الكولونيل شربل بركات: ابو انطوان قيصر صقر المناضل والمعلم ومربي الأجيال ووالد القائد أبو أرز

290

ابو انطوان قيصر صقر المناضل والمعلم ومربي الأجيال ووالد القائد أبو أرز
الكولونيل شربل بركات/13 حزيران/2020

ابو انطوان قيصر صقر المناضل والمعلم ومربي الأجيال
أبو انطوان قيصر صقر واحد من العينبليين الذين يفتخر بهم فهو ولو توفي في عز شبابه وعنفوانه فقد ترك إرثا كبيرا من العطاء والعمل الناجح وعائلة كبيرة يفتخر بها.

كان قيصر قد بلغ الثامنة عشرة من العمر في 1916 يوم كانت السلطنة العثمانية تشارك بالحرب العالمية الأولى وقد فرضت التجنيد الاجباري. وكغيره من العينبليين الذين رفضوا الامتثال لمشيئة التركي كان قيصر يعتبر من الفرار. وبينما كان راجعا من عين الحرية ومعلقا جفته بكتفه إذا بجندي تركي ينهره من الخلف وهو راكب على حصانه فلم يتوقف قيصر وبقي مكملا طريقه بالرغم من صراخ الجندي واسراعه ليوقفه. ولما اقترب منه ما كان من قيصر إلا أن استدار فجأة وأمسك الجندي وأوقعه عن حصانه واضعا الجفت في صدره. فخاف الجندي التركي وقد فقد سلاحه والمبادرة وقال له: دخلك ما تقتلني. فما كان من قيصر إلا أن رمى سلاح التركي في الوادي بجانب الطريق وغاب بين الأشجار فقام العسكري وأخذ يفتش على سلاحه قبل أن يولي بالفرار غير مبالي بقيصر ولا إلى إين ذهب. من هذه القصة الصغيرة نعرف مدى شجاعة قيصر وسرعة بديهته.

في الخامس من أيار 1920 كان قيصر من المدافعين عن البلدة وهو كما سبق ذكره بقي في الدوير مع مارون فاعور وفؤاد الخوري وبولس بركات وغيرهم من الشباب وقد صمدوا حتى المساء ثم عادوا وساهموا بتأمين طريق كفربرعم لخروج الأهالي. ولذا فهو لم يعرف إذا كانت والدته واخوته الصغار قد استطاعوا الخروج من البلدة أم لا.

تزوج قيصر من سعدى ابنة انطانس بركات دياب في بداية سنة 1922 ورزق أثنا عشر ولدا منهم تسعة صبيان وثلاث بنات وقد توفي ابنه الخامس اميل عن عمر أحد عشر شهرا ثم سمى ابنه السادس بنفس الأسم اميل. وقد كان قيصر تعلم عند الآباء اليسوعيين في تعنايل وبعد أن تزوج وهدأت الأحوال السياسية انتقل إلى الناصرة ثم حيفا حيث مارس مهنة التعليم وكان من المشهود لهم بسعة المعرفة وحسن التدبير والتربية الصالحة.

وقد كان قيصر من أبناء عين إبل المنظورين في مدينة حيفا لا بل في الجالية اللبنانية عامة وقد شارك في النشاطات الثقافية والاجتماعية. ولم تفته مناسبة إلا وكان من الخطباء فيها. وقد ورد في كتاب جمعه ابناؤه “محطات في حياة قيصر صقر” بعضا من هذه الكلمات المهمة والتي كانت القيت في حيفا خاصة وتعطي فكرة عن المناسبات وعن قلم وروحية قيصر صقر. ويدلنا بعض من كلماته التي القيت بمناسبة الاحتفال بعيد شهداء عين إبل في الخامس من أيار لعدة سنين بأن العينبليين احتفلوا بهذه المناسبة في كل سنة وأينما حلّوا.

وفي الكتاب نجد أيضا بعض خطاباته في أثناء افتتاح الاعمال المسرحية فقد قاد “فرقة مسرح الكرمل” والتي قدمت عدة تمثيليات. ومن خلال بعض كلماته نعرف مدى اهتمام الجالية بعين إبليين عملوا للصالح العام وقد جرى تكريمهم من قبل الجالية في حيفا. وهو حفظ أيضا نسخة عن رسالة من قائم مقام صور جان عزيز يومها للمختار بركات يوسف بركات حيث يرد اعطاء مختار عين إبل ومجلس اختياريتها صلاحيات المجلس البلدي وذلك سنة 1933.

وقد كان لتربية قيصر صقر المتشددة لأبنائه كما يصفها ولده مارون في مقدمة الكتاب تأثير كبير على ما يبدو في حياة واستمرار العائلة في النجاح خاصة بعد وفاة الوالد في سن مبكرة (كان عمره 47 سنة فقط عند وفاته) .

ونحن نعرف ما أعطت هذه العائلة لعين إبل ولبنان. فكل عطاءات الفرير نويل وتضحياته في مدارس الفرير المعروفة في لبنان والقدس وبيت لحم وعمان وغيرها من الأماكن تعود لتلك القيم التي زرعها قيصر صقر في أبنائه. ولن نذكر أكثر من إسمين آخرين من أبنائه هما فؤاد واتيان لنعرف الوفاء والاقدام والعطاء. فقد قام الأول برسالته التعليمية في العراق ولبنان ثم انشاء الجامعة التي لا تزال مستمرة مع زوجته وأولاده وساهم أيضا في اعادة الحياة والاستقرار والعمران والزراعة والارض في عين إبل خاصة بعد سنة 2000 والكل يشهد له بذلك.

أما أتيان “أبو أرز” فهو القائد الغني عن التعريف وقد تعمّق في محبة الوطن وغاص في تاريخه وتجذّر في أرضه وبذل في سبيله التضحيات والبطولات وتحمّل المآسي لكي يبقى رمز للنضال في القلب والعقل وعلى المنكبين منذ 1975 ولم يزل نظيف الكف ناصع الجبين.

ننقل هنا كلمة ألقاها المرحوم قيصر صقر في حيفا في ذكرى الخامس من ايار 1942 حيث جرى تكريم مختار عين إبل بركات يوسف بركات بعد الحادث الصحي الذي تعرض له. حيث نتعرف على فن الخطابة وشمولية النص وبنفس الوقت جزء مهم من تاريخنا.

أيها الآباء المحترمون، أيها السادة،
ليس من السهل اختصار 40 سنة عملا وتنظيما وتعبا في سطور قلائل، ودقائق معدودة، فأنتم وأنا نحب أن نتحدث طويلا عن أعمال وجهاد المحتفى به مختارنا السيد بركات، في خدمة عين إبل قرابة نصف قرن. لكننا لضيق الوقت نقرأ قراءة سريعة العناوين البارزة لهذه الحياة التي كرسها صاحبها لخدمة بلده ومواطنيه، وهي: بركات منظم الشباب، بركات المعلم، بركات المختار.

1 – بركات منظم الشباب
وهب الله بركات شخصية ومزايا ممتازة، كرم نفس، نخوة، كلمة مسموعة، ميلا للطرب والنكتة. فجمع حوله الشبان، يعلمهم ما أفاضه الله في نفسه فكّون منهم جيلا، يعشق النخوة والشرف، يحب الحرية والنظام، وتطرب نفسه للحن وخلق النكتة الظريفة. فأثمرت تعاليمه في شباب جيله، وانقادوا له، فتنظمت حياة الشباب في عين إبل، وصار إذا ظهر واياهم في الأعراس والأعياد، والمواسم، داخل عين إبل وخارجها استوقف نظامهم وحسن انقيادهم أنظار الناس. فرقت معاشرتهم لبعضهم، وراقت حياتهم. فكان تنظيم الشباب الحسنة الأولى لبركات على بلده.

2 – بركات المعلم
وكما أراد بركات أن يكون حوله شباب منظم للساعة الحاضرة. أراد أن يكون لعين إبل جيل متعلم مثقف للمستقبل، يعلو به شأن عين إبل حين يأتي دور العلم. فاشتغل بالتعليم، ووضع مع المرحومين انطانس الجشي وحنا صقر نواة التعليم في مدرسة عين إبل. وفي زمانهم ابتدأ تمثيل الروايات ووقوف التلاميذ على المسرح، وتنظيم الآعياد، وإنشاد الأناشيد وقراءة التقاريظ في مدح وشكر رؤساء المدارس. وكانت تلك الوثبة الأولى نحو حياة العلم والأدب والفن بما كان ممكنا. بينما كانت القرى وكثير من المدن، لا تعرف ولا تألف شيئا من هذا.

ومعه ومع زميليه المرحومين بدأ تشجيع إرسال التلاميذ إلى المدارس الداخلية بكثرة. وبدأ تلك الحركة المباركة بارسال أخيه المرحوم حنا إلى مدرسة الحكمة. ومنذ ذلك الوقت لم ينقطع العينبليون عن إرسال أولادهم إلى المدارس الداخلية. وبركات كان يكرس من وقت وجوده في أي مدينة فيها مدرسة وفيها تلميذ عينبلي فيذهب إليه يسأل عنه ويتفقده ويتعهده كأنه غرسة غرسها في بستانه ينتظر منها الثمر. وهذه حسنة عظمى من حسنات بركات على النهضة التعليمية لها قيمتها وأثرها في حياة عين إبل الحاضرة.

وهناك لبركات حسنة أخرى ذات أثر عظيم على الفكر العينبلي، وهي شعبة البريد التي أوجدها بمسعاه في زمن الأتراك، وكانت ترد بواسطتها على عين إبل الجرائد والمجلات والكتب فيطالعها الناس ويقفون على تطور الحالات العلمية والتهذيبية والسياسية. فاستفاد المجموع من ذلك فوائد لا يمكن حصرها، وعرف الناس عين إبل من رسائل بركات في جريدة البشير وغيرها.

3 – بركات المختار
ثم نضج بركات وسمي مختارا لعين إبل، فتحمل مسؤوليات وظيفته في ظروف دقيقة حرجة، كثرت فيها الاختلافات، والانقسامات العائلية في عين إبل. فوقعت اعتداءات وسفك دم، وأقيمت دعاوى. وظهرت شخصية بركات من وراء جميع هذه العواصف والزوابع، محبوبة، موثوقا بها من الجميع، ممدوحة المسلك والتصرف من جميع الأحزاب لأنها تعالت عن الحزبية، ولم تتأثر بالقرابة. بل كان بركات كلا لكل.

ثم كانت الحرب العظمى، وطلب الرجال للخدمة العسكرية، وأعفي هو منها، فقضى سنين الحرب الأربع يدافع بلسانه، وحيلته، وبرغيفه وكرامته، عن رجال بلده لينقذ من يمكن إنقاذه من ويلات تلك الخدمة القاتلة، وكثيرون مدينون بحياتهم لغيرته ومحبته.

ثم كانت سنة العشرين، التي احتفلنا اليوم بذكراها الثانية والعشرين. وحلت النكبة بالقرية والسكان أجمعين. لكن قلب بركات لم ينكب وعزمه لم يفل. فترك السلاح، وأخذ والخوري يوسف فرح القلم يطالبون به بدم الموتى وحقوق الأحياء. وطيرا برقيات بالحادثة المفجعة إلى جميع دول الدنيا، وهنا كوفئ نشاط بركات وإخلاصه، إذ حملت تلك البرقيات توقيع بركات بصفته مدعيا على الملك فيصل وعلى الشيعة وزعيمها الأكبر. فاهتزت الدنيا تحت المجرمين،

وزحف جيش الانتقام، وطارت الطائرات، وكان جيراننا في فزعهم منها يقولون ها هو بركات في الطيارة جاء يثأر وينتقم. وقد كان لي حظ مشاركة بركات في مرافقته حملة الكولونيل نيجر التأديبية، وحضرت معه المؤتمرات في صيدا وبيروت، التي حكم بها على زعماء الشيعة، وتقررت التعويضات. ولا أبوح بسر إذا قلت لكم: إنه لو كانت كل النوايا حينذاك صافية صفاء نية بركات لنالنا من التعويض الأدبي والمادي ما هون علينا الحادثة، وعمر بيوتنا بالقرميد.

وفي عهد الاحتلال تجلت عبقرية بركات في إداء رسالته كمختار، وكرجل اجتماعي كبير وكان بيته المفتوح قبلة الواردين على عين إبل، ينزل فيه رجال الحكومة والنفر والضباط والقائمقام، والمحافظ، والمستشار والجنرال. فتؤدى لكل منهم واجباته كاملة، وحين يسأل هؤلاء بركات عن حاجة يقضونها له، كان يقول: لست بمحتاج إلى شيء بل بلدي محتاج إلى كذا وكذا من الأمور. وما شق الطريق من بنت جبيل إلى عين إبل ومنها إلى رميش، وغرفة التلفون، وتأسيس البلدية، والسوق، إلا حسنات من سلسلة حسنات بركات المختار.

ومرت السنون، ومصالحنا الاجتماعية وتمثيلنا في المجتمعات الرسمية تقضى على أكمل وجه، ولا نفطن كثيرا للساهر على قضائها المتحمل الاسفار والنفقات في سبيلها، حتى فوجئنا يوما بالخبر: “حياة بركات في خطر”، فأفقنا على دوي الخبر، وفهمنا حالا على أي كارثة نحن قادمون إن نحن فقدنا “بركاتنا”، وأخرسنا الحزن، واعترتنا الحيرة، وخانتنا الحيلة، فلجأنا إلى الدعاء والصلاة نطلب من الله حفظ حياة رجلنا. والله في كرمه استجاب الدعاء وأبقاه لنا.

وهذه الحفلة الأخوية التي أقمناها اليوم على شرفك استبشارا بعودة صحتك أيها السيد بركات، ما هي إلا مظهر بسيط في قيمته، عظيم في غايته أردنا بها التعبير عن تقديرنا لخدماتك وشكرنا لمجهوداتك التي رفعت عين إبل إلى مستواها الحالي. وكلمتي هذه، كلمة نزاهة وصدق قلتها للحق وللتاريخ أمام هذا الحشد الحافل، ليعلم الجميع أننا نقدر الرجال العاملين فينا فنشكرهم، ونقتدي بهم ونخلد على الأجيال ذكرهم.

*الصورة المرفقة هي للمرحوم قيصر صقر وابنه أنطوان…وقيصر هو والد القائد اتيان صقر-أبو أرز