جورج حايك/الكيان اللبناني في خطر

88

الكيان اللبناني في خطر
جورج حايك/28 آذار/2021

على الرغم من كل الاحتلالات للبنان لم يسبق أن تهدد كيانه السياسي، الاقتصادي والاجتماعي لخطر كما هو مهدد اليوم بسبب هيمنة حزب الله المسلّح على مؤسساته الدستورية ومصادرته القرار اللبناني الرسمي ووضعه في خدمة المشروع الايراني الطامح للسيطرة على دول الشرق الأوسط وتغيير نمط عيشها وفق شرائعه الدينيّة والمذهبية، وتحدياته الاقليميّة التي اساءت إلى كل مبادئ السلام والاستقرار في محيطنا العربي، بعد تدخل ايران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وتخبط هذه الدول بالحروب والفقر والانهيار الاقتصادي والتخلف الاجتماعي والفوضى العارمة.

المؤسف أن لبنان اليوم بات ضحية لصراع إيران مع المجتمعين العربي والدولي، بل حوّلته ورقة تساوم عليها في مفاوضاتها مع عواصم القرار في ملفها النووي، وكان مستحيلاً أن يحصل ذلك لو لم يكرّس حزب الله نفسه أداة لضرب الكيان اللبناني على نحو منهجي مستمر منذ عام 2005 وحتى اليوم، وكل من حاول أن يُدافع عن الكيان كان مصيره الاغتيال والاستشهاد!

كثر يتساءلون كيف تمّ الانقضاض على الكيان؟
الدولة الضعيفة: من علامات الدولة الضعيفة أن يكون فيها تنظيماً مسلحاً إلى جانب القوى الشرعية أي الجيش اللبناني، قوى الأمن الداخلي، الأمن العام وأمن الدولة… والاسوأ أن قرار هذا التنظيم المسلّح في الخارج وليس في يد الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية، أي في الحالة التي نعيشها يأخذ حزب الله قرار السلم والحرب في لبنان من مرجعيته في ايران التي تمدّه بالمال والسلاح وكل ما يحتاجه، بالمقابل لا استقلالية للقرار الرسمي اللبناني بل وضعه الحزب في خدمة محور الممانعة الذي تقوده ايران في مواجهتها مع العالم الحر، وحتماً سيطرة الحزب على القرار ليست من العدم إنما بفرض قوة السلاح والتهويل بالويل والثبور لكل من يعارض خيارات الحزب وفق ما تقتضيه مصلحة ايران أكان في مواجهتها مع اسرائيل أو في مواجهتها للعالم العربي السنيّ في سوريا واليمن والعراق. إضافة إلى أنشطته في مختلف دول العالم وصولاً إلى مجتمعات غير مستقرة في أميركا الجنوبية، مما جعل بعض الدول تدرج الحزب على لوائح التنظيمات الارهابية في العالم. هذا ما أدى إلى اضعاف لبنان وبالتالي وجّهت أول ضربة للكيان اللبناني الذي لا يمكن أن ينمو ويتطور أو حتى أن يعيش باستقرار من دون دولة قوية وفعلية تخرجه من خط الزلازل الشرق أوسطية.

تغيير وجه لبنان: عُرِفَ جوهر الكيان اللبناني كموئل حوار بين الشرق والغرب من دون تمييز، وبالتالي هذا هو دوره على مرّ التاريخ ولا يمكنه أن يكون في خصومة مع الشرعيتين العربية والدولية، كونه عضو مؤسس في الأمم المتحدة وعضو فاعل في الجامعة العربية، انما ما حصل منذ العام 2005 حتى اليوم هو ضرب حزب الله لدور لبنان وتعكير علاقاته مع الدول العربية والخليجية الصديقة من جهة والولايات المتحدة واوروبا من جهة أخرى، إذ كل ما يريده هو استبدال هذه العلاقات التي غالباً ما شكّلت عاملاً اقتصادياً مزدهراً للبنان، بعلاقات مع المعسكر الشرقي وفق رؤية حزب الله، وهنا نقصد ايران واصدقاءها الصين وسوريا وفنزويلا وصولاً إلى روسيا، أي الدول المعادية نظرياً للولايات المتحدة. هذه السياسة أدت إلى عزل لبنان وحجب المساعدات المالية عنه وخصوصاً بعد تكريس معادلة السلاح والفساد، أي أن السلاح يغطي المسؤولين السياسيين الذي يعيثون في البلد فساداً، والمسؤولون السياسيون يغطون سلاح حزب الله ويروّجون له سياسياً! لم يعد لبنان موجوداً على الخارطة الدولية، وبات الكيان مهدداً في وجهه الحضاري الذي عرف به تاريخياً منذ نشأة لبنان الكبير العام 1920 وتعزز بعد الاستقلال العام 1943.

موت الاقتصاد: صحيح أن الاقتصاد اللبناني كان يعاني من عطب أساسي وهو اعتماده على الاقتصاد الرعائي لا الانتاجي على مدى عهود طويلة، لكن ذلك لم يؤد يوماً إلى أزمة اقتصادية تهدد بضرب الكيان اللبناني على هذا النحو، والأسباب عديدة أهمها حروب حزب الله المتتالية التي افقدت الاقتصاد اللبناني مقوّماته، ممارسة المسؤولين اللبنانيين سياسة التعطيل للمؤسسات والاستسلام للفراغ، سيطرة حزب الله على السلطة وعدم قدرته على التفاعل مع الاقتصاد العالمي نتيجة رفض دول العالم التعاطي معه بسبب تصنيفه ارهابياً وفق لوائحها، انتشار الفساد وعدم جديّة السلطة في لبنان في مكافحته واشتراط أكثرية الدول الكبيرة تأليف حكومة اختصاصيين مستقلة تنفّذ الاصلاحات المعروفة وخصوصاً في قطاع الكهرباء الذي يشهد منذ 10 أعوام هدراً وصفقات وسمسرات، ووقف التهريب على الحدود وخفض عدد الموظفين في القطاع العام وغيرها. هذا كله أدى إلى اقتصاد معزول، فارتفع سعر صرف الدولار في الأسواق اللبنانية وفقدت الليرة اللبنانية قيمتها، وأفلست الكثير من المؤسسات وهربت الماركات العالمية من لبنان وانتشرت البطالة وارتفعت اسعار السلع بشكل جنوني، مما يهدد لبنان بانفجار اجتماعي، وقد يؤدي إلى اندلاع حرب أو فوضى أمنية، وبالتالي هذا الأمر شكّل ضربة كبيرة للكيان واحتمال تفتته إلى كيانات متعددة.

انتهاك الدستور: أبشع ما يحصل للكيان اللبناني هو انتهاك صمام الأمان له أي الدستور، فيما المطلوب قراءة دستور الوطن وفهم روحه لا نصّه وحسب، بدقة وبعد نظر، انسجاماً مع الاستقلال والسيادة والميثاقية والصيغة لا اجتزاءه، وقراءة كل مكوّن ما يحلو له قراءته، ورمي ما لا يعجبه ولا يصبّ في مصلحته في سلة المهملات، والخطر على الدستور هو السلاح لأن لا يوجد بنداً فيه يجيز لتنظيم أو لحزب معيّن بامتلاك السلاح، بل بالعكس ينص اتفاق الطائف “على الإعلان عن حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني…”. هذا ما لم يحصل وكان أساساً قد تُرك السلاح مع حزب الله بحكم الأمر الواقع تحت ذريعة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، وبقرار من السلطة اللبنانية المتعاونة مع الاحتلال السوري. لكن بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي العام 2000 والجيش السوري العام 2005، لم يعد هناك مبرراً لاستمرار هذا السلاح، وعلى الدولة اللبنانية تطبيق ما اتفق عليه في وثيقة الوفاق الوطني وإلزام حزب الله بتسليم سلاحه ليتحوّل حزباً سياسياً فقط، واستكمال تطبيق البنود الأخرى في اتفاق الطائف.

وتأتي دعوات بعض القوى السياسية ولا سيما حزب الله من وقت إلى آخر، إلى مؤتمر تأسيسي بهدف تغيير الدستور كرغبة في ضرب الميثاقية والمناصفة بين المسلمين والمسيحيين لتصبح مثالثة بين السنّة والشيعة والمسيحيين، وهذا ما يضرب جوهر ما قام عليه الكيان وفرادته من خلال فرض وقائع ديمغرافيّة مختلفة ومجحفة بحق عدد من الطوائف والمذاهب لصالح طائفة واحدة، وقد تنشأ بسببها صرعات على النسب داخل الكتلة المسيحيّة والكتلة المسلمة من غير الشيعة، أو صراع مستجد كلّما تغيّرت النسب بين الكتل أو ضمن الكتلة الواحدة، والذهاب إلى الأكثرية العددية، وسيصبح التعطيل بيد ثلاث كتل كبيرة.

الحل هو بتطبيق الدستور بمفهوم الشراكة الوطنية والميثاقية والالتزام بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين من دون أي محاولة استقواء طرف على آخر، وانصهار الطوائف ببعضها وتعزيز مفاهيم المواطنة، وهذا ما يفترض حسن النيّة عكس ما يحصل الآن.

نزيف الهجرة: بعد حالة الانهيار التي يتخبط فيها لبنان وانسداد الآفاق اقتصادياً ومعيشياً وسياسياً وفرض نمطاً اجتماعياً عنوانه الذل للشعب اللبناني نتيجة فشل منظومة الأكثرية الحاكمة في اجتراح الحلول، اختار كثيرون الهجرة وبكثافة. صحيح أن لبنان شهد موجات هجرة متتالية عبر التاريخ، لكن هذه النزعة كبرت وباتت حلماً لكثير من الشباب اللبناني البائس، وهذا ما سيؤدي إلى خلل ديموغرافي كبير وتحويل المجتمع اللبناني إلى مجتمع كهل عاجز، لا طاقات شبابية فيه.

تشكّل الهجرة نزيفاً كبيراً للكيان اللبناني الذي يعيش ويتنفّس من أدمغة وكفاءات شبابية، الا أن ما يتعرّض له لبنان هو تفريغ لفئة كبيرة من الشباب المتعلّم والمثقّف لمصلحة فئة من الشباب استغلت وعُبِئَت لخوض المواجهات والحروب لحساب دولة أخرى، فهل هكذا تنمو الدول والحضارات في القرن الحادي والعشرين؟

أصبح الوضع في لبنان محزناً بل يدعو إلى القلق نتيجة التدهور السريع للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفشل العهد في اخراج لبنان من محنته نتيجة تحالفه مع حزب الله ومشروعه الممانع الكبير الذي يبدو فيه لبنان حلقة صغيرة من حلقات كبيرة، تؤثّر على استمرارية كيانه ونموّه واستقراره، مما دفع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى رفع الصوت واطلاق مبادرة انقاذية كبيرة تقوم على الحياد الايجابي للبنان ومؤتمر دولي لتثبيت الكيان اللبناني ودستوره وتنفيذ القرارات الدولية، وتبدو الفكرة الحيادية اليوم حاجة وطنية لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي ولمساعدة شعبه المهدد بالفقر والجوع التي تسببت بهما سياسة الانحياز التي اعتمدتها الدولة فعلياً بدفع من حزب الله، وهي ربطت لبنان بمحور الممانعة، وهذا الربط عزل لبنان عن المدى الحيوي المفيد له بين أشقائه واصدقائه. واللافت أنه لا توجد علاقة بين اعلان الحياد وبين العداء لإسرائيل، وهذا العداء يحظى بإجماع من القوى السياسية كافة، وتكفله القوانين اللبنانية التي تمنع أي تعامل مع العدو الاسرائيلي. وللتذكير بأن هذا الحياد قديم وليس بجديد، وقد جاء في ميثاق 1943 ان لبنان جسر تواصل بين الشرق والغرب، وتسوية العام 1958 تحت شعار لا غالب ولا مغلوب في إشارة إلى عدم انتصار محور على محور آخر. أما اتفاق الطائف الذي أنهى الحروب الداخلية العام 1989، فقد تحدث عن لبنان العربي الهوية والانتماء والمنفتح على كل الثقافات، وهو ملتزم بميثاق جامعة الدول العربية وبعضويته في منظمة الأمم المتحدة. وثوابت وردت في اتفاق الطائف وفي اعلان بعبدا الذي وقعت عليه كافة القوى اللبنانية في 11 تموز 2012. ولبنان ايضاً انضم إلى مجموعة دول عدم الانحياز بعد العام 1961. في لحظة مصيريّة، فلنقف جميعنا خلف مبادرة البطريرك الراعي المدعوم فاتيكانياً، لأنها الفرصة الوحيدة لإنقاذ لبنان وسط هياج اقليمي في أوجّه، وهو يُهدد بحروب ونزاعات كبيرة قد تطيح بسيادة واستقلال دول بكاملها.