إذا صحّت التسريبات من كواليس المفاوضات الأميركية– الإيرانية والتي تنطوي على قبول إيران التوقيع على الاتفاق بالشروط الأميركية مقابل اعتراف هذه بالنفوذ الإقليمي لإيران في المنطقة، أو أقله في العراق وسورية، فإن هذا سيكون أغرب اتفاق عرفته الدبلوماسية في العصر الحديث، ذلك أنه لم يسبق لطرف دولي أن اشترى الوهم وقبض الريح في المقابل، كما أنه لم يسبق أيضاً أن استثمر طرف بمحرقة مثلما تفعل إيران.
بعد سنوات من «الصبر الاستراتيجي»، كان يتوقع أن تتركّز مطالب إيران من المجتمع الدولي على عناصر تشكل قيمة مضافة ورافعة لتطورها ونهوضها، خاصة أن إيران تعرضت لعزلة وحصار جمّد كل إمكاناتها لدرجة وصلت معها إلى حد تحوّلها بلداً يعتاش على ما يبيعه من النفط والغاز، وإذا كانت قيادة الملالي قد نجحت في تخفيض توقعات الإيرانيين وتغيير نمط حياتهم إلى حد التقشف، فإن ذلك ليس بالإنجاز الاستثماري ولا الدائم، ولا شك في أنه تكيّف آني لن يطول به المقام قبل أن ينفجر في وجه صانعيه، لا أن تعتبره القيادة الإيرانية نموذجاً قابلاً للبناء والاستمرار في السير فيه.
ومنذ سنوات وإيران بلد مهمّش في السياسة الدولية ودورها معطل في صناعة التاريخ، وجلّ ما صنعته في هذه الفترة كان عبارة عن مشاغبات تحوّلت مع الخبرة والتكرار إلى ما يشبه ممارسات أزعر الحارة، أو السياسات الضبعية، التي تنتظر حصول فراغ أو اضطراب في بلد معين لتزرع فيه الخراب والدمار وتقف على تلته معلنة أنّه صار جزءاً من نفوذها الإقليمي، كما حصل في العراق ولبنان وسورية وغزة، ولم تجد النخبة الإيرانية خيراً من هذه الممارسات لتعمل على تطويرها وتقدم من خلالها نموذجاً فريداً غير ممكن القبول أو الانتشار إلا في ظل حالات الفوضى والاقتتال.
لكن كل تلك الصفات لهذا السلوك لا تنفي تحقيقه انتصارات دولية مدويّة، إذ سيسجّل له وبجدارة تعريته قشرة القيم والمبادئ في السياسة الأميركية وتعجيله تظهير هذه الحقيقة وتسريع الكشف عنها، إذ في ظروف عادية كانت أميركا ستستمر في المراوغة وتغليف سلوكها باللبس عقوداً قادمة، أو أقله سنوات طويلة، وكانت ستبقى متلطية خلف شعارات الحرية وحقوق الإنسان فيما تتصرف في سياستها ومصالحها بسلوك انتهازي فاضح يتنافى مع المسؤولية التي قبلتها كقوة عظمى في حفظ السلام والأمن الدوليين.
لكن أميركا أيضا أثبتت أنها البلد الذي تتحول فيه كل فكرة، مهما كانت غرابتها، إلى منتج حتى للأوهام، وتصبح منتجاً قابل للبيع، وها هي تبيع الوهم على شكل جغرافيا وديموغرافيا، وتمنح معه بطاقة لاستنزاف مديد، فيما إيران المتلهفة لكل ذلك تصبح زبوناً راغباً في الشراء ومستعداً للدفع المباشر نقداً. لن تجد واشنطن أفضل من هذه الصفقة وهي تودع المنطقة، من ناحية تضمن أمن إسرائيل إلى عقود قادمة، ومن الناحية الأخرى تضمن انشغال المنطقة بنفسها وإشغالها جزءاً من العالم في الوقت الذي يتسنى لأميركا إعادة تموضعها في شرق آسيا لصياغة ميزان قوى عالمي جديد بعد أن بدأ هذا الميزان يختل لغير صالحها، فمن جهة تعمل على ضبط الصين ومراقبة صعودها وتشذيبه، ومن جهة أخرى تضمن نفاد قوة وجهود روسيا وإيران في صراعات تدرك أميركا بحكم خبرتها التاريخية أنها لن تنتج غير الكوارث عليهما.
بيد أن اللافت هو اندفاع إيران إلى هذه المحرقة مدفوعة بإغراءات تكتيكية وهمية حققتها من خلال انتصارات ظرفية ناتجة في الأغلب من مواطن ضعف في الساحات التي تقاتل فيها إيران ولا تشكل انعكاسا لقوتها، مما يثبت أن طهران سلمت مفاتيح تفكيرها الإستراتيجي لعسكريين من أمثال قاسم سليماني صاحب التكتيكات المتواضعة، ولرجال دين من نمط أئمة قم المهجوسين باعتبارات تاريخية ثأرية ليست لها عوائد إستراتيجية مفيدة.
لكن كيف صار للوهم حيثيات ومعطيات واستدراج عروض الشراء والبيع؟ ولماذا لم يتم منح هذا العطاء لقوى حليفة، كتركيا وإسرائيل مثلاً؟ الواقع أن إيران قدمت عرضاً بأرخص الأسعار ضمنته أولاً التكفل بمحاربة القوى الأصولية السنية من دون أن تكلف أميركا شيئاً، وضبط الحدود مع إسرائيل وتأمنيها، أما الآليات التنفيذية لهذا العرض فهي المنظومة القتالية الضخمة التي أسستها إيران في المنطقة عبر عشرات الميليشيات المسلحة والتي تنتظم جميعها في غرفة عمليات واحدة تحت إشراف القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني والقادرة بالتالي على الانضباط وفق الالتزامات الإيرانية لواشنطن، والتي لا تشمل هنا طبيعة سلوك هذه المنظومة القتالية وممارساتها في سورية والعراق ومناخ الفوضى والدمار الذي تصنعه في هذين البلدين.
أميركا باعت بلاداً لم تملك منها شيئاً في الماضي وليست لديها الرغبة في الالتزام تجاهها في المستقبل بعد أن ترمّدت، وإيران بذهنية قادتها اشترت المنطقة لتعيد التاريخ إلى ما قبل 1400 سنة وتبني سردية جديدة لتاريخها ليس فيه القادسية وذي قار ولا حتى سعد بن أبي وقاص.