بين البطولة الحقيقية والخطابات الرنانة
نصرالله يخسر احترام الكبار وثقة الصغار، وقد هجّر الأهل ودمّر البيوت التي كان الجنوب يتباهى بها الكولونيل شربل بركات/01 نيسان/2024
تطورت خطابات السيد “قائد المقاومة” خلال السنوات التي ظهر خلالها على الشاشات ونظّر بالوطنية والجهاد وتفاصيل النضال، وبالطبع فلسطين والأقصى وغيرها من العناوين، بدون أن ننسى تهجّمه على العرب، وخاصة من يختلفون عنه بالمذهب أو بالخط السياسي. وهو لا شك كان بليغا دوما، ومنذ تسلمه الأمانة العامة للحزب الايراني بعد مقتل زعيمه السابق السيد الموسوي بقصف صاروخي استهدفه وهو يتنقل في سيارته داخل لبنان.
السيد حسن اعتُبر من قِبل وسائل الاعلام بأنه صادق لا يدّعي ما ليس بمقدوره وهو عندما يهدد يفعل، وقد استعان كثيرا بوسائل اعلام “العدو” لكي يبرهن مصداقيته أمام مؤيديه. ولكنه إذا ما قورنت خطاباته جديا بالأفعال نجد هناك الكثير من عدم الدقة فيها، لكي لا نقول المغالاة أو الغرور، لا سمح الله. فالسيد وعد بعدم القيام بأي قرار يؤدي إلى الحرب منفردا، على طاولة الحوار في 2006، ولكنه زج لبنان بمفاعيلها قبل أن يجف الحبر، وكانت جماعته بقيادة “سليماني” تقوم، ليس فقط بالاعتداء على اراضي اسرائيل، بل باختراق الحدود واختطاف جنود وقتل آخرين، ما أدى يومها إلى التدمير والخسائر في الأرواح والممتلكات والتي طالت كل لبنان. ولكنه كان صادقا عندما قال “لو كنت أعلم…” ولن نطيل الكلام على طروحاته والتناقض فيها، ولو أنها تفيض به.
اليوم أعلن هو “بعضمة لسانه”، كما يقول العامة، وحدة الساحات، لا بل فصّل في إحدى المقابلات هشاشة دولة اسرائيل وضعفها، وبأن صواريخه سوف تدمرها، و”قوات الرضوان” سوف تخترق الحدود وتعيد اليهود إلى الدول التي أتوا منها، وبأنه يستعد للصلاة في المسجد الأقصى. لا بل وفي مقابلة آخرى تكلم عن هلع سكان مناطق شمال اسرائيل من امكانية وجود انفاق تحت بيوتهم، وتكلم عن نظرية “الشاكوش” التي تدب الفزع والرعب في النفوس عند سماع أي صوت يشبهه.
وها هي حماس تنفذ الجزء المطلوب منها في مخطط الحرس الثوري، وتقوم باختراق الحدود وقتل ما يزيد عن الف يهودي وغير يهودي من المستوطنين والزوار الأجانب، لا بل تخطف عددا لا يستهان به من مواطني دولة اسرائيل من بيوتهم. وهي تنتظر بدون شك مفاعيل “وحدة الساحات” هذه التي وعد بها السيد وأسياده قادة الحرس الثوري، وما سيتبعها من أفواج الصواريخ الدقيقة التي ستمطر سماء اسرائيل وتعيث بها خرابا، لتلحقها القوات المدربة والتي سوف تحرر الجليل وتدمّر حيفا وما بعدها، ليجلس من تبقى من قيادتها على طاولة “الاستسلام” حيث يتم تنظيم اعادة اليهود إلى أراضي أجدادهم التي كانوا أتوا منها بينما يتمتع “المجاهدون” بالمغانم والسبايا.
لكن ما جرى كان مختلفا تماما، فقد أعطاهم رئيس وزراء اسرائيل السيد نتانياهو عدة أيام لتجميع قوات الاحتياط وتنظيم الهجوم على قواعد حماس في غزة، كما ترك فرصة للمفاوضين الدوليين للتدخل، أقله لاعادة المخطوفين، قبل القيام باي هجوم. وفي اليوم التالي لعملية حماس مباشرة، قرر السيد مساندة غزة فبدأ باطلاق بعض المفرقعات على أعمدة اجهزة الاشارة المنتشرة على الحدود مع لبنان. ولكنه لم يجروء حتى على قصف إي موقع عسكري إو مدني وراء هذه الحدود. أما دولة اسرائيل التي تعرف أهمية الأمن بالنسبة لمواطنيها فقررت ابعاد المدنيين عن الحدود الشمالية والتحضر بموازاة ما يجري في غزة لمواجهة ما قد يحدث على هذه الجبهة. وسوف تنتهي قضية حماس في غزة هذه المرة بالاستسلام لا بالتفاوض.
في مبدأ وحدة الساحات، الذي أعلنه الحرس الثوري بلسان نصرالله، كان يمكن دفع مليشيات الحشد الشعبي العراقي وغيرها من المليشيات هناك، وكل من يحارب في سوريا من الفاطميين إلى الأفغان وما شابه، باتجاه جبهة الجولان للهجوم على اسرائيل، ومن ثم دفع مقاتلي الحزب المئة ألف (بحسب السيد نصر الله، يوم هدد جعجع خلال مواجهات عين الرمانة)، ومئات آلاف الصواريخ “الدقيقة” التي، وبالرغم من خسارته ما يقارب الثلاث مئة مقاتل حتى الآن وتدمير كامل القرى الحدودية، والهجومات التي طالت الضاحية وبعلبك والهرمل وصيدا والغازية وصور والنبطية وغيرها من الأماكن، لم نرَ مفاعيلها بعد، ولو أنه في خطاباته السابقة كان حدد الرد على “الاعتداءات”؛ البيت بالبيت، والمدني بالمدني، والعسكري بالعسكري. ولكننا، ومن أجل الدقة، رأينا في مكان آخر مشاركة اليمن التي تبعد حوالي الفي كيلومتر عن ساحة المعركة وهي تطلق بضعة صواريخ باتجاه اسرائيل، ثم تقوم بشن حرب شعواء على السفن التجارية التي تعبر البحر الأحمر. فما الفرق بين صواريخ الحوثيين في اليمن وصواريخ حزب الله في لبنان، أليست كلها صناعة إيرانية والأوامر باستعمالها تأتي من نفس المصدر؟ وهل إن إيران تستطيع اللعب براحة في اليمن وعلى المستوى الدولي بدون الخوف من ذيول تصرفاتها، ولو أثرت على خطوط التجارة العالمية، ولكنها تخاف من ردة فعل اسرائيل إذا ما حشرت؟
بالطبع لا يمكن للسيد التصرف بمخزون الأسلحة التي يشاع بأنها بعهدة جماعته، وهي بالحقيقة بعهدة الحرس الثوري مباشرة، كما الكل يعلم. فلبنان يعتبر قاعدة استراتيجية إيرانية للرد على أي اعتداء اسرائيلي على المشروع النووي الإيراني من جهة، أو للتظاهر أمام العالم الحر بأن لها ذراعا طويلة تؤثر على الملاحة في البحر المتوسط، ربما، ولكنها بالتأكيد ليست لتحرير فلسطين أو الدفاع عن لبنان. من هنا عدم قدرة السيد وربعه على تحريكها أو استعمالها. وطالما القرار الإيراني بعدم توسيع الحرب جاريا فليس للسيد ولا لربعه القدرة على الرد أو الدفاع عن أنفسهم، وهم يتلقون الضربة تلو الأخرى ويعضون على الجرح، ليس لأنهم يخططون لذلك، ولكن ببساطة لأنهم لا يملكون القرار. ومن هنا نترحم على دولة لبنان “القديمة” التي كانت ضعيفة، صحيح، ولا تملك أسلحة نوعية أو صواريخ عابرة، ولكنها على الأقل كانت حرة في قراراتها وهي لم تقم مرة بما يضرّ أبناءها ويهدم أحلامهم وجنى العمر.
البطولات الوهمية هذه تقوم على تهييج الشارع الشيعي واستعمال الرعاع منه للتهويل على كل اللبنانيين، ومن ضمنهم بعض الشيعة الذين يفهمون معاني التخلي عن الاستقلال والحرية لصالح العمالة الفاضحة لإيران الملالي، والتلطي خلف مقولة محاربة اسرائيل ومواجهة عملائها. فإيران تريد من سوريا ولبنان منصات وقواعد لتوسعها ومواجهة أي تحرك ضدها، وهي تستعمل اللبنانيين وغيرهم من مواطني الدول التي كانت عربية، إن في العراق أو في سوريا، لتنفيذ خططها التوسعية، وإذلال العرب. وهذا النظام الذي لا يهمه الشعب الايراني نفسه هل سيهتم لمصير اللبنانيين أو السوريين؟
لقد كان العراق من أغنى دول المنطقة وها هو اليوم يشتري الكهرباء ولا يقدر أن ينتجها، وكانت سوريا منظمة ومأهولة ومنتجة، وها هي اليوم يعيش أهلها في التشرد والهجرة ويقتتلون ارضاءً للأسياد. وقد نفّذ السيد وجماعته في لبنان نفس السياسة التخريبية، فشرّعوا التهريب والفوضى، وشجعوا الفساد والتطاول، وسرقوا الدولة والمؤسسات، وهدموا ما كان يميّز لبنان، فأفقروا البلد ليصبح اللبنانيون خدمتجية عند الحرس الثوري الإيراني ينفذون دون اعتراض ويخرّبون بيوتهم بدون شفقة ولا رحمة.
السيد وبطولاته الوهمية تظهر أكثر فأكثر يوما بعد يوم، وكلما طال أمد الانتظار لبدء الحرب، أصبح يتمنى حصولها، ولو عرف جيدا بأنه لن يخرج سالما منها أبدا، ولكنه لم يعد بقادر على ايهام أحد بأن له أية فائدة.
في صراعات الأقوياء أو في تغيير المرسوم، وأنه لن يستطيع استجداء وقف الحرب قبل أن يعلَن عن بدئها. ولن يقدر أن يؤمن ملجأ لجماعته حتى في إيران نفسها.
قبل شهور كان لا يزال السيد يتبجح بقوته وأسلحته ويهيمن على بعض العقول الصغيرة بأنه القادر، وينتظر خطاباته الرنانة الكثير من العقول الضعيفة. ولكنه، وبعد خمسة أشهر على “المناوشاة المكلفة”، ها هو يخسر احترام الكبار وثقة الصغار. وقد هجّر الأهل ودمّر البيوت التي كان الجنوب يتباهى بها. وهو الذي كان يمنع تقدم العملية السياسية في لبنان حتى تحقيق شروطه، سيستجدي اليوم مخرجا يؤمن له ماء الوجه في أية عملية داخلية للابقاء على دور له في السلطة، وسيبتعد عنه كل من جرّب مفاوضته من القوى الكبرى لتعنته وتجاهله أصول المعاملة، وسيترك لينتهي بمواجهة غروره. فهل ان سقوطه المدوي أصبح قريبا؟ وهل سيكون عظيما بقدر مغالاته وتجبّره؟
بين البطولة الحقيقية التي تحمي الأهل وتمنع عنهم الأذى وتتمتع بالرؤية البعيدة والتخطيط الصائب والتروي باتخاذ القرارات، وتلك الخطابات الرنانة التي تهيّج الغرائز ولا تقرب من الواقع أو تتعلم من الأخطاء لا بل تنغر بالتصفيق، وهدة عميقة ومسافات كبيرة يصعب ردمها، فهذه تؤدي للدمار وتجر للخراب، وتلك تسهم في الثبات وتفتش عن الاستقرار وتدفع نحو السلام الذي وحده ينمي وينقذ من الغرور والتسرّع، وشتان ما بين من يبني للغد ومن يهدم الحاضر. فهل من يتعظ؟.