سكان العالم العربي.

وكانوا يشكلون الأغلبية المطلقة في بعض المناطق, بما في ذلك جنوب مصر, وجبال لبنان, وجنوب شرق الأناضول. اما اليوم, فالمسيحيون يمثلون 5 في المئة فقط من سكان العالم العربي, والعديد منهم لا يزالون يغادرون مضطرين هربا من الاضطهاد والحروب. اليهود, أيضا الذين كان لهم وجود حيوي في مدن, مثل القاهرة ودمشق وبغداد, اختفوا من الأجزاء ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط, وانتقلوا إلى إسرائيل وأوروبا وأميركا الشمالية. حتى في المجتمعات الإسلامية, تجد أن التنوع يتضاءل, ففي مدن مثل بيروت وبغداد, أخذ سكان الأحياء المختلطة والمتجانسة, سنة وشيعة, البحث عن ملجأ من الهجمات الطائفية والحرب الأهلية.

إن انحسار التنوع في الشرق الأوسط يعود الى أكثر من قرن من الزمان, حين وقعت موجات من التطهير, العرقي والديني, في عهد الامبراطورية العثمانية, بما في ذلك قتل وتشريد 1.5 مليون مسيحي أرمني وسرياني في شرق الأناضول. بعد انهيار الإمبراطورية في عام ,1918 وصعود القومية العربية وضعت اللغة والثقافة العربية في مقام الهوية السياسية, وبالتالي حرم العديد من المجموعات العرقية غير العربية من حقوقها, بما في ذلك الأكراد واليهود والسريان. كثير من اليونانيين الذين كانوا يعيشون في مصر منذ أجيال على سبيل المثال, فقدوا مصادر رزقهم في خمسينات القرن الماضي, عندما امم الرئيس جمال عبد الناصر, حامل لواء العروبة العظيم, الشركات والمصانع المملوكة للقطاع الخاص. وأجبر آخرين على الفرار من البلاد تماما. صعود الإسلام السياسي في أعقاب حرب الأيام الستة بين العرب وإسرائيل في العام 1967 كان ضربة أخرى للأقليات الدينية. وتشجيع عودة الإسلام كحل لمشكلات المنطقة, أدى إلى تهميش الإسلام لغير المسلمين, بما في ذلك المجموعات التي ادت أدوارا مهمة أو بسيطة في الحياة, الاقتصادية والثقافية والسياسية, في المنطقة لقرون عدة. نتيجة لذلك, واجه المسيحيون في أماكن مثل مصر التمييز الاجتماعي القاسي والعنف, وأحيانا على يد الدولة العلمانية اسميا. إن الاضطرابات الناجمة عن الربيع العربي أدت إلى تحديات جديدة خطيرة على التنوع, الثقافي والديني, في الشرق الأوسط. العديد من الأنظمة الاستبدادية المهددة بالانهيار اليوم دعمت الأقليات.

هذا صحيح, و بخاصة في سورية, حيث عزز حزب “البعث” الذي يهيمن عليه العلويون علاقاته مع المسيحيين والطوائف الصغيرة الأخرى من خلال تقديم نفسه باعتباره حصنا للعلمانية والاستقرار في مواجهة أغلبية من السنة يفترض أن تهددهم. حاليا قامت الطائفة السنية في سورية ضد الحكام من العلويين, وأصبح ولاء المسيحيين للنظام مسؤولية, وحتى خطر. من بعض الزوايا, يعتبر المسيحيون شركاء في القمع الوحشي الذي تمارسه الحكومة, ما يجعلهم أهدافا للهجوم. كما أثار صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) خلال العام الماضي المزيد من العنف ضد الأقليات. يسعى “الدولة الإسلامية” مدعوماً بعقيدة أصولية, وشهية لا حدود لها لسفك الدماء, الى العودة إلى خلافة متخيلة لما قبل الحداثة, يعامل فيها الشيعة وغير المسلمين كمواطنين من الدرجة الثانية. عندما تستولي الدولة الإسلامية على مدينة ما فإن مقاتليها يضعون المسيحيين أمام خيارات دفع الجزية أو التحول إلى الإسلام, أو التعرض للقتل. العديد منهم يفرون بكل بساطة. الأزيديون في شمال العراق الذين لقيت محنتهم شهرة واسعة في جبل سنجار الصيف الماضي كانوا الأقل حظا. ف¯”الدولة الإسلامية” يعتبرهم وثنيين, وبالتالي, لا يستحقون الحماية الممنوحة تقليديا للمسيحيين أو اليهود بموجب الشريعة الإسلامية(كما يفهمها هذا التنظيم). ونتيجة لذلك, فإن العديد من الإزيديين قتلوا أو جرى استرقاقهم. بالإضافة إلى اضطهاد الأقليات, عمد”الدولة الإسلامية” الى محو كل الآثار المادية للتنوع الديني. وقد هدم مقاتلوه الأضرحة الصوفية والمساجد الشيعية والكنائس المسيحية, والآثار القديمة التي يعتبرونها من مخلفات الماضي الفاسد والمدنس.

وقد كانت حماية الحكومات الغربية للأقليات العرقية والدينية في المنطقة مسألة مثيرة للجدل منذ أكثر من قرن من الزمان ولا تزال حتى اليوم. فالعديد من أهل السنة, على سبيل المثال, يتهمون أميركا بالمحسوبية “تتدخل الولايات المتحدة لحماية الأكراد والأزيديين والمسيحيين في شمال العراق”, كما يقولون, “ولكن لا تفعل سوى القليل لوقف ذبح مئات الآلاف من أهل السنة في سورية”. في الواقع, تاريخ العلاقات الأميركية المعقدة بين الكنيسة والدولة في الداخل جعلها تتردد في التدخل الى جانب أي مجموعة دينية في الخارج, وخصوصا عندما يكون عدد السكان قليلا. إن نهاية التنوع في الشرق الأوسط مأساة ليس فقط بالنسبة الى أولئك الذين لقوا حتفهم أو هربوا أو ما يزالون يعانون. فالمنطقة ككل سوف تكون أسوأ حالا نتيجة غيابهم.

وقد عملت الأقليات تاريخيا كوسطاء بين الشرق الأوسط والعالم الخارجي, وإذا اختفت هذه الأقليات, فإن المنطقة ستخسر فئة مهمة من قادة الثقافة والاقتصاد والفكر. إن طريقة تعامل أي مجتمع مع التنوع, العرقي والديني, يمكن أن يعكس الكثير عن قدرته على التفاوض حول الخلافات وتحويل التعددية من مسؤولية إلى أصل من الأصول. ومع ذلك فكثيرا ما يعتبر التنوع مصدر ضعف في الشرق الأوسط. يجب أن ننظر إليه على أنه قوة . قوة تستحق الحماية.

*كاتب أميركي صدر له اخيرا كتاب” من بين الركام: سورية الماضي والحاضر” والمقالة نشرت في ” بروجكت سندكيت”