الأب جوزف دكاش/انطوان نجم/نحن في وطن الشهادة، لا في وطن الجغرافيا

108

نحن في وطن الشهادة، لا في وطن الجغرافيا
الأب جوزف دكاش ر.ل./نقلاً عن موقع المقاومة اللبنانية/30 كانون الثاني/2020

انطوان نجم: لبنان مساحة روحيّة
من عظته في قدّاس الشهداء في إيليج في 19 أيلول 2004

لا أحد يعرف لبنان بمقدار مَن يعرفه بقلبه ووجدانه.
المعرفة من الخارج قِشْرِيَّةٌ لا تطال الجوهر. تبقى على السطح وفي الإطار. أمّا المعرفة من الداخل، من صميم الذات، فتخرق العوائق والحجب لتصل إلى الجوهر. فإذا المعرفة اختبار. والاختبار طريق للالتزام الكيانيّ بامتياز. هذا ما أكّده لي مرّةً جديدة قولُ الأب دكاش الرائع. فأعادني إلى ربع قرن مضى عندما عرّفتُ لبنان بأنّه “مساحة روحيّة”.

كان ذلك في خضمّ القصف المدمّر على شرق العاصمة اللبنانيّة في تمّوز من العام 1978. كنّا قبضة من المقاومين نؤسّس “إذاعة لبنان الحرّ” في قرية العذرا في فتوح كسروان.

كانت ظروف الإقامة زريّة وصعبة جدًّا. ولكنّ ذكراها طيّبة وجميلة. ومن هناك كان البثّ والإرسال. وكان عليّ أن أساهم في أنشطة الإذاعة. فأَلقيتُ أحاديث وتعليقات سياسيّة. أحد هذه الأحاديث تناول موضوع لبنان في حقيقته. فكان عنوانه: “لبنان مساحة روحيّة”.

وإلى القارئ نصّه:
“حول لبنان، مساحةً وحدودًا، قام جدال عنيف بين القوميّين اللبنانيّين والرافضين للكيان اللبنانيّ في حدوده القائمة. فبينما غاص أولئك في استقراء التاريخ للبرهنة على أنّ للبنان وجودًا قديمًا جدًّا ومستمرًّا، وقف هؤلاء الموقف المناقض تمامًا، وزادوا عليه أن الدولة اللبنانيّة مصطنعة أوجدتها الإرادة الأجنبيّة.

في الحقيقة، إن منطلقات المؤيّدين والرافضين خاطئة تمامًا. كما أنّ الادّعاء بأنّ الدولة اللبنانيّة الحاضرة خٓلْقٌ أجنبيّ هو غير صحيح ألبتّة.

إنّ الجدال حول لبنان إنّما هو حول لبنان-الدولة. ولبنان-الدولة لا يفهم إلّا في إطار النظرة الحديثة للدولة، وفي إطار البلورة التاريخيّة التدريجيّة لإرادة المسيحيّين في أن يكونوا أحرارًا في هذه المنطقة من العالم.

منذ ذلك الزمان حبل التاريخ بلبنان السياسيّ، وبدأت تظهر ملامحه الأولى غير الواضحة منذ عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثانيّ.

والخطّ البيانيّ الذي يمكن للمؤرّخ أن يرسمه منذ عهد الفتح الإسلاميّ للمشرق وحتى تحقيق لبنان الكبير، يظهر بوضوح سعي المسيحيّين عمومًا، والموارنة خصوصًا، في أن يكون لهم وطن يشكّل كيانًا مستقلّاً لا يعيشون فيه أهل ذمّة.

أمّا الكلام على لبنان ما قبل تلك “البلورة التاريخيّة” فخلط بين الاسم الجغرافيّ لجبل أو لمنطقة والوجود السياسيّ للمجتمع وللدولة التي تجسّده. كذلك هو خلط بين النظرة الحديثة للدولة وحدودها والنظرات القديمة للمجتمعات السياسيّة.

وقد نتج من هذا الخلط خطأ كبير متمثّل بنظرة جامدة لوجودٍ”ما” عبْر آلاف السنين، مع كلّ ما اعترى العالم من تغييرات جذريّة على الأصعدة كافّة.

إنّ الذين يعيدون الوجود اللبنانيّ اليوم إلى ستة آلاف سنة، ويعيدون الشعب اللبنانيّ اليوم إلى الوجود الفينيقيّ، إنّما ينسون أنّهم يوقفون التاريخ عند لحظة من لحظاته، ويهملون الأحداث الضخمة المختلفة التي غيّرت في مجاري الوجود الإنسانيّ، لا سيّما الهجرات المتلاحقة ونشوء المسيحيّة والإسلام وانتشارهما.

ومعارضو الكيان اللبنانيّ وقعوا في أخطاء مقابلة. فاتّخذوا “التاريخ” المناقض دعمًا لمواقفهم. فالكلام على وجود سياسيّ في الأزمنة السابقة على شاكلة الوجود السياسيّ الحاليّ خطأ وقع فيه أيضًا القوميّون السوريّون والقوميّون العرب.

إنّ النظرة القوميّة، بحدّ ذاتها، كنظرة تحليليّة للماضي هى خطأ في حقّ التاريخ والحقيقة والعلوم الإنسانيّة.

أمّا الادّعاء بأنّ الكيان اللبنانيّ هو خلق أجنبيّ فمردود بموجب الإثباتات التاريخيّة المفحمة.

إنّ لبنان الكبير لم يكن مطلبًا شعبيًّا عامًا، مسيحيًّا وإسلاميًّا. هذا صحيح. ولكنّه كان مطلبًا شعبيًّا مسيحيًّا ملحًّا عملت له أكثريّة مسيحيّة ساحقة، كما عارضته، في حينه، أكثريّة إسلاميّة ساحقة.

والمسيحيّون عملوا له عبْر جمعيّاتهم وأحزابهم. وأهمّها، في الوطن، الجامعة اللبنانيّة وجمعيّة الأرزة وجمعيّة الدفاع عن حقوق لبنان الكبير وجمعيّة الترقّيّ اللبنانيّة في بيروت. وفي ديار الاغتراب، النهضة اللبنانيّة في نيويورك والبرازيل، والحزب الوطنيّ اللبنانيّ والاتّحاد اللبنانيّ في مصر وكندا والأرجنتين والجمعيّة اللبنانيّة في باريس.

وحدود لبنان الحاليّة حدّدها، تقريبًا، حزب الاتّحاد اللبنانيّ، وطالبت بها قرارات مجلس الإدارة اللبنانيّ بتاريخ 9 تشرين الأوّل 1918 و20 أيّار 1919 و10 تمّوز 1920. وعملت لها الوفود الرسميّة إلى مؤتمر الصلح بتاريخ 13 شباط 1919 و25 تشرين الأوّل 1919 و28شباط 1920، وسواها من المساعي الفرديّة والجماعيّة في لبنان وفي خارجه.

وكان الدور الفرنسيّ مقتصرًا على “إعلان الدولة” بموجب انتدابها على قسم من المشرق. علمًا بأنّ الفرنسيّين جهدوا كثيرًا في صرف المسيحيّين عن سعيهم وشجّعوهم على الدخول في “وحدة سوريّة”. إنّما إصرار المسيحيّين على هدفهم ونجاحهم في عرض قضيّتهم في المحافل الدوَليّة جعلا فرنسة تنصاع إلى مطلبهم، خصوصًا بعدما تأمّن لها الانتداب على لبنان وسورية معًا.

أمّا المسلمون، عمومًا، فقد “أُرغِموا” على الانتساب إلى “لبنان الكبير”. وقد عارضوا هذا الانضمام بوسائل عديدة. واحتجّوا عليه في غير مناسبة. لكنّهم عادوا وقبلوا به في العام 1943. وعلى الرغم من هذا القبول فقد بقيت نظرتهم تختلف جذريًّا عن نظرة المسيحيّين. وهذا أمر طبيعيّ. ذلك أنّ النظرتَيْن متعارضتان أساسًا بالنسبة إلى مفهوم المجتمع، ولأن المسلمين مرتبطون بالمفهوم التيوقراطيّ للدولة.

لبنان ليس مساحة جغرافيّة معيّنة. والتقلّص والامتداد اللذان ينسبهما إليه بعضهم في خلال أحقاب التاريخ إنّما يتعلّقان، كما هو معروف في التاريخ، بتقلّص أو امتداد نفوذ سياسيّ في زمن ما. مساحة النفوذ الجغرافيّة تخضع للظروف المختلفة. ففيها من الصراعات المحليّة والإقليميّة والدوَليّة والسعي للمجد الشخصيّ أكثر بكثير ممّا فيها من الأهداف السامية المجرّدة.

فعندما نتكلّم على لبنان، فإنّ كلامنا لا يعني مساحة جغرافيّة معيّنة، مساحة تقلّ عن المساحة الحاليّة أو تتخطّاها.

لبنان مساحة روحيّة، تتجسّد فيها إرادة في الحياة الحرّة. هذا هو لبنان بصرف النظر عن كبر صحنه الجغرافيّ أو صغره.

وحدود الدول كلّها ترسمها الحروب والاتّفاقات الدوَليّة. وكلّ حدود خاضعة، من حيث المبدأ والسوابق التاريخيّة، إلى التعديل والتغيير. وحدود لبنان الحاليّة لا تبقى إلّا إذا أجمع اللبنانيّون على بقائها، وإذا سمحت الظروف الدوَليّة بذلك.

ولأنّ الدولة اللبنانيّة العضو في “جامعة الدول العربيّة”والقائمة على ما هي عليه من حدود، هي ذاتُ جغرافيّة بشريّة معيّنة، تشكّل ثنائيّة دينيّة -سوسيولوجيًّا- وتعطي لبنان طابعًا خاصًّا. وأيّ تبديل في الحدود يستتبع، مبدئيًّا، تغييرًا في الجغرافيّة البشريّة، فتغييرًا في شكل الدولة وفي تطلّعاتها الدوَليّة.

إنّ لبنان الغد، الذي نتوق إليه، والجديد في نظامه، إنّما هو لبنان 1920، نفسه، في حدوده المعترف بها دوَليًّا. إنّ مصلحة أبنائه، في الظروف التي يحييون محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، تقضي بذلك. وإلى أن تتغيّر المعطيات، محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، فإن أبناء لبنان، في المستقبل، يُقرّرون ما يرونه مناسبًا لهم.

المهمّ بالنسبة إلى المسيحيّين هو أن يتمتّعوا بحرّايتهم كاملة غير منقوصة. وهم في هذه الأرض باقون. ولبنانهم، أيًّا كانت حدوده، هو مساحة روحيّة قبل كلّ شيء.