مجازر العلويين والخيارات الممكنة… في سوريا مجموعات أخرى تختلف عن بعضها بعضاً على الصعد اللغوية والدينية والطائفية والقومية د. وليد فارس/انديبندت عربية/15 آذار/2025
المعادلة الآن، لا سيما بعد الاتفاق الذي تم بين “قسد” و”هيئة تحرير الشام” تمكين الدولة السورية الجديدة لكي تخرج من الحرب وتنطلق إلى النهوض الاقتصادي، إلا أن الجرح الذي فتح في اللاذقية وبانياس وطرطوس لا بد من أن يأتي أحد لتضميده. خلال الأسبوع الماضي برزت عناوين صادمة في الصحافتين العربية والدولية حول تطور هائل في صوره ومحزن في وقائعه وصعب في حلوله، تمثل في مجموعة الأحداث الأمنية التي وقعت بمنطقة الساحل السوري وأهمها وأخطرها ما جرى تداوله عن قتل جماعي كبير من العائلات العلوية. وأعلنت الأمم المتحدة أنها وثقت مقتل 1000 مواطن حتى الآن ورجح عدد من الهيئات غير الحكومية ارتفاع الأرقام المنتظرة إلى آلاف، إلا أن ذلك لن يحسم قبل مرور أشهر أو أكثر حتى صدور أي تقرير مفصل عن جهات دولية.
سلطات “هيئة تحرير الشام” في دمشق أوضحت أن هدف العملية الأمنية كان استئصال “فلول قوات الأسد” المتهمة بشن عمليات عسكرية ضد قوات الأمن والشرطة، وردت المعارضة العلوية أن لا علاقة بين أي شبكة من جنود سابقين في الجيش العربي السوري وأهالي الساحل العلويين، وتستمر الاتهامات والاتهامات المضادة حتى الآن. والأسئلة كثيرة ماذا حدث بالفعل؟ لماذا يحدث؟ وكيف يمكن إصلاح الأمور؟ على ضوء ما يجري في تلك المنطقة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط سنستعرض الوقائع والاحتمالات والسيناريوهات، لذا سنتطرق في هذه المقالة وبسرعة إلى وضع الطائفة العلوية بعد سقوط نظام بشار الأسد نهاية العام الماضي وإلى أين هي ذاهبة.
أولاً في بعض الوقائع المبسطة ولكنها معروفة أن في وسط البلاد أكثرية من الطائفة العربية السنّية، الموجودة أيضاً في بادية الشام وتشكل الأكثرية في العاصمة دمشق والمدن السورية الكبرى من حلب إلى حمص إلى حماة. ويمتد الوجود العربي السنّي إلى كامل أنحاء البلاد، بما فيها المناطق التي تضم أقليات إثنية ودينية.
وفي سوريا أيضاً مجموعات أخرى تختلف عن بعضها بعضاً على الصعد اللغوية والدينية والطائفية والقومية، وباختصار هناك إجماع على أن ثمة منطقة في شمال شرقي البلاد ضمن المثلث الواقع بين تركيا والعراق وسوريا يعيش فيها مجتمع كردي يمتد من شرق البلاد حتى منطقة عفرين على الحدود التركية- السورية ولها لغتها الكردية الخاصة ولها هويتها وتاريخها.
وشاءت الظروف التاريخية أن تكون الطائفة الكردية موجودة في شمال البلاد وشمال شرقها، بينما يتوزع الأكراد على مناطق متاخمة في العراق وتركيا وإيران. أما في شمال غربي البلاد، لا سيما في الجبال المتاخمة للساحل ومدنه، فهناك الطائفة العلوية وهي عربية إثنياً ولكنها منبثقة في المعتقد والتاريخ من المذهب الشيعي والعلويون قطنوا في تلك المناطق منذ قرون عدة وشكلوا مجتمعاً خاصاً بهم. أما في جنوب البلاد ما بين دمشق والحدود الإسرائيلية واللبنانية، فهناك طائفة أخرى هي الدروز التي لها خصائصها أيضاً والتي عاشت في تلك النواحي منذ قرون. أما المسيحيون فهم ربما أقدم الطوائف السورية وينتشرون في مناطق عدة، فهناك الآشوريون والسريان في منطقة الحسكة والخابور وهناك سريان وادي النصارى جنوب منطقة العلويين وهناك كتلة مسيحية داخل مناطق الدروز بين دمشق والجولان وهناك بالطبع أحياء مسيحية كاملة في دمشق قد تكون الأكثر عدداً لدى مسيحيي سوريا.
عندما اندلعت الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 تميزت منطقه الشمال الشرقي حيث وجود الأكراد الكثيف والمسيحيين وعرب سنّة بقيام إدارة ذاتية حتى انتهاء الحرب وتطورت الإدارة للتحول إلى منطقة واسعة جداً تحت سلطة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وحصلت على الحماية الأميركية بسبب الحملة ضد تنظيم “داعش”.
وعندما انفجر الصراع بين “داعش” والسلطة السورية لنظام الأسد في معظم مناطق البلاد من شمالها إلى وسطها إلى قرب العاصمة والجنوب، بقيت منطقة واحدة سالمة هي منطقة جبال العلويين والساحل في الشمال الغربي حيث عاشت هذه الطائفة ومواطنون من الطوائف الأخرى بمن فيهم السنة والمسيحيون بسلام نسبي في الحرب. أما بعد أن سقط الجيش العربي السوري بسرعة في ديسمبر (كانون الأول) عام 2024 وهرب رئيس النظام بشار الأسد وسقطت المؤسسات بسرعة بين يدي “هيئة تحرير الشام”، فتغيرت الأمور وبدا وكأن الغيوم السوداء تتجمع فوق مناطق العلويين، ولكن ذلك لم يحدث بسرعة. فهل النظام الجديد أخذ وقته لكي يحصل على حد أدنى من الاعترافات الإقليمية والدولية التي مدت له جسوراً بهدف أن يكون عادلاً بين كل المجموعات السورية وأن يضع حداً للخروقات وألا يتخذ محولاً بين المحاور العربية.
المجموعة الجديدة الحاكمة في الشام فرضت ضغطاً على الأكراد من ناحية الشمال وضغطاً آخر على الدروز في الجنوب “لتسليم السلاح”، إلا أن المجموعتين لم تقبلا بمدّ السيطرة المركزية العسكرية للنظام على مناطقهما لأسباب تاريخية، لذا وبعد فشل “الهيئة” بدخول مناطق الأكراد والدروز قررت القوى الحاكمة في دمشق توجهها إلى منطقة ثالثة حيث هناك رفض شعبي للنظام الجديد لكن ليست هناك قوة عسكرية لتقاومه.
وكانت أهداف السلطة الأساسية واضحة وتتمثل في الآتي:
أولاً، إخضاع المنطقة لسلطة دمشق لتثبيت “السيادة الوطنية”، أي عملياً مد سيطرة “الهيئة” على مقاطعة الساحل لتكون عبرة للمناطق الممانعة لدخول “الدولة”.
ثانياً، تفكيك مجموعات عسكرية هاربة من الجيش السابق أطلق عليها اسم “فلول النظام” أو “الجيوب الأسدية”.
ثالثاً وهو الهدف الرئيس لتحرك “الهيئة” باتجاه الساحل السوري والجبال مع تأخر دام ثلاثة أشهر، السيطرة على الساحل وعلى المرافئ.
فعبر هذا الساحل سيتمكن النظام من أن يبرز قوته في البحر الأبيض المتوسط بمساعدة تركيا وأهم ما يصبو إليه نظام “الهيئة” أن يكون لاعباً كبيراً في مخزون الطاقة العالمي، فمن المعروف جيداً أن الساحل السوري يشرف على مساحة مائية واسعه جداً يحوي قاعها احتياطات هائلة من الغاز.
وكان النظام البائد وعد شركات عدة وحلفاء في المنطقة وعلى رأسهم النظام الإسلامي في إيران بأن يكونوا شركاء في التنقيب والاستفادة، وبعد سقوط النظام ووصول القوى الإخوانية إلى السلطة كان من الطبيعي أن تعمل السلطة الجديدة على السيطرة على الساحل لوضع اليد على هذه الثروة الهائلة.
وبات هناك محور مصالح اقتصادية ومالية يسعى إلى الوصول إلى الشاطئ والسيطرة على المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية السورية، مما قام بالدور الأكبر في عملية محاولة سيطرة “هيئة التحرير” وحلفائها على مناطق العلويين للوصول إلى الذهب الأسود.
لكن في النظر عن الأسباب الكثيرة والمتنقلة حول دخول بعض وحدات قوات “الهيئة” إلى أطراف بلدات علوية في الشمال الغربي مما أدى إلى وقوع ضحايا، كانت أوامر مركزية بالقضاء على ما سمي “الفلول”، ولكن السبب الأهم المحتمل هو إنهاء إمكان قيام “مقاومة علوية” تطلق في الساحل مجلساً عسكرياً ينتشر في المنطقة لمصلحة إدارة ذاتية كما في روجافا والجنوب.
ومع وقوع أول أحداث دامية على أطراف المناطق العلوية، رد شباب مسلح علوي قد يكون ضمن صفوفه عسكريون في جيش النظام السابق، مما أسفر عن قتلى بين القوى المتقدمة وأعضاء من ميليشيات “الهيئة”، فشنت أجهزة النظام عملية عسكرية واسعة للدخول إلى مناطق العلويين بهدف ضرب الشبكة التي أطلق عليها اسم “فلول النظام” وتوجهت وحدات عدة من دمشق والمدن الأخرى باتجاه الساحل السوري وحصل ما حصل.
وأعلنت الأمم المتحدة ومؤسسات غير حكومية عدة أنه وقعت مجازر واسعة قالت بعض المصادر إنها سجلت ألف قتيل وبعضها قال إنها أدت إلى نحو 6000 معظمهم من المدنيين ومن بينهم نساء وأطفال وإن هذه الأحداث لا تزال تحصل.
هنا بعض النقاط الأساسية:
أولاً، منطق الدولة إذ كان من المنتظر أن تقوم قوات “الهيئة” وميليشياتها باقتحام منطقة الساحل وبلداتها، لكن السؤال هو لماذا لم يتم ذلك عبر اتفاق بل عبر عملية عسكرية؟
ثانياً، بعد حدوث هذه المجازر الدموية كيف يمكن للسلطة المركزية أن تعيد بناء الثقة مع أهالي تلك المناطق. هل هذا ممكن؟ لماذا لم تقُم السلطة بعمليات مماثلة لإعادة الوحدة مع مناطق الشمال الشرقي؟ هل لأن تلك المناطق لها قوة عسكرية على الأرض وأية محاولة تقدم ستتحول إلى حرب طاحنة؟ والمنطق نفسه ينطبق على المناطق الجنوبية حيث لمحافظة السويداء قوة عسكرية ومن ورائها الجيش الإسرائيلي.
والنقطة المهمة الأخرى أن عدداً من الدول العربية اعترفت بالسلطة الجديدة وبصورة واضحة، ولكن الأحداث الدموية في مناطق العلويين تطرح سؤالاً حول هذه العلاقات. فهل تقوم الدول التي اعترفت بسلطة دمشق بالضغط عليها لكي تطلق تحقيقاً كبيراً حول ما حدث هناك أم إنها ستمتنع عن ذلك لعدم إحراج الدولة السورية العربية؟
وثمة نقطة مهمة، إذا نظم الأهالي في المناطق العلوية احتجاجات واسعة ضد ما جرى وطلبوا تدخل قوات دولية هل هناك حكومات بإمكانها أو لديها إرادة أن تتدخل عسكرياً لحمايه العلويين؟ حتى الآن لم نرَها، ولكن ذلك أيضاً سيخلق نوعاً من التردد الدولي في التعاطي مع الدولة السورية الجديدة.
أما في ما يتعلق بإسرائيل، فصدرت بعض الأصوات من المناطق العلوية مطالبة إياها بأن تحمي العلويين كما تحمي الدروز ولكن جغرافياً لن تساعد إسرائيل عبر وصولها إلى الشمال الغربي لبعده ولوجود دولة كاملة هي لبنان. المعادلة الآن، لا سيما بعد الاتفاق الذي تم بين “قسد” و”هيئة تحرير الشام” هي تمكين الدولة السورية الجديدة لكي تخرج من الحرب وتنطلق إلى النهوض الاقتصادي، إلا أن الجرح الذي فتح في اللاذقية وبانياس وطرطوس لا بد من أن يأتي أحد لتضميده. كنا اقترحنا في الماضي أن تقوم السعودية برصيدها السياسي والدبلوماسي الكبير بدعوة الأطراف إلى اللقاء على أراضي المملكة والانطلاق بتصور جديد للمستقبل في سوريا، إلا أن أعمال العنف الهائلة التي حصلت على الساحل السوري قد تكون محفزاً لانطلاق مبادرة كهذه من قبل الرياض. فهل هناك أمل في أن يحصل ذلك؟
في سوريا الآن ثلاث ديناميكيات، الأولى التي بعثت ببعض الأمل ولكنه محدود هي الاتفاق بين الأكراد و”الهيئة” ومحاولة تخفيف التشنج بين الجنوب السوري ومجموعاته الدرزية والسلطة في دمشق، إلا أن نتائج ما حصل في مناطق العلويين أثرت في الأوساط الدولية لتطالب بالتحقيق بما جرى في الساحل من ناحية ومبادرات دولية وعربية قد تخفف التوتر من ناحية أخرى. وإذ نختم هذه المقالة وقعت “قسد” و”الهيئة” على اتفاق الدمج لقواتها العسكرية، فهل سيطالب المجتمع الدولي باتفاقات مماثلة مع العلويين والدروز؟ سنرى.