الكولونيل شربل بركات/كا خالتي كيف الزبيبات؟

100

كا خالتي كيف الزبيبات؟
الكولونيل شربل بركات/12 حزيران/2021

خالتي نعامة من الشخصيات التي ملأت بيتنا محبة وهمة ونشاط. كانت جارتنا عندما كنا نسكن في بيت جدي بركات قرب الكنيسة، فبيتها يقع على طرف الجنينة التي كان جدي يوسف بعد أن عمّر البيت الجديد بقرب الكنيسة زرعها من كل ما لذ وطاب من الأشجار المثمرة خاصة أنواع الفواكه وأشجار الزينة على طريقة الطليان. وكانت ملعب دجاجاتنا ومسرح نشاطها يتباهى فيها الديك بعرفه الأحمر وذنبه العالي راعيا تلك الدجاجات ومانعا اي كان من الاقتراب منهن.

خالتي نعامة “ام العبد”، كما يسميها بقية الناس، هي من كان تبقى من صلة القرابة بالعتايمة، وتمثل في بيتنا ذلك “الشرش” الذي كان يذكرنا دوما، لا بل يعطينا مونة أحيانا، على جزء فاعل وأساسي من سكان البلدة، نحس من خلالها بالمودة التي تزين تعاطينا مع الناس ولو بعدت المسافات وتبدلت الأسماء. وخالتي نعامة هي ابنة خليل متى من عائلة عتمه وشقيقة لطيفة وجريس، والدتهم سارة الراهب من القوزح، وهي أخت مريم وحنة وشما وتقلا ولوسيا من والدتهم وردة ابنة سمعان بولس دياب. وقد تزوجت خالتي نعامة من طنوس حنا ناصيف عتمه ورزقت بعبد المسيح، وتوفي زوجها وهي في ريعان شبابها، وقد ربت ابنها وزوجته وفرحت بأولاده يملأون عليها البيت.

كانت خالتي نعامة تمثل النشاط والهمة في بيتنا، وهي طويلة ضامرة الجسم خفيفة الحركة حتى في أواخر ايامها. وقد كانت تزورنا يوميا وتساعد والدتي في الكثير من المهمات الصعبة، خاصة أثناء العزائم وتحضير الموائد الكبيرة، فهي بارعة بفتل المغربية لا يضاهيها أحد، وعندما تتربع فوق ذلك اللجن النحاسي المبيض وتبدأ بنثر بعض الطحين والزيت المخلوط بمجموعة من البهارات المطيبة ثم تدور عليهم بالفتل تخالها ماكينة سريعة من تلك التي نراها عند أبو ابراهيم اثناء جرش البرغل أو في معصرة طنوس التي يديرها الموتور. وكانت خالتي نعامة تحب النشاط وسرعة التنفيذ ولا تطيق الثرثرة كثيرا، وهي تجول في الحقول وبين الربعان لتنتقي أفضل الأعشاب المفيدة والتي تعلقها لتنشف قبل توضيبها وحفظها لفصل الشتاء، وكانت تعرف أوجه الاستفادة من كل أنواعها وتزودنا أحيانا ببعضها.

كانت الوالدة المهتمة بعائلة كبيرة نسبيا (عشرة أولاد) تعتل هم أمور كثيرة يجب تحضيرها، وخاصة بأن بيتنا مفتوح ويزورنا بالعادة بعض الغرباء حيث يجب خدمتهم وضيافتهم، لأن بيت المختار هو واجهة القرية ومقصد كل غريب يدخلها لأي غرض، ويجب استقباله وضيافته كونه لم يكن في البلدة مطاعم أو فنادق، وينزل الغريب دوما في بيت المختار منذ زمن المرحوم جدي يوسف. ولذا فقد كانت لفتة خالتي نعامة مهمة جدا وزياراتها محببة، فهي دوما من طاقم الأقارب المساعدين.

كان الزبيب أحد العناصر الأساسية التي تدخل من ضمن التحضيرات للمونة الشتوية وكان عندنا كرم في المجدول زرعه والدي اشجارا مثمرة وزيتون، ومن جملة تلك الأشجار بعض دوالي العنب. وفي بدايات ايلول بعد أن يحلو العنب من الضروري تحضير الزبيب لفصل الشتاء. وكانت والدتي، التي سكنت في بداية زواجها في الكحالة، حيث كان والدي يعمل كمعلم عند راهبات الطليان، قد أخذت الكثير من خبرات تلك الأنحاء خاصة في بعض أمور تحضير المونة ومنها الزبيب، فجارتها أم عساف كانت خبيرة بهذا الموضوع، ولذا فقد كانت في كل سنة تنجح في تحضير الزبيب الذي يزين سهرات الشتاء ويضيف إليها بعض الحلاوة. وكان تحضير الزبيب عملية تتطلب ايادي لقطف العنب وفصل الحبوب عن العراميش ومن ثم غسلها بتلك المواد الحافظة، وهي كناية عن بعض الرماد الذي يخلط بالماء والزيت ويغطس فيه العنب قبل أن ينشر على السطح لينشف وتجف حباته فلا يدخلها الهريان ولا الخمج. وكان تحضير الزبيب عملية محببة لنا صغارا حيث نستطيع أكل الكثير من العنب أثناءها ولو أنها تتطلب منا تجميع المحصول في السلال وجلبها إلى البيت حيث تغسل وتحضر لتنشر على السطح.

في إحدى هذه المرات كانت خالتي نعامة حاضرة ليلة قررت الوالدة أن نذهب في اليوم الثاني لقطاف العنب من أجل تحضير الزبيب، فتبرعت خالتي نعامة أن تذهب معنا للمساعدة. كانت هذه البادرة من خالتي نعامة طبيعية، ولكنها بالنسبة لوالدتي كانت مهمة جدا، فهي تعرف رشاقة خالتي نعامة وحسن تدبيرها. وهكذا ومن “قبل الضو” كانت خالتي نعامة حاضرة تقرع الباب و”وينكن؟ بعدكن نايمين كعمي؟ مصارت الدنيا الضهر”.

ذهبنا بكل نشاط واندفاع ليس فقط بسبب العملية الفريدة خلال السنة ولكن أيضا لكي نرافق خالتي نعامة في مشوارها والتعرف على طريقتها ورؤيتها وهي تعمل وفي نفس الوقت تخبرنا بعض خبرياتها. وبعد أن بدأ القطاف قامت خالتي نعامة بتحضير اللجن ووضع الماء فيه، وكنا نعتقد بأن ذلك فقط لغسل العنب قبل أخذه للبيت، ولكن الوالدة قالت لنا هذه السنة سنعمل الزبيب على طريقة خالتي نعامة فهي قالت لماذا نأخذه للبيت كل عمرنا نعمله في الحقل ولا يهمك أنا بقلك كيف. وهكذا فقد غسل العنب بالمواد الحافظة ومن ثم وضعته خالتي نعامة على التراب مباشرة لينشف، فهي أقنعت الوالدة بأن التراب ينشفه أسرع بكثير من أن تضعه على ورق الجرايد أو تنشره على السطح الباطون، فالتراب يشرب الماء ويحمى بالشمس، وهكذا سيكون عندك زبيب ناشف باسرع ما تتصوري، ولماذا نحمله إلى البيت فهنا أفضل وبدون عجقة البيت.

كانت والدتي تنظر إلى خالتي نعامة وهي تحضر الأرض وتسهمد التراب لتفلش عليه حبات العنب البيضاء المتلألئة وهي تتحصر في قلبها، ولكنها لم تشأ أن تعارض خالتي نعامة المتبرعة والتي لها كل المونة. وفي نفس الوقت قالت لماذا أعترض فقد تكون طريقة خالتي نعامة بالفعل أفضل. وما أن مضى يومان ثلاثة إلا وجاءت خالتي نعامة لتحثنا على الذهاب إلى المجدول لجلب الزبيب، ولما أحضر الزبيب الموعود إذا بحباته التي تجعدت على التراب الذي غمرها وحافظت عليه لا بل تمسكت به، وعند رؤية والدتي لهذا المنظر تغيّر وجهها، فلا يمكن ازالة التراب ولا يمكن غسل الزبيب وكيف سيؤكل مع التراب؟ قالت خالتي نعامة “بسيطة كخالتي بس كتيه هيك نتفة كلو بروح”، وكعينا نكت ما راح شي. فراحت خالتي نعامة إلى بيتها وأسود وجه والدتي: “فكيف قبلت أن أجاري خالتي نعامة وطريقتها وأنا التي لم أرضى أن أضع العنب على الباطون لكي لا يلقط اي غبار من الأرض؟ كيف قبلت معها أن أضعه على التراب؟”

ومن يومها خفّت زيارات خالتي نعامة إلى بيتنا، وكانت كلما التقت أحدنا تسأله: “كخالتي كيف الزبيبات؟” وعندما نعود ونحكي لوالدتي عن سؤالها يتغير وجهها، ولذا فقد كنا نحب أحيانا أن نمازحها، حتى بعد وفاة خالتي نعامة، فتقول لها: “كخالتي كيف الزبيبات؟” ولا تتمالك نفسها من تلك الجملة وتقول أسكت شو بدك بهالحكي…