شارل الياس شرتوني/دولة المفارقات القاتلة والأفق المسدود

98

دولة المفارقات القاتلة والأفق المسدود

شارل الياس شرتوني/30 كانون الثاني/2022

إن المعاينة المجردة للتطورات السياسية الأخيرة في بلادنا تعيدنا الى خلاصة ثابتة: لا إمكانية لحل أي من المسائل المحورية العائدة للاستقرار السياسي والتدبير الفعلي للشؤون الحياتية البالغة  التدهور، دون اجماع وطني حاسم حول المسألة السيادية  وتحييد لبنان عن سياسة المحاور، وأولوية المعالجات المالية والاقتصادية والاجتماعية. ما نشهده اليوم هو النقيض التام لما تستوجبه المرحلة، من إجماع حول خيارات وطنية تتجاوز المفكرات والمصالح الفئوية والسياسات الانقلابية، التي توصف الاداءات الاوليغارشية ونهج الفاشيات الشيعية، ومفارقات التيارات المعارضة .لا بد من استعادة المحاور التي تظهر هذه المفارقات التي يتغذى منها واقع الفراغات القاتلة التي تقضي شيئا فشيئا على قدرة البلاد على استعادة عافيتها على نحو تدرجي، والخروج من واقع “الأزمات المتناسلة” والنزاعات الاقليمية المفتوحة.

-ظهرت المبادرة الكويتية حرص دول الخليج على حماية لبنان من مفاعيل النزاع الايراني -الخليجي على تعدد جبهاته اليمنية، السعودية، البحرانية، الكويتية وعلى مستوى الإمارات  المتحدة، والحؤول دون تحول لبنان الى منطلق مباشر لتهديد أمن هذه الدول، عبر تحييده وتطبيق القرار ١٥٥٩، الذي يسمح للدولة اللبنانية استعادة حيثيتها وقراراها السيادي على مستوى السياسة الخارجية والأمن الوطني، والحؤول دون استعمالها منطلقا لسياسة النفوذ الايرانية على المستوى الاقليمي. الجواب القاطع على هذه المبادرة هو التعرض المباشر والمتواتر للقوات الدولية في جنوب لبنان، تأكيدًا على واقع الاستثناء السيادي الذي ينطلق منه حزب الله في عمله السياسي والعسكري، وانطلاقا من أولوية السياسة الانقلابية  الشيعية التي تقودها ايران على المستوى الاقليمي. هذا يعني بالتالي أن التعاطي مع الواقع الدولتي اللبناني هو انتهازي وغير عابىء بالاجماع الوطني الذي يستلزمه، على مستوى السياسة الخارجية والأمن الوطني. هذه الملاحظات تحيلنا الى خلاصة وحيدة، لا إمكانية لتعايش مفارقات الدولة واللادولة، كما عرفناها زمن التحالف الانقلابي الذي أقامه اليسار الفاشي مع المنظمات الفلسطينية منذ منتصف الستينات، وكما تفرضه معادلة “المقاومة الجيش والشعب”، وما نشأ عنها من مقايضات وتسويات ملتبسة بين حزب الله والاوليغارشيات على مستوى طاولات الحوار والاتفاقيات التي خرجتها، والتي عبر عنها بشكل فاقع وليد جنبلاط البارحة عندما رفض السير بتطبيق القرار ١٥٥٩ واتفاق القاهرة سابقا، بحجة تعريض السلم الاهلي والتموضع الايديولوجي عند تخوم المنظمات الفلسطينية وتورياته اللبنانية: لبنان هو رديف مصالحه وتموضعاته المتنقلة (كما كان الحال مع كمال جنبلاط) ولا وجود موضوعيا للدولة اللبنانية خارجًا عنها.

– إن أزمة التمثيل السني الناشئة عن إنسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية، تعود الى زمن مديد أسس لهذا التداعي المفاجىء، سببه ركاكة ادائه السياسي ومقايضاته المالية-السياسية، ودرجة الخرق السياسي والمديني، ونفاذ العمق الاستراتيجي الذي تستند اليه سياسة النفوذ الشيعية وتمفصلها على خط استوائي ينتظم بين طهران والدواخل السورية واللبنانية، وتبدد الديناميكية السياسية التي أطلقها رفيق الحريري وتوزعها الحالي على مراكز قوى تتدرج بين قوى سياسية تقليدية وتيارات إسلامية سلفية. سوف يدفع واقع التذرر باتجاه تفعيل ديناميكية الخرق والانقلاب في الأوساط الشيعية، واستنهاض صراعات النفوذ في الأوساط السنية، وتناثر الساحة السياسية اللبنانية وما يحفزه من مداخلات اقليمية. يؤشر هذا الواقع الى هشاشة البنية السياسية الدستورية والمؤسسية، وأرجحية صراعات النفوذ المتفلتة وانكشافها على الواقع الاقليمي المتفجر، وتحيلنا هذه الملاحظات الى طبيعة الاستحقاق النيابي القادم وإمكانية إجرائه، وإعادة إحياء التداول الديموقراطي للسلطة في ظل مناخات وشروط موضوعية نافية للسيادة الوطنية بحدودها الدنيا.

– لقد ظهر تعاطي الحكومة الحالية مع الملف المالي المفارقات السيادية لجهة بلورة السياق التفاوضي مع صندوق النقد الدولي دون أي إجماع حول حجم الدين العام وتوزيع الخسائر بين الدولة والمصرف المركزي والمصارف والمودعين وما يستلزمه من تداول وإقرار مسبق  من قبل هذه الاطراف، وما يترامى من أخبار حول إتفاق الاوليغارشيات السياسية-المالية على تحميل معظم الخسارة للمودعين، على مستوى نسب توزيع الخسارة والعملة المعتمدة، وبغياب أية خطة واضحة لجهة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ودور البنك المركزي، والنهوض الاقتصادي المتوازي المتلازم معها. إن استعادة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بغياب أي خطة إصلاحية شاملة،تطال الحوكمة والقضاء والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية، هي طريق مسدود، لإن المؤسسات الدولية لن تحرك المبادرات التمويلية بغياب أفق وآليات إصلاحية واضحة.

إن الغياب المتعمد لأية خطة إصلاحية يبرز جليًا مع مشروع الموازنة  الذي ينطلق من التجاهل التام للواقع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي الذي أدت اليه السياسات المالية  منذ بدايات حكم الطائف، واداؤها التخريبي الإرادي منذ بداية الأزمة الأخيرة، عند رفضها إقرار الكاپيتل كونترول مع إغلاق المصارف في تشرين الأول ٢٠١٩، وما سبقه ولحقه من تهريب كثيف لأموال الاوليغارشيات، والاستنكاف عن إقرار خطة الإنقاذ المالي وتعطيل مسار التفاوض مع صندوق النقد الدولي، واحالة السياسة المالية الى تعاميم مصرف لبنان، وسياسات الانفلاش النقدي، والسوق السوداء، والتهريب التي قضت على مدخرات المودعين وأفقرتهم لحساب الائتلافات الاوليغارشية القائمة، والتجاهل المبرح  لضرورة ربط السياسات المالية الظرفية بخطة انمائية شاملة تخرج البلاد من دائرة الانهيارات المفتوحة. ناهيك عن محض صلاحيات استثنائية لوزير المالية لجهة تحديد سعر الصرف وإقرار ضريبة الدخل(كما ظهره إقرار الصحن الضريبي ودوائر التكليف)، مخالفة لمبدأ فصل السلطات واستقلالية المصرف المركزي، والاطاحة بضرورة تخريج إجماع وطني حول خيارات اصلاحية أساسية تمكننا من مواجهة الأزمة المالية ومترتباتها الاقتصادية والاجتماعية الكارثية.

هذه الملاحظات كافية للتدليل على عدم وجود أية نية لدى الاوليغارشيات الحاكمة والمتآلفة  مع سياسة الفاشيات الشيعية الانقلابية، على قاعدة مقايضات مصلحية بينة، للخروج من سياسات التفرد باتجاه تخريج تسويات تعيد للدولة اللبنانية حيثيتها الديموقراطية والاجرائية، وتتيح  للبنانيين إمكانية الخروج من سياسة الابواب الموصدة، والأزمات المعيشية القاتلة، والتدمير المنهجي لأسس الحياة الاقتصادية، والذخر الاجتماعي الذي بنته البلاد على مدى المئة سنة الماضية على نشأة الكيان الوطني. لقد آن أوان مواجهة هذا التدمير الارادي الذي تحكمه مصالح اوليغارشية وأهداف انقلابية واضحة المعالم والتوجهات، ولا سبيل لذلك خارجا عن الاحتكام الى المؤسسات الدولية لجهة حماية الأحكام السيادية والحق في تقرير المصير، وإقرار خطط الاصلاح الهيكلية التي تخرجنا من دائرة الأزمات المفتعلة والمقفلة.