الدكتور حارس سليمان يقرأ في طرح الفدرالية بمقاله له عنوانها/الفيدرالية: نقاشٌ في أسانيدها المعرفية

133

الدكتور حارس سليمان يقرأ في طرح الفدرالية بمقاله له عنوانها/الفيدرالية: نقاشٌ في أسانيدها المعرفية
د. حارث سليمان/13 حزيران/2021

تطرح عودة طروحات الفيدرالية في أوساط لبنانية، تنامي اليأس والإحباط والضياع، بشكل عام في لبنان في بعض البيئات اللبنانية، وميلا متزايدا لدى أوساط عديدة، لمغادرة الرهان على استمرار الصيغة اللبنانية السياسية، التي قام عليها لبنان، منذ إعلان لبنان الكبير، على يد الجنرال غورو سنة ١٩٢٥، وتستعيد دعوة الفدرالية نشاطها انطلاقا من تعاظم نفوذ حزب الله وإمساكِه بمفاصل القرار السياسي اللبناني، وتحكمِه بقرار السلم والحرب، وبتقريره، متجاوزا لمؤسسات الدولة واجهزتها السيادية، لمعظم المسائل المتعلقة بالسياسة الدفاعية والعلاقات الديبلوماسية الخارجية، وصولا الى استباحة مداخيل الدولة من الرسوم والضرائب والجمارك، على المعابر الحدودية، والتحكم بحركة التصدير والاستيراد من لبنان واليه، وصولا لأتاحه وتسهيل أعمال الجريمة المنظمة بتهريب الأموال والمخدرات والسلاح والسلع المدعومة من مصرف لبنان.

ويتصور أصحاب الدعوة الجدد للفيدرالية، ويصورون خلافا للواقع، على أنَّ الفدرالية يمكن أنْ تشكلَ حلا لمعضلات لبنان الحالية وتصحيحا لخطأ تاريخي إقترفه المسيحيون، بتبنيهم قيام لبنان الكبير، بدل لبنان الصغير، الذي تكون حول نظام المتصرفية والقائم مقاميتين في منتصف القرن التاسع عشر الماضي.
ولذلك فهذه الدعوة وان كانت تأخذ مبرر تجديدها، من الكارثة السياسية والاقتصادية، والمصير المجهول الذي يواجه لبنان وشعبه، الا انها كفكرة وتوجه سياسي، كانت قائمة ومعتمدة قبل نشوء حزب الله وقبل اتفاق الطائف، وحتى قبل قيام وترسيخ ما يسمى اليوم ب ” الشيعية السياسية” وقد أُطلقت أديباتُها وخطابُها، من قبل الجبهة اللبنانية في خلوة سيدة البير التي عقدت سنة ١٩٧٦، وتولى الدعوة لتبنيها وبناء حيثياتها الفكرية والنظرية كل من امين ناجي، وفؤاد افرام البستاني، والاب مونس والمحامي انطوان نجم، فيما رسم خريطة الكيان المسيحي فيها السيد موسى البرنس، والفيدرالية المرفوع لواءها اليوم، هي توأم مشروع الوطن القومي المسيحي، الذي عمل له المغدور بشير الجميل وقضى بسببه.
وبعيدا عن منطق التخوين والاتهامات وقراءة النوايا، أو التصدي لفكرة الفدرالية المطروحة عبر ربطها بمؤامرات او خطط خبيثة أو مخططات مشبوهة، فلا بد من نقاشها كفكرة ومشروع من زوايا متعددة ومستويات مختلفة واهمها المستوى المعرفي، وذلك بمعالجة مبرراتها واسانيدها النظرية والفكرية.

على المستوى المعرفي ينطلق طرح الفيدراليين اللبنانيين من أن لبنان بلد تعددي، وهم يختصرون التعددية بالانتماء الديني، فيلحظون اربع هويات لبنانية على أساس طائفي في الجانب المسيحي وعلى اساس مذهبي في الجانب الاسلامي : هي المسيحية، السنية، الشيعية والدرزية، والتعددية المطروحة هنا، تعددية مبتورة وتعسفية؛ هي مبتورة لأنها تريد الاعتراف بالاختلاف بين الطوائف وتنكر التعددية داخل كل طائفة، كما تنكر حرية الفرد لصالح وحدة الجماعة الطائفية، وهي تطالب بحرية الاختلاف بين الجماعات وتتبنى ممارسة الاستبداد ومنع الاختلاف داخل كل طائفة، هي تعسفية لأنها تفترض ان كل افراد الطائفة خياراتهم واحدة متجانسة، وأن هذه الخيارات هي مختلفة ومنقطعة عن خيارات افراد آخرين في طوائف أخرى، ولهذا فهي باسم “تعددية مزعومة” تقيم معازل بشرية يسود فيها استبداد يمنع الاختلاف والتعدد.
التعددية هذه تتيح افتراس الجماعة لحقوق الفرد الانسانية، من جهة اولى، ولحقوق الدولة السيادية من جهة اخرى، ثم تختصر الجماعة بحزبها الطائفي وتختصر الحزب بزعيم يحكم ليورث.

قد يقول قائل، ان الطور الذي وصل اليه نظام المحاصصة الطائفي الحالي، يحمل في ممارساته، سمات دامغة من خطايا التعددية المبتورة والتعسفية!… قد يكون هذا الاستنتاج صحيحا لكن اعتماد الفيدرالية المقترحة، يقونن المحاصصة ويُمَأْسِسُهَا ويُشَرِّعُها، كحقيقة دائمة راسخة، لا سبيل لتخفيفها او استئصالها والتخلص منها. والتاريخ والحاضر اللبنانيين حافلين بقيام زعماء الطوائف كافة، وميليشيات أحزابها الطائفية كلها، بنبذ كل راي حر، مختلف عن راي قيادة الطائفة، وخوض معارك تخوين وعزل، وصولا الى قمع وانتهاك الحقوق الانسانية الاساسية أو التهجير من السكن العائلي وحتى القتل، لكل خارج عن سلطة زعيم طائفته ورافض للانضواء في قطيع الزعامة فيها.

والدعوة الى الفيدرالية اللبنانية تفترض ثانيا خلافا لصيرورة التطور، ان الهوية كجزء من ماهية الفرد أو الجماعة، هي صفة جينية، كاملة منجزة ثابتة عبر العصور ومستمرة ابد الدهور، وهو ما يكذبه التاريخ والواقع، ليس بالنسبة للهوية فقط بل في مسألة البصمة الجينية الوراثية أيضا! فلا وجود لهوية منجزة تامة، تستمر أبدية دهرية، بل أنَّ كُلَّ هوية هي قيد البناء والتراكم، دينامية تَبَلوُرِها تتصل بالزمان والمكان، وبالاجتماع السياسي لشعوبنا، وامكانية تحققها وترسيخها مشروط بالمجال العام وعلاقة مجتمعاتنا بأنظمة الحكم في بلادنا، وشرعية السلطات وحسن حوكمتها.

ورغم ان الدين يشكل جزءا من هوية الفرد ووجدانه، إلاّ أنَّ الانسان ليس كائنا دينيا بحتا وصافيا، وهويته ليست أحادية الابعاد، واختصارُ هويّته بالانتماء الديني، ابتسار لأبعاد أخرى في كينونته وارتكاب تعسفي مضاف الى تعسف سابق، والهوية في عالم اليوم، هي هوية مركبة بأبعاد مختلفة ومتعددة فعلا ؛ ففي كل انسان تعدد غني ومتنوع، وفي كل لبناني هويات متساكنة، تبدأ من عائلته الصغيرة الى الانتماء لمسقط راسه ومنطقته، او عائلته الموسعة، وصولا الى مذهبه ثم ديانته، ومن بعد ذلك الى عروبته ولغته الام، وهو موسوم بخياراته وسلوكياته الغذائية وانماط عيشه، وبتكون ذائقته الثقافية والفنية وانحيازاته الرياضية، وبتبلور اهتماماته بقضايا انسانية كبرى، وهو إضافة لكل ما تقدم، مستهلك منفتح العقل والقلب على كل جديد، في عصر اصبحت الارض فيه كناية عن قرية صغيرة، وهو ركيزة وهدف، للإبداع والبحث والاختراع، فضاؤه التنافس والتزام معايير الجودة والابتكار، هو كائن لا يختصر وجوده الدين، بل تتكون ابعاد شخصيته بتكوينه العلمي وبمستوى استهلاكه وموقعه الاقتصادي والمهني، وتتحدد خياراته وأنشطته على ضوء هذه الأبعاد كافة، والنظام السياسي وآليات الحياة الديموقراطية، وانظمة الانتخاب والمنظومة القانونية وأساليب تسيير المرافق والخدمات العامة، واستقرار المجتمعات الانسانية وازدهارها، مشروط بان تكون السياسات العامة تجسيدا لهذه الابعاد جميعها وانعكاسا لتنوعها واختلافاتها.

واذا كان قد جرى صراعات تاريخية سابقة على اساس ديني في ظروف محددة ومراحل تاريخية سابقة، فإن هذا الأمر كان ممكنا في حينه وظروفه، وهو ليست قاعدة، تطبق في كل ظرف و زمان ومكان!.
ان صراع الهويات الدينية، قد جرى في عصور الانتقال من التشكيلات الاقطاعية والقبلية، ومهدت لقيام واستقرار الامبراطوريات القديمة، وبعد الثورة الصناعية، وانتقال الدول الرأسمالية الصناعية، الى طور التنافس والصراع على الأسواق و الاستحواذ على مصادر الطاقة والمواد الخام، ولدت حروب أخرى، على قاعدة الهوية القومية ( الدولة الوطنية الكولونيالية) ونتج عن ذلك قيام عقائد شمولية، طبعت صراعات وحروب القرن الماضي.

مع نهاية الحرب الباردة ظهرت نظرية حرب الحضارات، والتي اعتبرت العالم الصناعي حضارة وهوية واحدة ( اي ثلاثة ارباع الكوكب) في مواجهة عالم اسلامي، يحمل ثقافة قطيعة وانفصال مع بقية العالم، وكانت هذه النظرية، حاجة اميركية لاعلان الحرب على الارهاب بعد احداث ١١ ايلول ٢٠٠٣ وتبريرا لاحتلال العراق، وانكارا استباقيا لتطورات الوقائع الجارية واحداثه اللاحقة.

فقد تصاعدت اليات العولمة وبناها، وتهاوت الحدود و سقطت العقائد الايديولوجية، وتهاوت أكثرية الانظمة الشمولية، وتعاظمت فردانية الفرد وابتكاره وابداعه، ولذلك فان حرية هذا الفرد وحقوقه الاساسية، أصبحت شرطا كونيا ليس فقط، لنظام قيم العولمة فحسب، بل لشروط كفاءة العولمة ذاتها ومستوى انتاجيتها و ربحيتها. فهل “صراع الحضارات” هي حرب فعلاً، ام انها منظومة ايديولوجية تتصارع فيها، نظريات ورموز وعقائد وعواطف وكراهيات، وعمادها فتاوي وكتب وفضائيات، فيما يغيب عن ساحاتها، أي توازن يطال المعسكرات المتقابلة، او تعادل بتقنيات صراعاتها، فيما يتبدى الاختلال الفادح عند مقارنة الاقتصادات الداعمة للأطراف المنخرطة في الحرب المزعومة تلك. الصراع قانون من قوانين البشرية وسننها التاريخية، لكن شعوب العالم ونخبهم، وحسب درجات تقدمها وحضارتها، تركت منذ عقود صراع الهويات الذي يبدأ لكي يدمر ويستمر دون حلول او نتائج، ويتأبد من جيل الى جيل، ولا تتحصل من خوضه اي نتيجة لان طعم أي نصر فيه، مر بطعم الخسارة.