فارس خشان/حرب فرنسا و”الإسلامية” وراية التجديف

166

حرب فرنسا و”الإسلامية” وراية “التجديف”
فارس خشان/النهار العربي/25 تشرين الأول/2020

عندما أقرّت فرنسا “حق التجديف” وحمته، كانت الكنيسة الكاثوليكية في الواجهة. في هذه المعركة التي استلهمت الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير، إنتصرت الجمهورية. وعندما أقرّت فرنسا زواج المثليين وحقهم في تبنّي الأطفال، كان كاثوليك فرنسا، في الواجهة. في هذه المعركة التي قادها الرئيس الإشتراكي فرانسوا هولاند، إنتصرت الجمهورية.

فرنسا نفسها، تعود الى المواجهة، ولكن هذه المرة مع “الإسلامية”، وهي تَعِد نفسها، بقيادة “الوسطي” ايمانويل ماكرون، أن تنتصر مجدّداً.
و”الإسلامية” تعبير من ابتكار فرنسي يقصد به كل تيار إسلامي يعتمد نظرته الخاصة الى الإسلام، ويريد فرضها على الآخرين واعتمادها في مسار سياسي.

وإذا أُخذ هذا التعبير الى الترجمة الميدانية، فهو بدأ يعني “السلفيين” وتنظيم “الأخوان المسلمين”. و”الإسلامية” التي قرّرت الحكومة الفرنسية محاربتها تسعى، بالكلمة أحياناً كثيرة وبـ “السكين” أحياناً أخرى، إلى فرض “اجندتها” على الجمهورية الفرنسية، سلطات ومؤسسات، سواء على مستوى الحقوق، من خلال السعي الى التراجع عن “حق التجديف”، أم على مستوى التوجّهات في السياسة الخارجية.

وتدخل ثلاث عمليات إرهابية في خانة مواجهة “الإسلامية” لـ “حق التجديف”، الأولى المجزرة التي استهدفت مجلة “شارلي ايبدو”، بسبب نشرها الرسوم التي أساءت الى النبي محمّد، والثانية، الهجوم على المقر السابق للمجلة، على إثر إعادة نشرها للرسوم مع بدء محاكمة المتدخلين بالمجزرة التي ارتكبت في العام 2015، أمّا الثالثة فتمثلت، في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، بقطع رأس أستاذ التاريخ صموئيل باتي، بعد عرضه هذه الرسوم على تلامذته، في إطار درس ألقاه عن حرية التعبير.

وهذه الجرائم الإرهابية الثلاث، لا تختصر قصة “الإسلامية”، في فرنسا، بل تتعدّاها الى جملة من العمليات التي بدأت في العام 2012 وتعملقت في العام 2015، وجرى إحباط الكثير غيرها، على مدى السنوات اللاحقة، وقد استهدفت مسرحاً، مقاهي، مطاعم، يهوداً، ورجال دين مسيحيين.

وسعى رؤساء فرنسا المتعاقبون إلى منع كل خلط بين المسلمين الذين يبلغ تعدادهم في فرنسا ستة ملايين شخص، وبين الإرهاب الإسلامي، في البداية، قبل أن يتطوّر هذا الخطاب مع ماكرون الى تضييق منع الخلط، ليصبح بين المسلمين، من جهة وبين “الإسلاميين”، من جهة أخرى.

لكنّ مهمة “منع الخلط” بدأت، مع كل عملية إرهابية، تخسر ميدانها، حتى يعتقد البعض بأنّ ثمّة من يدفع فرنسا الى حرب أهلية ساخنة.

وعادت رواية “الخضوع” للكاتب الفرنسي الشهير ميشال ويلبك، بقوة الى الأذهان، في الآونة الأخيرة، على خلفية ما تضمنته من “وقائع” عن وقوع هذه الحرب، وما احتوته من هجوم مركّز على “الإعتدال” الفرنسي الذي أوصل مسلماً الى رئاسة الجمهورية، على حساب مرشح حزب “الجبهة الوطنية” الذي أصبح اسمه حالياً” التجمّع الوطني”. الروائي ويلبك يعيش في ظل حماية أمنية لأنّه سبق وتلقى تهديدات “إسلامية” بالقتل.

إذن، الحرب بين “الجمهوريين” و”الإسلاميين” بدأت، فعلياً.

عدّة فرنسا للمواجهة معلنة: التدقيق بنشاطات التنظيمات الدينية، متابعة مصادر تمويلها الخارجية، تسليم المجلس العام للدين الإسلامي في فرنسا مهمّة تنشئة أئمة المساجد والخطباء، ملاحقة الحض على العنف أو تبريره، التعامل بجزم ضد كل من تثبت “راديكاليته”، منع المدارس الخاصة التي لا تخضع للقواعد المنهجية التي تعتمدها الدولة، واتخاذ السلطات كل ما يلزم من تدبير حتى تمنع أي شرخ بين المواطنين المنتمين الى الدين الإسلامي وبين الجمهورية.

وعدّة الإسلاميين للمواجهة معروفة: اعتبار كل تضييق عليهم هو تعرّض للإسلام، تصوير “حق التجديف” الذي مورس ويمارس على نطاق واسع ضد كل الديانات، كأنّه يستهدف المسلمين حصراً، الإستعانة بالدول الداعمة لهم، اعتبار “الإعتدال” لدى غالبية مسلمي فرنسا أنّه تواطؤ ضد الإسلام. وكان “معهد مونتاين” الفرنسي قد نشر، قبل سنوات، دراسة بيّنت أن خمسة وسبعين بالمائة من مسلمي فرنسا نجحوا في التوفيق بين دينهم من جهة وبين قواعد الجمهورية من جهة أخرى. خمسة وعشرون في المائة من مسلمي فرنسا يرفضون ذلك، وغالبيتهم تعيش في تجمّعات يسيطر عليها السلفيون وتنظيم الأخوان المسلمين.

وتدافع فرنسا عن حرية العبادة كما تمنع المس بأيّ مجموعة على أساس العرق واللون والدين، ولكنّها في المقابل تدافع عن “حق التجديف”. وللمؤسسات الفرنسية، ولا سيما الدستورية والقضائية منها، وجهة نظر مستقرة: التعرّض للجماعات يمكن أن يلحق ضرراً بالأفراد، بينما التعرض للرموز الدينية فلا يمكن أن يلحق ضرراً بالأفراد.

وللمفكرين طريقتهم في الدفاع عن “حق التجديف” في مواجهة المتديّنين، على اعتبار أنّ المتديّن إذا كان يؤمن فعلاً بـ”يوم القيامة” فعليه أن يكون واثقاً أنّ عقاب من يعتبرهم كفّاراً آت لا محالة، وتالياً فإن العقاب لا يمكن أن يكون، في هذه المواضيع، اختصاصاً إنسانيا، بل يجب تركه لصاحب الإختصاص الفعلي، أي الله، في يوم الحساب.

وفي موضوع “حق التجديف” فهو، بالنسبة للجمهورية الفرنسية، إختصاص وطني، فهي معنية به داخل حدود فرنسا، وليس مبدأ عالمياً تفرضه على أحد، في أي بقعة كونية.

وتعتبر غالبية الفرنسيين أنّ كل من يلجأ الى بلادها ويطلب الإقامة فيها ويسعى الى جنسيتها، يُدرك أنّ “حق التجديف” متأصّل في منهجها العلماني، وتالياً، فهو إمّا يقبل بذلك وإمّا لا يأتي أبداً وإمّا يرحل اعتراضاً.

من وجهة نظر السلطات الفرنسية، فإنّ من يُبرّر، اليوم القتل ضد “حق التجديف” قد يقتل غداً من أجل منع حقوق أخرى تتمسّك بها فرنسا.

وصباح أمس السبت، تمّ طرد خمسة من أفراد عائلة بوسنية لاجئة الى فرنسا، بسبب إقدامهم، في “بزنسون” في أغسطس الماضي، على ضرب وحلق رأس فتاة في السابعة عشرة من عمرها. جريمتها أنّها أحبّت، وهي المسلمة، شابا صربياً مسيحياً.

إنّ إقدام فرنسا، سلطة ومعارضة، على “رسم ” الأستاذ صموئيل باتي “بطلاً هادئاً”، بعدما قطع رأسه اللاجئ عبدالله أبو يزيدوفيتش، لا يعني سوى أنّ المواجهة ستكون قوية ولا هوادة فيها.

قد يعتبر مسلمون أنّ هذا السلوك الفرنسي إهانة للإسلام بعدما يزخّمونه بوضع كلام غير صحيح أو غير دقيق في فمّ الرئيس الفرنسي، ولكنّ الفرنسيين يعتبرون أنّ سلوك “الإسلامية” هو خطر عليهم وعلى جمهوريتهم.