محمود الزيباوي/كاهن قره-باغ: باقٍ في دير داديفانك..لن نفقد كل شيء

85

كاهن قره-باغ: باقٍ في دير داديفانك..لن نفقد كل شيء!
محمود الزيباوي/المدن/20 تشرين الثاني/2020

تناقلت وكالات الأنباء العالمية في الأيام الماضية صوراً لجنود من قوات حفظ السلام الروسية يسيرون في دوريات أمام دير “داديفانك” خارج بلدة كالاباجار في ناغورنو قره باغ، ونشرت تقارير عديدة تتحدث عن توافد الأرمينيين لزيارة هذا الدير قبل تسليم البلدة لأذربيجان، وفق ما نصّ عليه اتفاق وقف إطلاق النار في ناغورنو قره باغ.
يُعرف هذا الدير باسم “داديفانك”، أي دير القديس دادي، وهذا القديس مجهول خارج أرمينيا، وهو بحسب التقليد المحلي تلميذ القديس تداوس، أحد رسل المسيح الاثني عشر.
حمل تداوس البشارة إلى أرمينيا في القرن الأول، وجلب معه الحربة المقدسة التي طُعن بها جنب المسيح على الصليب، والمنديل المقدّس الذي طُبعت عليه صورة وجع المسيح، فتبعه الكثيرون، ومنهم دادي الذي تُعرف باسمه كذلك قرية صغيرة مجاورة لبلدة كالاباجار.
حمل الدير الواقع في كالابجار اسم القديس دادي، كما سُمّي بدير خوتافنك، أي دير التل، وربط التقليد بينه وبين تلميذ رسول المسيح تداوس فجعله مؤسّساً له، غير انّ أقدم المصادر التاريخية التي تذكر هذا الدير يعود في الواقع إلى القرن التاسع.
دُمّر هذا الصرح بشكل كامل في عهد السلاجقة في سنة 1145، وأعيد بناؤه في نهاية القرن الثاني عشر، واكتمل هذا البناء خلال بضعة عقود من الزمن، وأخذ شكله النهائي في النصف الأول من القرن الثالث عشر.
ارتبط هذا الإعمار بسلالة من الأمراء الأرمينيين لمعت في تلك الحقبة التاريخية المتقلّبة، وهي سلالة فاكستاجيان التي انبثقت منها عائلة حسن جلاليان، نسبة إلى الأمير حسن جلال دولا، أي جلال دولة. يبدو هذا الاسم “الإسلامي” غريباً اليوم، غير أن العديد من وجهاء الأرمن حملوا، خلال تلك العهود، أسماء مشابهة، هي في الواقع كنيات تكنّوا بها تعظيماً وتوقيراً، على مثال معاصيرهم من الشعوب الإسلامية التي جاوروها واختلطوا بها.
ولمع اسم هذا الأمير في آرتساخ، وهو الاسم الذي عُرفت به هذه المنطقة قبل أن تعرف باسم كاراباغ، ثم ناغورنو كاراباغ، ونجح في عقد معاهدة مع المغول، فساهم في حماية آرتساخ، كما نجح في المحافظة على شيء من الاستقلال الذاتي في هذه المقاطعة التي شهدت ويلات الحروب وتقلباتها. ونقع على صور منقوشة تمثّله في عدد من مواقع آرتساخ الأثرية حيث يظهر بملامحه وبملابسه شبيها بأمراء التركمان والمغول.
يتكوّن دير داديفانك من ثلاثة وعشرين مبنى تتوزّع على ثلاث مجموعات. تشكّل المجموعة الأولى حجر الثقل وتتألف من سلسلة من دور العبادة تمتدّ من الشمال إلى الغرب. في المقابل، تتألّف المجموعة الثانية من مساكن خاصة بالأمراء والوجهاء، وهي في الطرف الجنوبي الغربي من الموقع. تبقى المجموعة الثالثة، وهي قائمة جنوباً، وتتألف من مساكن مخصّصة للعامة. تحوي المجموعة الأولى ثلاث كنائس، إضافة إلى مبنى من طراز خاص يُعرف في فن الهندسة المعمارية الأرمينية بالـ”جمتون”، وهو مبنى يرتبط بشكل مباشر بالكنيسة الأساسية، وفيه يعقد رجال الدين لقاءاتهم.
تتألّف الكنيسة الأولى من رواق واحد، وهي غير مؤرخة، وقد تلف سقفها مع مرور الزمن، وبقيت منها جدرانها، وحلّتها التزيينية تجريدية يغلب عليها بشكل تام الطابع السلجوقي الذي انتشر في نواحي القوقاز على مدى القرن الثاني عشر.
أما الكنيسة الثانية، فتُعتبر الكنيسة الكبرى، وتحمل نصاً طويلاً، وثمة نقش في حجارتها يشهد لبنائها في سنة 1214.
يقول هذا النص: “بمشيئة الله الكلّي القدرة، انا أرذو خاتون خادمة المسيح المتواضعة، ابنة كبير أمير الأمراء كورد، وزوجة فاكستانج من السلالة الملكية، شيّدت هذه الكنيسة عند مثوى زوجي وابنيّ، حسن ولدي البكر وكريكور، الراقدين باكرا”.
تعتمد الكنيسة بنية مصلّبة، أي على شكل صليب، مع أربع قاعات تحوي كل منها طابقين. وتعلوها قبة اسطوانية بديعة تتميّز ببنيتها الهندسية المتكاملة.
على الصعيد الخارجي، تجمع جدران الكنيسة بين كتل الطوب الأرجواني وكتل الحجر الأبيض، وتحوي إلى جانب حلله التزيينية المنقوشة لوحتين أنجزتا بأسلوب النحت الناتئ.
في اللوحة الأولى، وهي أشهر معالم دير داديفانك، يحضر رجلان ملتحيان متواجهان يرفعان أيديهما في اتجاه مجسّم لهذه الكنيسة، وهما بحسب أهل الاختصاص ابنا أرذو خاتون، حسن وكريكور. تتبنّى الصورة الثانية نموذجاً مماثلاً، غير ان الجزء الأسفل منها لم يسلم للأسف، وهي تمثّل زوج أرذو خاتون، “فاكستانج من السلالة الملكية”، والقديس دادي، شفيع الكنيسة التي شُيّدت على اسمه.
تحوي جدران الكنيسة الداخلية رسوماً بقيت منها لوحتان.
تحتلّ اللوحة الأولى الجدار الجنوبي، وفيها يقف القديس نيقولاوس مبتهلاً في وضعية المواجهة بين المسيح والسيدة العذراء. وفقاً للنموذج التقليدي، يرتدي القديس الحلّة الأسقفية، ويظهر المسيح عن يمينه حاملاً بين يديه كتاباً. وتطلّ السيدة العذراء من الجهة المقابلة، حاملة بين يديها وشاحاً أسقفياً. بحسب السيرة المتناقلة، عاين القديس في رؤيا، يسوع المسيح وهو يسلمه الإنجيل الشريف من جهة، والسيدة العذراء وهي تضع الوشاح الأسقفي على كتفيه من الجهة الأخرى. وبعد فترة قصيرة اختير نيقولاوس أسقفاً لمدينة ميرا في آسيا الصغرى، وهي المدينة التي تُعرف في زمننا باسم دمري في الأناضول.
في المقابل، تحتل اللوحة الثانية الجدار الشمالي، وفيها يظهر القديس اسطفانوس حاملا المبخرة بيده اليمنى، وكأس القداس بيده اليسرى. ويظهر في الطرف المقابل ستة رجال من العسكر يرجمونه بالحجارة. كان اسطفانوس أول شماس وأول شهيد، وقد قضى رجماً بعد صلب المسيح بفترة قصيرة كما جاء في الإصحاح السادس من سفر أعمال الرسل، وذلك بعدما عُيّن ضمن سبعة رجال لخدمة الكنيسة، وهم أول سبعة شمامسة في القدس.
نصل إلى الكنيسة الثالثة، وهي صغيرة الحجم ومتواضعة وغير مؤرخة، وتحوي شاهد قبر بديعاً من الطراز الأرمني الذي يُعرف باسم خاتشخار يعود إلى العام 1182، وهو خاص بالأمير حسن ابن فاكستانج الذي وهب املاكه لأبنائه، وتوحد راهباً في داديفانك، كما تقول الكتابة المنقوشة.
إلى جانب هذه الكنائس، تحضر مبان أخرى تحوي كذلك حللاً بديعة ومجموعة استثنائية من شواهد القبور المزينة بالنقوش الناتئة، وفقاً للتقليد الخاص الذي عُرفت به أرمينيا.
تشكل مجموعة الأبنية السكنية امتداداً لهذه المباني الدينية، وأهمها دار من طابقين تُعرف بقصر أمراء سلالة جيلاليان.
تبقى المجموعة الخاصة بالعامة، وتضم داراً شيّدها المدعو تير كريكوريس من عائلة فاكستانجيان في 1211.
عاش دير داديفانك عصراً ذهبياً ثانياً، بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ثم دخل شيئاً فشيئاً في النسيان إلى أن أعيد اكتشافه في القرن الماضي، فبرز كواحد من أهم شواهد العمارة الأرمينية وأكملها.
في 1992، اندلع النزاع حول ناغورنو كاراباغ، وقامت في هذا الإقليم جمهورية مستقلة لم يُعترف بها عالمياً، وأُجريت في هذه الجمهورية انتخابات في صيف 2002.
بدأ العمل على ترميم دير داديفانك وصيانته بتمويل من سيدة أعمال أميركية أرمينية تُدعى اديل هوفانيان في 2005، وأشرف على ترميم كنيسته الكبرى خبير إيراني أرمني يُدعى اديك ابراهاميان. استعاد هذا الصرح بريقه، وأضحى من أشهر معالم أرمينيا السياحية. واليوم يودّع سكان آرتساخ بحسرة دير القديس دادي، ويقف على رأسهم كاهن مردّداً بمرارة: “لقد فقد الناس أحباءهم وبيوتهم. لا يريدون أن يفقدوا داديفانك. هذا الدير لنا، ولا يُمكنني ترك المكان”.