الكولونيل شربل بركات/الدول والسيادة…السيادة ليست فقط أعتراف الآخرين لنا بالاستقلال والسلطة لادارة البلاد، ولكنها ايضا شعور داخلي بالفخر والانتماء

188

الدول والسيادة … السيادة ليست فقط أعتراف الآخرين لنا بالاستقلال والسلطة لادارة البلاد، ولكنها ايضا شعور داخلي بالفخر والانتماء

الكولونيل شربل بركات/14 حزيران/2021

مفهوم سيادة الدولة على أراضيها هو مفهوم شامل لكل مظاهر سيطرة الدولة بقواها الذاتية واشرافها على كل ما يحصل في البلاد. ومن جملة المظاهر والاعتراف بهذه السيادة الكاملة للدولة على أراضيها هو استقبال الضيوف والحلفاء. وعادة ما يكون هذا الاستقبال بنسبة درجة الزائر، فمثلا عندما يزور رئيس بلد ما بلدا معينا يجب أن يستقبله بحسب البروتوكول رئيس البلد المضيف كرمز لاحترام الضيف وسيادة البلد بنفس الوقت، فأهمية الضيف تظهر باستقباله على مدخل البلد وأحترام سيادة البلد من قبل الضيف بأنه يعترف بمضيفه ويعتبره سيدا على أرضه وهو من يحق له دعوة واستقبال الضيوف.

إحدى مظاهر غياب السيادة عن البلد هو عندما يزورها رموز من بلد آخر بدون دعوة وبدون استقبال من قبل نظرائهم المحليين. وهذه الأمور يراد منها أذلال المسؤولين في البلد وأظهار عدم سلطتهم على بلادهم واستخفاف الضيف بهم وعدم احترامه لهم. من هنا لفتني تعليق على أحدى محطات التلفزة اليوم عن زيارة قام بها وزير الدفاع التركي إلى ليبيا مؤخرا حيث لم يكن اي مسؤول باستقباله ولم تكن السلطات الليبية حتى على علم بالزيارة. وقد قام الجنود الأتراك بالاستغناء عن رجال الأمن الليبيين والسيطرة على المطار ومسؤولية حمايته أثناء زيارة وزير الدفاع والوفد المرافق له. وفي تعليقه على الموضوع أشار الصحافي في تلك القناة إلى موقف الرئيس الأسد الذي لم يكن يعلم بزيارة رئيس الأركان الروسي يومها، وقد أستدعي إلى القاعدة الروسية لمقابلة أحد القادة، وقد علّق هو نفسه على ذلك أمام الصحافيين بأنه لم يعرف بأن الزائر هو رئيس الأركان الروسي. ومن ثم ما جرى معه يوم زار بوتين أيضا نفس القاعدة (قاعدة حميميم) ولم يسمح للرئيس الأسد بمرافقته إلى استعراض حرس الشرف ولا إلى المنصة التي القى خطابه عليها.

وقد حضرتني زيارة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى لبنان في تشرين أول من سنة 2010 زمن الرئيس “المزعوم” ميشال سليمان حيث لم يكن باستقباله اي من رموز الدولة، لا بل كان الرئيس بري حاضرا بين المستقبلين بصفته رئيس حركة أمل الموالية لحزب الله وليس كرئيس للمجلس النيابي اللبناني. وقد جرى الاستقبال وكأنه زيارة لإحدى المستعمرات الايرانية يومها، وبدون وجود لرئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء ولا أي وجود لعناصر الحماية والأمن اللبنانيين أو حرس الشرف وما يقام بالعادة من تشريفات رسمية، وذلك فقط لكي يظهر حزب الله وإيران بأن لبنان هو مستعمرة إيرانية لا سيادة لدولة عليها ولا سلطة لأحد فوق سلطتهم والزيارة هي زيارة داخلية لأحد الأقاليم في دولة نجاد. وقد كان الاستقبال حتى الشعبي منه استقبالا شيعيا حصرا، إن في الضاحية الجنوبية أو على طريق المطار أو عندما زار نجاد الجنوب، حيث لم يرافقه أي من المسؤولين اللبنانيين، سيما وأن تلك المنطقة تقع تحت سلطة القوات الدولية مبدئيا، والقرار 1701 يمنع اي ظهور مسلح حتى للدولة اللبنانية إن لم يكن منسقا مع القوات الدولية.

وكانت قمة الذل عندما أقام رئيس الجمهورية مأدبة عشاء في القصر الجمهوري في بعبدا لتقديم مظاهر الخضوع والاستسلام لنجاد. وقد طلب إلى بعض اللبنانيين المنظورين الحضور لتقديم الولاء والخضوع للزائر المضيف لا الضيف، حيث كانت المنافسة بين الزعماء المحليين على من سيكون مدعوا فينال الرضى، ليس من قبل نجاد، بل من قبل ميليشياته التي كانت سيطرت بالقوة على بيروت وأنهت عرس ثورة الأرز الذي كللته إدوات إيران بالدم باغتيال كل من سولته نفسه معارضتهم والقيام بفرض سلطتهم مجددا على الساحة كلها بعد خروج القوات السورية المحتلة. وبعد اغتيال الفكر بدأ الجزء الثاني العملي من الخطة الايرانية أولا باستدراج إسرائيل إلى حرب في 2006 كلفت لبنان سقوط السيادة الكاملة والخضوع للاحتلال الإيراني ووقف عملية التخلص من ذيول الاحتلال السوري وسيطرة حزب إيران، وكانت يومها أكبر أغلاط السنيورة الذي يدّعي بأنه “قومي عربي” عدم القبول بتنفيذ القرارالدولي تحت البند السابع، حيث كان العالم جاهزا لذلك، وكان من جرائه الانتهاء من كل مشاكل لبنان واحلال سلطة الدولة كاملة على كل ربوعه. وقد يكون الخوف من أن تقوم الأمم المتحدة بالاشراف على توزيع المساعدات واعادة الاعمار ومن ثم غياب امكانية الاستفادة من تلك المساعدات وعودة دولة المؤسسات من جديد ما قد يؤدي إلى مساءلة الكل على تصرفاته الغير قانونية، هو ما دفع السنيورة وغيره من المتزعمين لعدم القبول بوضع البلد تحت البند السابع للأمم المتحدة. وثانيا القيام بعملية السابع من ايار التي أدت إلى سيطرة “القمصان السود” وذلك بغياب تدخل الجيش كسلفة من قبل سليمان لتسهيل انتخابه رئيسا، بعد أن كان سكت على اغتيال مساعده وقائد العمليات في الجيش اللبناني يومها، بطل نهر البارد العميد فرنسوا الحاج، والذي عوقب على خرق “خط نصرالله الأحمر” الذي كان رسمه الأخير حول “امارة العبسي” في مخيم نهر البارد، والتي، مثل “داعش” من بعدها، كان أريد لها أن تحجّم سيطرة الدولة بدأ من الشمال، وبواسطة عصابات سنية الشكل والمظهر ولكنها بالحقيقة جزءً من الخطة الإيرانية التي نفذت بعد ذلك في سوريا لافراغها من المواطنين العرب والسوريين واستبدالهم بمستوطنين من الأفغان والباكستانيين الشيعة الموالين للأمبراطورية الإيرانية.

زيارة نجاد يومها كانت مثل زيارة وزير الدفاع التركي إلى ليبيا اليوم ومثل زيارة كيسينغر يوم نزل في رياق ليفهم “فخامة” الرئيس فرنجية الذي عذّب نفسه وذهب إلى الأمم المتحدة مدافعا عن فلسطين، بالرغم من تحذير الأميركيين له، وإذا بعرفات نفسه يصبح الخطر الأكبر على لبنان، والذي يمر معه طريق القدس بجونية، ويطالب قبل كل شيء باسقاط فرنجية والمارونية السياسية وما تمثله في لبنان. كيسينغر يومها أراد أن يدرك فرنجية بأن لا سلطة له على مطار بيروت، بالضبط كما أراد نجاد أن يفهم العالم واللبنانيين بشكل واضح بأن لبنان أصبح تحت سلطة وولاية الولي الفقيه. وكما يحاول أردوغان أن يفهم الليبيين وغيرهم بأنه لن يترك ليبيا ترتاح بدون أن تعود صاغرة تحت الحكم العثماني، الذي أورثه اياه، كما يقول، توجه “أتاتورك” وبعض المتطوعين للقتال في ليبيا ضد سيطرة الايطاليين ومحاولة “تشكيلات محسوسة” (وهي جهاز المخابرات العثماني) اثناء الحرب العالمية الأولى تشتيت تركيز القوات البريطانية عن جبهة السويس بتجنيد بعض الليبيين والمصريين ضدها.

العالم يرى بوضوح ما ترمز إليه مثل هذه التصرفات ويرى كيف تدخلت إيران بواسطة سليماني في السابق (وما أتحفنا به مؤخرا السيد حسن بأنه من أمر ورافق كل عمليات الحرب سنة 2006 وبعدها كل أحداث سوريا وسيطرت المليشيات على العراق) وقاآني اليوم والذي فرض في آخر زياراته اطلاق سراح موقوف بتهمة قتل المتظاهرين والتحريض على الوقوف بوجه الدولة والقانون وفرض سيطرة ميليشاته على البلد، تماما كما فرض سليماني، وجبن القادة اللبنانيين، سيطرة ما يسمى بحزب الله على لبنان وسقوط كل مظاهر الدولة فيه، لا بل استعداء العالم واستجلاب العقوبات والبعد عن مساعدته للقيام من جديد. فهل إن اللبنانيين كما الليبيين والعراقيين وغيرهم من الشعوب المقهورة تعي ما يحدث في بلادها وتدرك بأن سياسة الامبراطورية تقوم على انهاء اي سيادة وسلطة محلية على البلدان التي تتبعها وأن ما يسمى مقاومة هو بالفعل قوى التسلط التي تجندها آلة الهيمنة لقهر المواطنين ومنعهم من الاستفادة من حرية القرار وترف المساواة والمطالبة بالعدل والسعي إلى الرفاه؟

لعلنا ندرك ما يرسم لنا ولو بعد فوات الأوان، لأن الشعوب ولو متأخرة عندما تعرف طريقها وتبدأ في المسير لا بد لها أن تصل، فالادراك هو باب التحرر، والسعي أول الطريق إلى السيادة. فهل يقوم لبنان الذي يحاولون دفع أهله إلى تركه بكل الوسائل ومنها الافقار وفتح مجالات الهجرة وتسهيل كل شيء سوى
الاستقرار والحلم بالسلطة الوطنية الحقيقية، التي ربما تبدأ السعي إلى قيام دولة ما يمكن أن نبني عليها فنتأمل بالاستقرار وعودة الرفاه والعزة الوطنية؟

الحرب على لبنان لم تنتهِ بعد منذ بدأت في 1969 يوم توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم. ولم يعرف من في راس الهرم بعد التخلص من عرفات وجماعته في 1982 أن يسعى إلى السلم فيبرم اتفاقية خروج القوات الاسرائيلية وعودة الهدنة كبداية للالتحاق بقطار السلم، فما كان من أعداء لبنان الحقيقيين والمصطادين دوما بالماء العكر، إلا أن خلقوا منظمة إرهابية جديدة سيطرت شيئا فشيئا على البلد، ومن ثم صدّرت كل الحقد الذي رباه عليها تلامذة الكا جي بي وملالي الخمينية العائدة من مجاهل التاريخ، وبثته في الجوار فأسقطت العراق وسوريا وليبيا وبلاد شمال أفريقيا واليمن، واستجلبت عداوة عرب الخليج، ومن ثم استعملت لبنان واللبنانيين حول العالم لتمرير مشاريع انفلاشها، وهي اليوم تسعى لتهجير أصحاب الأرض وتغيير الديموغرافيا كما فعلت في سوريا، فتسكن أفواجا، ربما من الصين هذه المرة، في البلاد التي لم يتركها أهلها في اصعب الظروف، لا بل قاوموا كل غازي ومستبد وانتصروا بتمسكهم وتعلقهم بالأرض وثباتهم مع القلة في أحلك الظروف حتى انقضى الظلم وذهب الغي وبقيوا، هم وخبرتهم في الحياة، مرفوعي الجبين يتباهون أمام شعوب الأرض قاطبة، بأنهم مستمرون منذ أقدم العصور ومنتصرون بصمودهم بالرغم من كل المآسي والويلات.

السيادة ليست فقط أعتراف الآخرين لنا بالاستقلال والسلطة لادارة البلاد، ولكنها ايضا شعور داخلي بالفخر والانتماء لا يقبل التنازل عن الحق ولا عن الأرض والقرار ولو اجتمع العالم كله علينا. فهل نخاف عملاء ايران ومرتزقة الأسد ونحن من أذاقهم المر خلال التاريخ كما قالها شاعرنا يوما:

أنرهب أن الشام تقصد ذبحنا وأن الذي فيها علينا تأسّد

ونعرف أن الأسد وهي أصيلة إذا قابلتنا تسبق السيل شردا

وأن الذي أعلى الشآم بسيفه بلانا فأدى جزية وتحيّد

أنرهب؟… أنا نرهب الصدع بيننا….

ليت الأهل يدركون عظمة لبنان وقوة شعبه المتجذر في هذه الأرض الطيبة، ورسالته الأساسية التي لا ترضى بالذل ولا تقبل الهزيمة، وهي تنتفض على الظلم وتنجح دوما بالبقاء والاستمرار، ولن يقدر الغزاة الطامعون على لي ذراعنا ولا على دفعنا للتسليم أو ترك الأرض لهم مهما حاولوا، فلبنان سيعود دولة لكل بنيه، حرا سيدا مستقلا عن كل وصاية، أهلا لصداقة وتعاون شعوب الأرض قاطبة، محيّدا شعبه عن التجاذبات والصراعات، عاملا لتفاهم الشعوب من حوله، ساعيا دوما للسلم والازدهار والتقدم. ونقول لكل من تسوّله نفسه أن يحاول إذلال اللبنانيين، بأن يقرأ التاريخ ويفهم مساره، ويعرف بأن كثيرين حاولوا ولم يقدروا، والأفضل له أن يسعى لأن يفهم دور لبنان ويتعظ من تجارب الآخرين فلا تحل عليه لعنته أو يمزّقه تأثير غضب السماء.