فارس خشان: عبوس بلينكن ولودريان يُضحك نصر الله/في الدول التي تغيب عنها المساءلة ويسيطر عليها الاغتياليون لا قيمة لا للتلويح بالجزرة ولا للتهديد بالعصاه

108

“عبوس” بلينكن ولودريان “يُضحك” نصر الله

*في لبنان، ثمة وسيلة واحدة يمكن أن تنفع، وهي إظهار المجتمع الدولي، بما لا يقبل أدنى شك، أنّه لا يتحدّث بلغتين، واحدة مضمرة تشجّع على “النوم مع الشيطان”، وثانية معلنة تنال ممّن لا حول لهم ولا قوّة.

*القوة المحورية في لبنان، تتمثّل في “حزب الله”، حصراً

*أصبح نصرالله أقوى من النص الدستوري، وأهم من المنصب الدستوري

*منذ إنجاز صفقة إيصال ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، لم تعد ثمّة قضية وطنية في لبنان، بل أصبحت البلاد مرهونة لمصالح الطبقة السياسية

*في الدول التي تغيب عنها المساءلة ويسيطر عليها “الاغتياليون”، لا قيمة لا للتلويح بالجزرة ولا للتهديد بالعصا

فارس خشان/النهار العربي/27 حزيران/2021

لن تستطيع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا أن تفعلا شيئاً في لبنان وللبنان، مهما تقاطعت وجهتا نظرهما، وفق ما عبّر عنه وزيرا خارجية البلدين أنتوني بلينكن وجان إيف لودريان.  الدولتان تشترطان لمساعدة لبنان “وجود قيادة حقيقية في بيروت”، كما قال بلينكن، في حين أنّ الواقع يثبت أنّ “القيادات السياسية الراهنة أوهن من أتفه تحدّ وطني”، وفق تعبير لودريان.

ولن يجدي عمل واشنطن وباريس معاً، من أجل إيجاد قيادة لبنانية مؤهّلة، لأنّ لا سياسة الجزرة نفعت ولا سياسة العصا. إنّ التدقيق بالدينامية السياسية الاخيرة في لبنان، أظهرت، بشكل لا يقبل أيّ جدل، أنّ القوة المحورية في لبنان، تتمثّل في “حزب الله”، حصراً، فأمينه العام حسن نصر الله يمسك بالمبادرات، واليه توجّه المناشدات.  وفي لبنان، يتفوّق رضى نصر الله على كل رضى آخر، فهو لا يوزّع الحصص والمناصب فحسب، بل هو يتحكّم بالإبقاء على قيد الحياة، أيضاً. والطبقة السياسية تخشى العقوبات الأميركية والفرنسية والأوروبية حتماً، ولكنها تخشى على حياتها أكثر. ويدرك العقل السياسي اللبناني مدى أهمية المجتمع الدولي، ولكنّه، في المقابل، يعرف أكثر مدى خطورة “حزب الله”.

ومنذ إنجاز صفقة إيصال ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، لم تعد ثمّة قضية وطنية في لبنان، بل أصبحت البلاد مرهونة لمصالح الطبقة السياسية. وحيث تعلو راية المنافع تندثر إرادة التضحيات.  وعليه، فإنّ مستقبل لبنان ليس مرتبطاً بما يمكن أن تفعله واشنطن وباريس للدفع في اتجاه إيجاد قيادة لبنانية قادرة في لبنان، بل بما يمكن أن يُقرّره “حزب الله” المرتاح الى وضعيته الراهنة، فهو يمسك بناصية القرار اللبناني، والجميع يلهثون وراء رضاه. ولقد أصبح نصرالله أقوى من النص الدستوري، وأهم من المنصب الدستوري. في العادة، تتوسّل الأحزاب، مهما بلغت قوتها، رضى رئيس الجمهورية، مهما بلغ ضعفه. حالياً، رئيس الجمهورية ميشال عون، بواسطة صهره جبران باسيل، يستجدي رضى نصر الله وحزبه.

وهذا الواقع، لا يحتاج الى جهد كبير لفهم تداعياته. إن واشنطن وفرنسا “تتمرجلان” على القيادات التي فقدت حيلها، ولا تستطيعان، بالمعادلات التي رسمتاها، بداية مع إيمانويل ماكرون ولاحقاً مع جو بايدن، أن تفعلا شيئاً حيال “حزب الله” المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي الذي “ترجوانه” أن يقبل بالعودة إلى الاتفاق النووي.

وعليه، هل يوافق “حزب الله” على تشكيل قيادة جديدة في بيروت قادرة على إقناع الدول المانحة، كما يرغب بلينكن ولودريان؟ لو أنّ “حزب الله” يسمح بذلك، لما كانت المبادرة الفرنسية وُجدت أصلاً، لأنّ ما تقدمه هذه المبادرة للبنان، سبق أن قدّم أفضل منه، وحين كان لبنان بوضعية أفضل بآلاف الأضعاف، كلّ من “مؤتمر سيدر” ومقررات “المجموعة الدولية لدعم لبنان”، ونتائج مؤتمرات باريس1 و2 و3.  إنّ تطلعات “حزب الله” اللبنانية تكاد أن تصل الى أهدافها، فلماذا تتيح قيادته، التراجع عنها، حالياً، ما دام لبنان القديم الذي رفضه “حزب الله” اندثر، ولبنان الجديد الذي يتطلّع إليه يتكوّن؟

في واقع الحال، إنّ لبنان القديم الذي لديه علاقات مهمة ومؤثّرة في العالم، ينتهي، لمصلحة لبنان الذي يتحكّم به “حزب الله”، وتالياً إيران. ولو كان “حزب الله” يقبل بوجود “قيادة حقيقية في بيروت”، لما كان قد قاد “الثورة المضادة” ضد “ثورة 17 أكتوبر”، ولما كان قد وقف سدّاً منيعاً ضد إجراء انتخابات نيابية مبكرة، ولما كان دفع حكومة حسّان دياب التي وقف وراء تشكيلها، الى الاستقالة، على الرغم من معرفته باستحالة تشكيل غيرها، في ظل “العداوة المتجددة” بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري. إنّ “حزب الله” اختار الفراغ، عن سابق تصوّر وتصميم، لأنّه وجد المعادلات الداخلية سانحة ليوجه أقوى ضرباته، بيد غيره، الى ما بقي صامداً، في وجه هيمنته، في النظام اللبناني. من هم خصوم “حزب الله” راهناً في الداخل اللبناني؟

هم عملياً، ليسوا سوى فئات معزولة سياسياً، وغير قادرة على إنجاز معادلة وطنية حقيقية، ولا تملك الأدوات التي تعينها على إسماع صوتها في عواصم القرار التي لا تفتّش عمّن يُحسِن التفكير بل عمّن يملك القدرة على التنفيذ.

وعليه، فإنّ السؤال الفعلي، لا يتصل بالآلية التي سوف تتبعها واشنطن وباريس لترجمه ما قاله بلينكن ولودريان، لأنّ نهجهما الضاغط معروف، وهو يستند الى العقوبات التي، مهما قست، تبقى أرحم من الاغتيال، بل بالخطوة التالية التي سيلجأ اليها “حزب الله” للتخلّص نهائياً من عبء ما بقي صامداً في النظام اللبناني؟ من الصعب اقتحام دائرة أسرار “حزب الله”، ولكنّ المؤشرات قد تساعد على حل “اللغز”. إنّ التدقيق في الإشكاليات التي تحول دون تشكيل الحكومة، يُظهر أنّ أحداً لا يعمل على تشكيل حكومة سوف ينتهي عمرها في أيار/ مايو المقبل، مع الانتهاء من استحقاق الانتخابات النيابية.

وينهي الدستور عمر أيّ حكومة مع انتخاب مجلس نيابي جديد. وتبيّن خلفيات الإشكاليات المانعة لتشكيل الحكومة أنّها سوف تستمر الى ما بعد استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

وفي عودة الى أحاديث سابقة مع مقرّبين من رئيس الجمهورية ميشال عون، يتبيّن أنّ هؤلاء برّروا تشدد عون في تشكيل الحكومة بأنّ الحكومة العتيدة قد تبقى لما بعد انتهاء ولايته الرئاسية، وتالياً فإنّ التأثير المسيحي فيها الذي يوفره حالياً عون يجب أن يوفّره الوزراء، في حال خروجه من القصر الجمهوري.

وهذا يعني أنّ هناك قراراً مضمراً بعدم حصول الانتخابات النيابية المقبلة في موعدها، وكذلك الحال، بالنسبة للانتخابات الرئاسية. وقد جرى تطبيع اللبنانيين مع فكرة عدم إجراء الانتخابات النيابية، وليس أدل على ذلك سوى عدم اهتمام أحد بخرق الدستور لجهة عدم إجراء انتخابات نيابية فرعية لملء شغور عشرة مقاعد، في المجلس النيابي الحالي.

لقد مرّ هذا الاستحقاق مرور الكرام، في عهدة حكومة مستقيلة “تربّح” اللبنانيين “جميلة” لتصريفها الأعمال، وفي ظل أسوأ كارثة تعصف بالبلاد. كما أنّه جرى إقناع كثير من اللبنانيين بأنّ الانتخابات النيابية لزوم ما لا يلزم، فهي لن تغيّر المشهد السياسي الحالي، بل سوف تكرّسه. وهذا إنْ كان صحيحاً، نسبياً، بما يتعلّق بالثنائي الشيعي، إلّا أنّه ليس كذلك بما يتّصل بالقوى الأخرى التي يستعملها “حزب الله”، في خدمة مخطّطه. و”حزب الله”، أظهر، مع اندلاع “ثورة 17 أكتوبر” أنّه لا يخشى على وضعيته من الناس، بل على وضعية شركائه في المعادلة السياسية، فهو لم ينجز سيطرته على الواقع اللبناني، إلّا بواسطة هؤلاء الشركاء. ولا يزال “حزب الله” بحاجة الى هؤلاء “الشركاء”، وهو، إذا بقي بحاجة إليهم، مع حلول الاستحقاقات المقبلة، لن يرضى بحصول انتخابات نيابية من المؤكد أنها سوف تضعفهم، وهو، إذا عجز عن التمديد لميشال عون في رئاسة الجمهورية، فإنّه سيختار شبيهه، أي الفراغ الرئاسي.

أمام هذه المعطيات، ماذا يمكن لواشنطن وباريس أن تفعلاه؟ تفرضان عقوبات. حسناً، ولكن على من؟ على “حزب الله” المعاقب أصلاً؟ على ميشال عون وصحبه الذين لا يجدون أنّ ثمة عقوبة أقسى وأعنف من خسارة السلطة؟ على سعد الحريري الذي اعتاد على أفدح الخسائر؟ على الشعب اللبناني الذي تكفّلت سلطته ومافياتها وميليشياتها بـ”تشليحه” حتى لقمة عيشه؟ إنّ الأدبيات الدولية جيّدة، ولكن ثبت أنّها لا تجدي نفعاً، ففي الدول التي تغيب عنها المساءلة ويسيطر عليها “الاغتياليون”، لا قيمة لا للتلويح بالجزرة ولا للتهديد بالعصا.

في لبنان، ثمة وسيلة واحدة يمكن أن تنفع، وهي إظهار المجتمع الدولي، بما لا يقبل أدنى شك، أنّه لا يتحدّث بلغتين، واحدة مضمرة تشجّع على “النوم مع الشيطان”، وثانية معلنة تنال ممّن لا حول لهم ولا قوّة. بالنسبة لكثيرين، فعل بلينكن ولودريان، تماماً، ما لا يجب فعله، بتاتاً، إذا كان هدفهما الفعلي، أن يجدا في بيروت يوماً قيادة حقيقية.