شارل الياس شرتوني/سياسات النفوذ الشيعية، الحكومة الصورية وأوهام الإصلاح المالي

85

سياسات النفوذ الشيعية، الحكومة الصورية وأوهام الإصلاح المالي
شارل الياس شرتوني/27 نيسان/2020

ان الأزمة السياسية المسدودة الأفق التي نعيشها اليوم هي التعبير الأكمل عما يعانيه لبنان من أزمات بنيوية متضافرة تنعقد على خطوط سياسية ومالية واقتصادية واجتماعية وبيئية وصحية، مدغمة بواقع تفكك مديد لأوصال الدولة اللبنانية وتحولها منذ بداية التسعينات الى تجمع مراكز قوى تعيش في حالة تبدل وانقلاب مستمر على بعضها البعض، بحكم ارتباطاتها مع محاور النفوذ الإقليمية، وطبيعة ولاءاتها الأولية النزاعية والنافية لأية ولاءات مدنية ووطنية فاعلة. ان حدة الأزمة المالية غير قابلة للمعالجة في ظل الواقع الدولاتي الحاضر، وما تحيلنا اليه من انقسامات سياسية بنيوية تعطل قدرة الدولة على التحرك ككل متماسك ومبني على قاعدة تفاهمات مبدئية جامعة. لا إمكانية للخوض في أي سياق اصلاحي على الأصعدة المالية والاقتصادية بغياب التوافق والقدرة على الحسم في مجالات الخيارات السياسية العامة، وهذا ما لا نشهده في ظل مجابهات مفتوحة بين سياسات نفوذ تنحو باتجاه تغيير هوية البلاد الوطنية، وتموضعاتها الإقليمية والدولية، وطبيعة النظام الديموقراطي الذي اعتمدته منذ نشأتها حتى اليوم:

أ- لقد انجلت طبيعة التركيبة الحكومية الحاضرة التي لا تعدو كونها غطاءًا مرحليًا لسياسة وضع اليد التي يسعى حزب الله الى تثبيتها على نحو تدرجي ينحو باتجاه إلغاء الطبيعة التعددية والديموقراطية والتوافقية للثقافة السياسية في لبنان.ان فجومية المواقف التي عبر عنها رئيس الحكومة، حسان دياب في خطابه الأخير ،لا تعكس قدره السياسي الفعلي، ولا جسارة شخصيته، ولا تماسك الفريق الحكومي الذي يرأسه. الرجل ينطق باسم الاولياء السياسيين الذي أتوا به، وكلامه ليس الا تعبيرًا عن سياسة الإطباق التي أعدها حزب الله، والتي في حال تبلور خواتيمها سوف تصيب إمكانية اعادة الترميم والبناء المالي والاقتصادي التي لا مفر منها، و قدرة البلاد على تحييد ذاتها عن النزاعات الإقليمية المفتوحة وتردداتها المميتة على الواقع الداخلي، سواء لجهة السلم الأهلي، أم لجهة الإصلاحات المالية والاقتصادية البنيوية وارتباطها بالاستقرار السياسي، والتواصل العضوي مع المؤسسات الدولية والدول المانحة من اجل الدفع بآليات الإصلاح قدما. ان سياسة اختطاف الدولة اللبنانية وتحويلها الى دولة رهينة وتابعة لتموجات سياسات النفوذ الشيعية التي تقودها ايران على صعيد المنطقة، سوف يحيل البلاد الى دوامات النزاعات الإقليمية المفتوحة، والى ترسخ مناخات الحروب الأهلية المزمعة، وربط الاقتصاد اللبناني باقتصاديات الجريمة المنظمة وتبييض الاموال، كما ظهرتها سياسة تشريع الحشيشة لأغراض طبية ودون أي إفصاح عن وجود اتفاقات بحثية وصناعية مع مراكز دولية تعنى بهذا الشأن، وسيطرة قطاع الصيرفة على التحويلات المالية في البلاد التي تديرها سياسات النفوذ الشيعية ومحمياتها واصناءها العابرة للطوائف…،.

ب- على سياسة الإصلاح المالي ان تنطلق من تشخيص واقعي لواقع الحال المالي الذي يعبر عنه واقع الإفلاس المالي العميم على مستويات القطاع المصرفي، والمصرف المركزي والدولة. ان بلبلة الأرقام وتوزع نسبها بين القطاعات الثلاث ( ٨٣ مليار دا )، ما هي الا التعبير الصريح عن واقع الفساد المعمم والاغماطات الإحصائية الإرادية، والمسؤوليات المشتركة التي تقع على عاتق كل أطراف الاوليغارشيات السياسية-المالية التي حكمت البلاد منذ بدايات جمهورية الطائف، والتي تسعى الى تقاذف المسؤوليات انقاذا لمسالبها، ومتابعة لسياسات السيطرة والسيطرة المضادة التي تحكم اداءاتها. ان انقساماتها الظاهرة تخفي حقيقة مشتركة فيما بينها، هي حماية مكتسباتها، وإزاحة الشبهات والمترتبات عن نتائج سياسات المحاصصة التي حكمت علاقاتها. تبدأ سياسة حل العقد المالية المستعصية ضمن دائرة المعالجة الحاضرة، بتكليف لجنة دولية للتقصي والتحقيق المالي ( Forensic Auditing ) من اجل تشريح المديونية العامة، وتخمين كمي لأعمال النهب والهدر على مدى الثلاثين سنة الماضية، حسب القطاعات، والإدارات والوزارات، وعلى مستوى السياسات الزبائنية والريعية والحيازية التي صاغتها مراكز القوى الحاكمة، ورصد آليات تهريب وتبييض الاموال، والاستثمارات المقنعة، والتوظيفات المصرفية المستترة، وتنسيب وتعيين المسؤوليات الجزائية، والمبادرة الى إقامة دعاوى محلية ودولية من اجل مصادرة واسترداد الاموال العامة.ان التشخيص المالي الدقيق الذي أفضى اليه تقرير ” لازار ” يبقى دون المطلوب لجهة المطالبة بتوزيع الخسائر بين المصارف والدولة، والاقتطاع المئوي لفوائد المودعين على أساس مقدار التوظيفات ودون التمييز في مصادرها، والمباشرة في اعادة رسملة المصارف على قاعدة اكتتاباتهم، وغياب إصلاح مؤسسي، وتشريعي، واقتصادي، واجتماعي واتيكي يعيد صياغة آليات الحوكمة ( وهذا شأن يعود الى ضرورة تخريج وفاق داخلي يخرج عن صلاحيات الخبرة المالية المقدمة )، كسبيل لا بديل عنه من اجل اعادة الثقة وترميم جسور التواصل مع المؤسسات الدولية والدول المانحة، خاصة في ظل الأزمات المالية الخطيرة التي اودت اليها جائحة الكورونا.

لن يكون دعم من قبل المؤسسات الدولية والدول المانحة في ظل التموضع على خط تقاطع النزاعات الداخلية والإقليمية، وإبقاء الإقفالات على الحياة والمؤسسات الديموقراطية، وابقاء حيثيات اقتصاد الجريمة المنظمة اطارا ناظما للمداولات. ان الإصلاح المالي مشروط بإجراء إصلاحات سياسية بنيوية تحمي السلم الأهلي والتماسك الوطني، وتعيد النظر بمفهوم وآلية الحوكمة على اساس دولة القانون، وبطبيعة النظام السياسي على أسس الكونفدرالية والحياد الإقليمي. المشكلة المالية على حدة مضاعفاتها واشتراكاتها المديدة، والنتائج المدمرة للممارسات الفاسدة التي اودت اليها، لن تلق حلًا ناجزًا خارجا عن إصلاحات سياسية بنيوية تخرجنا من دائرة اشتباكات سياسات النفوذ، الى حيز العمل المهني المنزه، ومن دائرة الحكم الاوليغارشي الى فسحة العمل الديموقراطي المبني على التواصل والتداول الحر بين متساوين، واحترام الحقوق المواطنية وإنفاذها الفعلي، والتسويات العقلانية، والالتزام بموجبات حقوق الإنسان والطبيعة ( النباتية والحيوانية )، والخروج من الارتهانات السيادية وإملاءات سياسات السيطرة الإقليمية ومحدداتها.