الكولونيل شربل بركات/دراسة تاريخية تتناول الشيعة والمظلومية

35

الشيعة والمظلومية
الكولونيل شربل بركات/19 كانون الثاني/2025

لبنان سيقوم عندما ينهض الشيعة الشرفاء ويحاكموا ثلة الخونة الذين قتلوا ابناءهم ودمروا بيوتهم وجيّروا الطائفة لمستبد غريب لا يعرف تاريخ لبنان ولا نضال أهله. وكل من يسهم في بقاء تحكّم ما يسمونه بالثنائي الشيعي الذي أوصل الطائفة إلى هذا الدرك، هو مساهم في المظلومية ومشترك في خراب لبنان من جديد. فالفرص تأتي مرة لنستعيد المبادرة ونبني لا لكي نجتر المواقف الخاطئة ونستمر بممارسة قصر النظر الناتج عن الخوف من المواجهة والتردد باتخاذ القرارات الصحيحة التي تبني الدول.  

****
يتحدث الكثير من المفكرين الشيعة عن “المظلومية” التي تعرضت لها الطائفة خلال تاريخها، وهم يبدأون بما وقع لعلي بن ابي طالب ثم لأولاده من بعده، وتتالي حقبات الظلم لتصل إلى الشيعة في لبنان، حيث يصورون بأنهم لم ينالوا حقوقهم في ادارة البلد خاصة في دولة لبنان الكبير، وبالتالي فهم بقوا خارج السلطة الفاعلة. ومن هنا ما يسمونه الحرمان الذي طال مناطقهم على عدة صعد، ولذا فهم لم يشعروا بالعدالة في توزيع المناصب والمكتسبات في الدولة اللبنانية المستقلة، وقد احسّوا دوما بالاجحاف فمالوا لأعداء الوطن في أكثر المنعطفات بسبب هذه “المظلومية” التي يتكلمون عنها.

تاريخ الشيعة في جنوب لبنان كما أشرنا إليه في مقال سابق يشبه بقية المجموعات الحضارية اللبنانية، فهم من سكان هذه المنطقة أقله منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وقد تفاعلوا مع المدن الفينيقية الأساسية خاصة صور وصيدا، ليشكلوا مراكز استراحة القوافل أو تجميع المنتجات أو الأسواق المحلية الصغيرة وحتى مصدر رجال الحاميات المرافقة لهذه القوافل أو المدافعة عن المدن الساحلية، ولاحقا مجموعات الفرسان المحليين الذين تألفت منهم ما سماه الرومان في خططهم الدفاعية “الجندية اللبنانية”، والتي كثر ذكرها عند المؤرخين المعروفين، إلى جانب الانتاج الزراعي الطبيعي الذي يكفي حاجة أي مجتمع وخاصة المدن الكبرى.

والمنطقة اللبنانية الجنوبية التي سكن هؤلاء فيها كما بقية المناطق الجبلية لم تكن غنية بكثرة الانتاج الزراعي أو سهولة العمل في الأرض لأن “السهول” الخصبة ليست متوفرة مثل سهل البقاع مثلا أو سهول حوران وغوطة دمشق في الشرق أو حمص وحماة في الشمال أو سهل عكا ومرج ابن عامر في الجنوب، ولو توفرت بعض السهول الساحلية الضيقة إلا أنها لم تكن تكفي حتى لحاجة سكان المدن التي تحيط بها. فلبنان في تعريفه يبدأ حيث “تبدأ الطبيعة بحماية حرية الأنسان” أي حيث تصبح قاسية و”تقل أطماع الآخرين بالثراء”. فالانسان الذي يرضى السكن في هذه الأرض الفقيرة نوعا بدأً من الأطراف ويستقر فيها ليصبح لبنانيا هو من يفضّل حريته على البحبوحة، ومن هنا طباع اللبنانيين التي لا نزال نعرفها اليوم؛ وهي تقديس الحرية وحب المغامرة والانفتاح على الآفاق، وما عدى ذلك فهم قادرون على توفيره باصرارهم وابداعهم وشجاعتهم وروح المبادرة التي يتحلون بها.

وكما قلنا في دراستنا السابقة نكرر هنا بأن الشيعة اللبنانيون لا يختلفون عن الموارنة وبقية المسيحيين أو الدروز أو السنة في هذه الصفات التي ذكرناها أعلاه. ويمكننا مراجعتها من جديد على ضوء الأحداث التاريخية. هؤلاء اللبنانيون عندما قدم جماعة السياد آل البيت من بلاد العرب إلى جنوب لبنان ألتزموا تكريمهم كما كان التزم الموارنة في الشمال تكريم رجال الدين الذين هربوا من دير مار مارون في حماة وترفّعوا عن العالم وقدّموا فكرهم والكفر بالذات ليصبحوا مثالهم في الحياة، وكما فعل مشايخ الدروز الذين تفرّغوا أيضا لمقارعة العقل وتوجيه البيئة نحو العمل المنتج واحترام قوانين السماء وإحقاق العدل ما أمكن. وكما الأئمة السنة الذين نادوا أيضا بتنفيذ ارشادات الكتب السماوية بدون تعدٍ على كرامة الناس وحقهم بالاختيار. ولكن الأحداث الخارجية وأطماع الولاة وبعض الشعوب الغازية، عطلت المفاهيم المشتركة وألبست المناطق التي حمت هذه الألوان الاجتماعية أثوابا تبدو مختلفة لا بل متنافرة أحيانا. فعندما يقول بعض المشايخ الشيعة اليوم بأن لبنان موطن الشيعة فهم على حق، ولكن هذا لا يعني بأن غيرهم من المجموعات الانسانية المجاورة قد طردهم منها أو أنه تولى عليها بالقوة، وهذا ما ينطبق على مقولة الموارنة حين يدّعون بأن بعض جيرانهم قد استولى على مناطقهم وطردهم بالقوة وهذا ايضا غير صحيح، فحتى هجمة جيش يوستينيانوس عندما حارب الموارنة وجرت المعارك من الكورة صعودا باتجاه الجبال لم يساندهم فيها السكان الروم أبناء المنطقة ولا هم رحلوا مع الجيش البيزنطي عندما انكفأ، وكذلك أيام هجمة المماليك على بلاد الجبة كان الجيش القادم من مصر بقيادة قلاوون هو من ارتكب المجازر وقتل الناس. كما في حملة بيبرس على جنوب لبنان قبلها، خاصة في مناطق الشيعة من تبنين إلى هونين ومارون وصفد ونمرود وغيرها من المعاقل التي دكها الجيش المملوكي ولم يميّز بين المسيحيين والشيعة وحتى الدروز، والذين لاحقتهم فتوى ابن تيمية ايضا في مناطق متعددة من لبنان طردوا منها وأفرغت من سكانها، حتى أن كسروان بذر بالملح لكي لا تنبت الأرض كما يقول البعض. ولكن خوف الشيعة من الاضطهاد، بعد انتصار العثمانيين على الشاه اسماعيل ومن ثم على المماليك في مرج دابق، نتيجة لمساهمة بعض أئمتهم بتحويل بلاد الفرس إلى المذهب الاثناعشري، جعلهم ينعزلون أكثر ويفضلون الاحتماء بالمعنيين. ويوم هاجم جيش ابراهيم باشا والي مصر الدروز في الجبل زمن الأمير قرقماز المعني وجرت المذبحة التي راح ضحيتها ستون ألفا من السكان والمدافعين عنهم كما يقول المؤرخون، لم يكن أي من اللبنانيين في عداد العساكر العثمانية التي هاجمت الجبل. وحتى زمن الشهابيين السنة الذين حكموا جبل لبنان بقيت الأمور مقبولة ولم تتغير الديمغرافيا ولا الزعامة بالرغم من بعض المناوشات. وقد أثبت ناصيف النصار سلطته لا بل حمى حدود لبنان الجنوبية والشرقية ضد ضاهر العمر حاكم الجليل من جهة ووالي الشام من جهة أخرى، ولكن الجزار وبعد مقتل ناصيف اذاق الشيعة المر، ولم يكن أحدا من اللبنانيين ساهم بذلك لا بل فأغلبهم عانى من حكم الجزار وعلى راسهم الأمير الشهابي بشير الثاني الكبير.

الشيعة حكموا مناطقهم زمن المعنيين وزمن الشهابيين ولو أنهم انتكسوا في مرحلة الجزار، إلا أنهم عادوا كبقية اللبنانيين لحكم تلك المناطق تحت سلطة بشير الثاني، ولكن العثمانيين، بعد هجوم جيش محمد علي باشا المصري واحتلاله لبنان وسوريا ووصوله إلى كيليكيا في جنوب تركيا بمساعدة الأمير بشير، قرروا الانتقام من كافة اللبنانيين، واستعملوا جهاز المخابرات لبث الاشاعات والتفرقة ما أدى إلى مجازر 1860 في الجبل بين الدروز والمسيحيين. وقد جرّت هذه المشكلات إلى تدخل الدول الأوروبية لوقف السياسة العثمانية هذه، فقد كانت هذه الدول ساهمت بقبول محمد علي سحب جيشه والاكتفاء بحكم مصر، واعتبر تقسيم الجبل إلى قائمقاميتين بين الدروز والمسيحيين هو الحل، ثم بعد أحداث 1864 انشأت المتصرفية، وفي الحالتين فصلت السلطنة المناطق ذات الأكثرية الشيعية والسنية عن لبنان فشعر الشيعة بالغبن وكأن بقية اللبنانيين لم يعطوهم حقهم. وبالتالي فقد حاول العثمانيون تذويب الولاء الوطني لهؤلاء وضمهم إلى نظرية “الأمة” التي يحكمها السلطان العثماني خليفة المسلمين، والتي ساهمت بنشرها المدارس العسكرية العثمانية في اسطنبول حيث استدعي إليها كل الزعماء المحليين في أرجاء السلطنة ومنهم زعيم الدروز في سوريا سلطان باشا الأطرش وزعيم الشيعة في جنوب لبنان كامل بيك الأسعد وغيرهم من الرجالات من كافة أرجاء السلطنة خاصة العراق وفلسطين ما سيكون له تأثير كبير على مستقبل الحركة السياسية لاحقا.

عند انتهاء الحرب العالمية الأولى ودخول الحلفاء إلى المنطقة لتنفيذ قرارات عصبة الأمم بتدريب الشعوب على حكم نفسها ما سمي بالانتداب، تحركت الماكينة العثمانية مجددا في كل المنطقة، سيما وإن ضباط الجيش العثماني الذين لم يقبلوا بتسريح قواتهم اتفقوا مع البلاشفة السوفيات على منع الحلفاء من الوصول إلى الحدود الروسية، فدفعوا الأموال والأسلحة في سبيل ذلك ما جعل المخابرات العثمانية، التي كانت نجحت في تفتيف الأمارة اللبنانية بعد بشير الثاني باختلاق المشكل بين المسيحيين والدروز ومن ثم سلخ المناطق الشيعية والسنية عن لبنان، تستعمل نفس الأسلوب ولكن بغطاء فيصل هذه المرة، حيث عملت على معاداة المملكة العربية الناشئة في بلاد الشام للحلفاء والتي قادها “يوسف العظمة” الضابط التركماني مساعد وزير دفاع السلطنة “أنور باشا”، وقد فرضت التعبئة ضد فرنسا في سوريا ولبنان وضد انكلترا في العراق وفلسطين ومن ثم انشئ تنظيم الأخوان المسلمين في مصر الذي سيطيح بالاستقرار هناك. هذه الحركة السياسية التي اتخذت الطابع القومي “العربي” في سوريا والاسلامي في مصر لاحقا كانت أساسية لمنع الحلفاء من انهاء التمرد في تركيا والقبول بالاتفاق مع اتاتورك (في 1923) حول اسقاط السلطان وتحويل تركيا إلى دولة علمانية (ارضاءً للحليف الروسي؟) تسيطر على كافة الأراضي من أرمينيا التي دخلها الجيش الأحمر إلى حدود العراق وسوريا التي تديرهما فرنسا وانكلترا.

خلال هذه الأحداث تحمّس بعض السياد من آل البيت لقيادة الحركة السياسية الشيعية بشخص السيد عبد الحسين شرف الدين، بالرغم من تفهّم كامل بيك لمخاطرها، والتزموا بقرارات يوسف العظمة بتغطية عمل العصابات التي هاجمت القرى والمزارع المسيحية تحت قيادة محمود الفاعور من الجولان السوري بقصد خلق صراع ديني يسهم في الضغط على الحلفاء. وقد قامت الهجمات المماثلة بنفس الوقت في العراق وفلسطين (أيار 1920). أهم هذه الهجمات في لبنان كان الهجوم الذي تعرضت له مرجعيون وقرى حافة الليطاني ومن ثم قرية عين إبل الجنوبية والتي خسرت حوالي المئة من سكانها ونهبت وأحرقت بيوتها والكنيسة والدير، في حين كانت الهجمات على الفرنسيين على أشدها في كيليكيا وجنوب تركيا أيضا ما دفع بهؤلاء إلى انزال قوة في صور لضبط الأمن ومن ثم جرت معركة ميسلون التي قتل فيها يوسف العظمة ما أنهى التمرد وأوقف الانهيار.

الموقف الغير مدروس، الذي أدى بالسيد شرف الدين للانغماس في تغطية خطة مخابراتية كبيرة تقودها مجموعة الضباط العثمانيين وعدم الرجوع عن الخطأ لا بل الاصرار عليه حتى اليوم بين المفكرين الشيعة، عرّض الطائفة الشيعية للعزلة. ولكن الفرنسيين عادوا فانصفوها بأن أقاموا المحاكم الشرعية المذهبية معترفين لها بوضع متميز أعادها إلى الاجماع الوطني. ولكن وكما مع دخول العثمانيين وانكفاء الزعامة الشيعية عن القيادة، تأخرت تلك الزعامة هذه المرة أيضا عن أخذ المبادرة والالتحاق بالوطن ودخول المؤسسات التي أثرت في مستقبلها، لولا أن الفرنسيين استدركوا ذلك أيضا واشترطوا على حكومة لبنان توزيع الصلاحيات على المناطق بناء لما ورد في بنود الاقتراح حول اتفاقية 1936 والتي سميت “الستة والستة ومكرر” ولا تزال تعتمد في بعض القرارات لمشاركة الطوائف (بدل المناطق) في الحكم.

كان الموارنة ساهموا من خلال المدرسة المارونية في روما بالنهضة العلمية ليس فقط في لبنان بل وأيضا في بعض دول أوروبا، حيث برز الحقلاني والصهيوني والسمعاني وغيرهم وذلك بمشاركتهم نشر العلوم والترجمات ما أدى إلى انفتاح على الحضارة والمساهمة بالريادة، وبالتالي غطت هذه الناحية على فقر انتاجية الأراضي الزراعية وانعزالهم في الجبال، وأعادت لهم الدور الطليعي منذ زمن المعنيين. ويوم دخلت صناعة الحرير إلى لبنان كان هؤلاء قد استعادوا بعض القدرة على المنافسة التجارية في اسواق أوروبا ما لم يصل إلى المجتمعات الشيعية بشكل كبير، ولو أن ناصيف النصار، والذي تفاهم مع ضاهر العمر في القرن الثامن عشر، انفتح على أنواع أخرى من التجارة مع الاوروبيين حيث كان ضاهر العمر اعتمد على زراعة سهول عكا بالقطن بعد تعاونه مع علي بيك الكبير والي مصر والذي حاول الاستقلال عن السلطنة خاصة بعد تحطيم الاسطول العثماني على يد الأسطول الروسي الذي دخل المتوسط عبر مضيق جبل طارق ما فتح مجالا للتجار الأوروبيون ولمدة طويلة بالعودة إلى موانئ عكا وصور. ولكن استلام الجزار لعكا بعد وفاة ضاهر العمر ونقمته على الشيعة خاصة، واذلالهم بتجنيد شبابهم بالقوة للقتال في صفوف عساكره أو القيام بأعمال السخرة، أفقد الطائفة مجددا فرصة النهوض.

خلال أربعينات القرن المنصرم حاولت الزعامة الشيعية المساهمة بالسلطة، وبالتالي تقاسم الفرص مع بقية المناطق اللبنانية، ولكن مشاكل فلسطين وخاصة حرب 1948 وما تبعها من اغلاق للحدود الجنوبية أعاد العزلة للمناطق الجنوبية التي يسكنها هؤلاء. ثم جاءت ثورة الضباط المصريين سنة 1952 وما تبعها من أحداث، خاصة الانزال الفرنسي – البريطاني في قناة السويس (1956)، والانسحاب الذي أدى إلى اعتماد مرفأ بيروت بديلا عن القناة، ثم قرار عبد الناصر اغلاق الخط البري عبر سوريا، فالوحدة السورية المصرية وأحداث 1958 في لبنان، والتي ساهمت كلها بزيادة المعاناة في المناطق الشيعية. كان يجب انتظار عهد الرئيس شهاب الذي حاول توزيع الانماء على كافة المناطق وحضن بعض الزعماء الشيعة، ومنهم الشباب الطالع والمثقف، ما أعطى تلك المناطق فرصا جديدة للنهوض. ولكن انتشار الاحزاب التابعة للأنظمة الثورية المجاورة دفعت الشباب الشيعي مجددا نحو معاداة الدولة، وضخّمت اسباب المعاناة فحمّلتها لعدم عدالة الحكم، وبالتالي ألصقتها بالفئوية والتمييز الطائفي، وهو نوع من القاء المسؤولية على الغير.

كان قدوم السيد موسى الصدر إلى لبنان اعاد الشيعة شيئا فشيئا لحضن الدولة بمعنى المطالبة بالعدالة في توزيع المصالح وبالتالي الرفاه الاجتماعي بالطرق الشرعية، فأنشأ المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى ليشرف على مطالب الطائفة بشكل أوسع من خصوصيات الزعماء والمحسوبيات المرافقة، وأطلق شعار “انصاف المحرومين”، وشجّع الانفتاح والمشاركة بتقدم المجتمع، فلمع نجمه. ولكن التطورات السياسية والأحداث الأمنية التي تبعتها لم تعط الوقت الكافي للسيد موسى الصدر للاستمرار في ادخال الشيعة أكثر باتجاه العمل الوطني، لا بل دفعته وأبناء الطائفة للانغماس في وحول الأزمة التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية وأشرف عليها النظام السوري، فاختطف الامام وغيّبه ورفاقه لينفرد السوريون بالسيطرة على الطائفة وزجها في أحلاف معادية للدولة والاستقرار.

بعد التخلص من سيطرة السلاح الفلسطيني دخل الحرس الثوري الإيراني على خط الطائفة، وزجّ بها في خدمة مشروعه التوسعي في الشرق الأوسط، مغدقا عليها الأموال والسلاح بشرط أن تتفلت من الالتزام بالكيان اللبناني وترتبط بولاية الفقيه، ما جعل شبابها يعملون محاربين ومخبرين وتجار ممنوعات حول العالم، لكي يسيطرالحرس الثوري على دول الشرق الأوسط، ويستعيد نظام الملالي أحلام الأمبراطورية الفارسية القديمة، والدخول في نادي الدول العظمى التي تصنع الأسلحة على أنواعها؛ من الصواريخ إلى الطائرات المسيرة والذخائر وحتى السعي لأن يمتلك السلاح النووي. وقد جنّد الشيعة اللبنانيين هؤلاء للعمل، خاصة بين الناطقين بالعربية من بقايا الجاليات الشيعية المنتشرة في دول الخليج، لقلب الأنظمة والحاق هذه الدول بنظام الملالي.

في هذا الوضع المستجد ظهرت الطائفة بثوب جديد بعيد كل البعد عن “حركة المحرومين”، لا بل اصبح الحزب الذي يديرها يقود البلاد ويأمر العباد ويستولي على مقدرات الدولة ومفاتيح ادارتها، ويوزع أزلامه في الوظائف بدون استحقاق ما افشل الادارة وأسقط الحكم. ولكن الطائفة لم تتأثر كونها فصلت نفسها عن الدولة ونظّمت دويلتها الموازية والخاصة بقواها الذاتية ومداخيلها المستقلة وبقيادة الحزب الإيراني وغطاء حركة أمل، لا بل فرضت بالقوة ما تريد من مساعدات وتأمينات على الدولة بالاضافة إلى ما تتفرد به لجماعتها من وسائل وامكانيات. وكان الأخطر في تصرفها المستكبر ازالة اي معارض لسياستها بالقوة والاغتيال والاقصاء. وهي عطلت القضاء وأفشلت الاقتصاد وأفلست البنوك ونزعت الثقة التي ميزت لبنان في المنطقة. ولم تكتف بذلك بل بدأت بالتحرش بالجيران؛ فساهمت بقمع السوريين وتدمير مدنهم وتهجير السكان منها وعملت على شق اليمن وانشاء نظام متحالف مع إيران قطع الطرق البحرية الدولية بدون وعي، وهي ساهمت بأحداث البحرين لقلب النظام، وتدخلت في العراق وحاولت قتل أمير الكويت، وفي مصر حيث قبض على خلية تابعة لها، وعملت على تصنيع وتهريب المخدرات إلى المملكة السعودية وغيرها من الدول العربية، وأخيرا قررت الهجوم على اسرائيل متكلة على ترسانتها الصاروخية ووحداتها القتالية المدربة على الهجمات البرية والجوية. ولكنها اصطدمت بجدار الجار الاسرائيلي الذي لُسع من هجوم حليفتها منظمة “حماس” الارهابية فقرر التخلص من خطرها. وما كان من حزب الله هذا إلا القول بوحدة الساحات، والبدء بهجمات مركزة على اسرائيل لمدة سنة تقريبا، تبجّح خلالها وأدعى بأنه سيزيلها من الوجود ويعيد اليهود إلى البلاد التي قدم أجدادهم منها. فسقط في المحظور وانتهى إلى مزبلة التاريخ.

اليوم يحاول البعض التذكير بمظلومية الشيعة. فهل أبقى من قاد هؤلاء طيلة نصف قرن تقريبا أي مجال للرحمة أو المراجعة؟ وهل قدّم من تبجّح أمام العالم بقدرته ووقاحته أي حل يمكن اخذه بالاعتبار للتخفيف من نتيجة الغي الذي اعتمده؟

المظلومية التي تقع على الطائفة برمتها اليوم هي من صنع أيدي من تصدرها وأفقرها عندما أسقط الدولة الحامية، وقتل أبناءها ودمر القرى والمدن وكل ما بناه الشيعة بالجهد أو بالمال الحرام لا فرق لأن النتيجة واحدة، وذلك عندما استباح السيادة ونفّذ أوامر المحتل، وطالما لا يزال هؤلاء يتصدرون زعامة الطائفة فإنها ذاهبة كلها إلى الحضيض، ولن يعود السكان إلى ركام بيوتهم المدمرة ليعيدوا بناءها طالما بقي هؤلاء يتحكمون بمصيرها. ومن هنا على اللبنانيين الذين يعرفون جيدا معنى التضحيات التي تحملتها هذه الطائفة والخزي الذي لحق بها من تحكمهم، وقد باعوها برمتها لنظام الولي الفقيه الذي لم يرأف بشعبه فكيف له أن يرأف بهؤلاء الذين اشتراهم في سوق النخاسة، أن يسهموا بخلاصها من هذا العدو الداخلي.

فرحمة بمن تبقى من الشيعة يجب الفصل بين هؤلاء وبقية أبناء الطائفة إذا أمكن لكي يستطيع العالم انصاف من تبقى وعدم تحميل الكل وزر هذه الفئة الضالة التي لم ترَ ابعد من أنفها. يجب على لبنان حل هذا الحزب الذي أدخل البلد بحرب لا تمت له بصلة، وتسبب بهدم البيوت والعمران ومقتل المواطنين بدون هدف، ومن ثم لم يعترف بخطئه ولا بمسؤوليته عما جرى ولا يزال يهدد ويتوعد وكأنه قادر. كما يجب محاكمة مسؤوليه ولو في قبورهم على كافة الجرائم التي ارتكبت بحق اللبنانيين وبحق الطائفة الشيعية وبحق الانسانية. فصحيح بأن هذه الطائفة ظلمت ولكن هذه المرة عندما أطلقت يد بعض أبنائها ليدمروا كل ما بناه اللبنانيون ومنهم الشيعة الاحرار، الذين كمت أفواههم واغتيل من تجرأ منهم بوضح النهار ومنعوا من تمثيل مجتمعهم وردع الجناة، فطرد أئمتهم من مجالسهم ومنع عنهم حتى المعاش، وحرموا من التمثيل الصحيح وحرية ابداء الرأي بسبب قصر نظر بقية اللبنانيين، الذين عاشوا كذبة المظلومية فتركوا هؤلاء يمارسونها على الكل بما فيهم أبناء الطائفة الشرفاء.

لبنان سيقوم عندما ينهض الشيعة الشرفاء ويحاكموا ثلة الخونة الذين قتلوا ابناءهم ودمروا بيوتهم وجيّروا الطائفة لمستبد غريب لا يعرف تاريخ لبنان ولا نضال أهله. وكل من يسهم في بقاء تحكّم ما يسمونه بالثنائي الشيعي الذي أوصل الطائفة إلى هذا الدرك، هو مساهم في المظلومية ومشترك في خراب لبنان من جديد. فالفرص تأتي مرة لنستعيد المبادرة ونبني لا لكي نجتر المواقف الخاطئة ونستمر بممارسة قصر النظر الناتج عن الخوف من المواجهة والتردد باتخاذ القرارات الصحيحة التي تبني الدول.

**اضغط هنا لدخول صفحة الكولونيل شربل بركات على موقعنا المنشورة عليها كل مقالاته وكتبه وتحليلاته