فارس خشّان/جبران باسيل “ولي عهد” لبنان: الحفر في الهاوية

215

جبران باسيل “ولي عهد” لبنان: الحفر في الهاوية
فارس خشّان/الحرة/22 تشرين الثاني/2019

كان لبنان حتى ثلاث سنوات خلت من الجمهوريات الديمقراطية التي لا تشبه على الرغم من الخلل الذي أصيبت به لا مصر حسني مبارك ولا سوريا حافظ الأسد. لكن الفوارق انعدمت، أو بالأصح أصبحت الحال أسوأ، فجأة.
مع وصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، انضمّ لبنان، وبفظاظة، إلى الجمهوريات التي ابتدعت، بعيدا من الدستور، منصب “ولي عهد الرئيس”.
حسني مبارك وحافظ الأسد كان لهما أبناء ذكور، ففكر الأول بالتوريث ولكن الثورة أطاحت به، فيما قرر الثاني ذلك فكان له ما أراد، وهكذا جاء بشار الأسد بعد موت البكر باسل في حادث سيارة.
ميشال عون لديه ثلاث بنات. وزّع المغانم على أصهرته، وكان نصيب جبران باسيل “ولاية العهد”.
توجه عون هذا كان معروفا حتى قبل انتخابه رئيسا للجمهورية. نسب كلام كثير بهذا المعنى إلى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، كما إلى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. ومن هندسوا الصفقة الرئاسية بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، كانوا يرددون، بشكل مستمر، إن تطلعهم الواقعي هو أن يحكموا مع جبران باسيل، فهو الحاضر الفعّال والمستقبل الثابت، بينما عون هو الحاضر “الساكن” والمستقبل المعدوم.
قبل الثورة، كان باسيل يخطو خطوات مؤكدة نحو تولي رئاسة الجمهورية خلفا لعمه
وعاد عون نفسه ورسّخ وجوب التعاطي مع جبران باسيل على أنه “ولي العهد”، حين تحدث، قبل حلول الذكرى السنوية الثانية لوصوله إلى قصر بعبدا، بأنه يطمح في إيصال شخصية يراها هو مناسبة إلى رئاسة الجمهورية.
وبناء عليه، قدّم جبران باسيل نفسه إلى اللبنانيين على أساس أنه هو الرجل الأقوى في هذا العهد، وبنى سياسته اللبنانية على قاعدة أنه “الرئيس المقبل”.
المشكلة بدأت حين راح ينظر إلى نفسه وفق هذا المعيار، فرفض أي مشروع من مشاريعه يعني انتقاصا من العهد، والتصدّي لأي من طروحاته يعني تطاولا على العهد، وعقد تفاهمات بين أطراف سياسية لا تواليه تعني تآمرا على العهد، وخروج أصوات مناوئة له ضمن تياره يعني تمردا على العهد.
والأدهى من ذلك أنه اقتنع فعلا بأن طبيعة النظام اللبناني تغيّرت، بمجرد أن تمّ تكريسه في القصر الجمهوري وليّا للعهد، فراح يتعاطى مع اللبنانيين بفوقية مقززة للنفوس.
انطلاقا من هذه النظرة “الوارمة” لنفسه، هاجم، من موقعه كمسيحي، سائر المكوّنات الطائفية في لبنان؛ فأخذ على الشيعة، عندما وقف منهم من اعترض على تجميد امتحان مجلس الخدمة المدنية بسبب عدم “التوازن الطائفي”، أنهم لا يردون له الجميل في الداخل مقابل الكلفة الباهظة التي يتكبّدها في المجتمع الدولي بسبب دفاعه عن “حزب الله”، ونبش الحرب الأهلية للطائفة الدرزية، وانقض على “الحريرية السياسية” بصفتها قد سرقت ما كان للمارونية السياسية من صلاحيات وامتيازات.
بنى “ولي العهد” نهجه السياسي على “المقايضة”. يريد من “حزب الله” نفوذا داخليا مقابل الدفاع عنه. يريد من “المستقبل” الموافقة على كل ما يقترحه مقابل أن يمرر له ما يعنيه من مشاريع، ولو لم يكن حولها أي خلاف. يريد من “القوات اللبنانية” أن تبصم على ما يتطلع إليه في مقابل ألا يتذكر” تاريخها” في الحرب الأهلية. ويريد من وليد جنبلاط أن يصمت في مقابل أن يمرر له ما يمكن أن يعنيه.
اعتمد التحدي نهجا، فكان، حتى لو أراد أن ينقل كوبا من مكان إلى آخر، يتحدّى
حوّل دارته في البترون، يوم السبت، إلى “بيت الطاعة”، فوقف السياسيون والطامحون والقضاة والضباط والإداريون بالصف. والويل والثبور وعظائم الأمور لكل من يرفض أن يمثل في حضرته، ولو انتظر دوره لساعات.
حوّل وزارة الخارجية إلى ماكينة انتخابية ضخمة، فسخّر توليه لحقيبتها من أجل إعادة تنظيم الانتشار اللبناني لمصلحته، فيما سمّى سفراء، أحيانا بالتلاعب على القانون، من تلك الطينة التي تفاخر بأنها من “زلمه”، وأنشأ حركة اغترابية جديدة سمّاها “الطاقة الاغترابية”، فاستفاد من قدرته السلطوية على جمع التبرعات، فوزّع بطاقات السفر والليالي الفندقية والدروع التعظيمية ودعوات الغداء والعشاء على من مدح أو طاع أو خضع.
اعتمد التحدي نهجا، فكان، حتى لو أراد أن ينقل كوبا من مكان إلى آخر، يتحدّى. التحدّي، عند رجل السلطة “المعقّد”، مثل المسدس عند الرجل “الجبان”، يهب شعورا بالقوة.
لم يترك موضوعا إلا وتحدّى به، حتى أنه عندما اكتشف اللبنانيون “عورات” مرسوم التجنيس وفساده، أطل مؤكدا أنه في كل سنة سيكون هناك مرسوم مماثل لهذا المرسوم.
نصّب نفسه رئيسا على وزرائه في الحكومة، فكان هو من يفتتح مشاريع وزاراتهم وكان هو من يرعى نشاطاتهم وكان هو من يوزّع عليهم النقاط. فعل ذلك، بعدما اشترط على كل شخص شاء توزيره أن يوقع، قبل صدور مرسوم الحكومة، كتاب استقالته ويسلّمه له.
حوّل دارته في البترون، يوم السبت، إلى “بيت الطاعة”، فوقف السياسيون والطامحون والقضاة والضباط والإداريون بالصف
ومن موقعه “وليا للعهد” ورئيسا لوزرائه فيها، تعاطى مع رئيس الحكومة فأضعفه في بيئتيه السياسية والطائفية، وسبب له مشاكل مصداقية في عدد غير قليل من الدول تتقدمها المملكة العربية السعودية التي كانت، حتى سنوات خلت، من الرعاة الإقليميين للبنان، ومن أكبر المساهمين في ماليته وفي اقتصاده.
وفي عزّ الثورة التي أسقطت نجمه أرضا، أراد أن يثبت أنه هو الأقوى، فجمع أنصار حميه وأنصاره، على أعتاب القصر الجمهوري، فأثار امتعاض سائر اللبنانيين الذين ردوا بأن ملؤوا ساحات لبنان وشوارعه بمئات الآلاف، ليبلغوا من يعنيهم الأمر أن الشعبية التي يتوسلها باسيل لا تساوي شارعا واحدا من شوارع الثورة الخفاقة.
واستعمل “ولي العهد” رئيس الجمهورية في تحقيق أهدافه، فبالإضافة إلى أنه أخرجه ليخطب في مؤيديه، نظّم له مقابلة تلفزيونية هدفها الدفاع عن موقع جبران باسيل في الحكومة المقبلة التي يريدها اللبنانيون خالية منه ومن أمثاله من السياسيين. المقابلة، كما الخطاب، أشعلت الشارع الثوروي ورفعت حماوته ضد القصر وشاغليه والمحتمين به والطامحين بوراثته.
وانسحب سلوك جبران باسيل على العائلة الصغرى، فانقسم بيت الرئيس ميشال عون، بحيث بدا واضحا أن “ولي العهد” في مكان والعائلة في مكان آخر. أكثر من عبّر عن هذا الانقسام كان “العديل” شامل روكز و”ابنة العم” كلودين عون.
ولكن جبران باسيل ثابت لا يتزعزع. في هذا الأيام التي لا صوت يعلو فوق صوت الثورة في لبنان، يريد لصوته أن يبقى مسموعا، فأخذ ملف تشكيل الحكومة الجديدة على عاتقه، حتى أنه، حين بدأت تلوح أوهام المخارج، بالاتفاق على الوزير السابق محمد الصفدي رئيسا مكلّفا لتشكيل الحكومة، قفز إلى الإعلام وحدد اسمه وتاريخ الاستشارات النيابية الملزمة، وشكل الحكومة العتيدة.
ولكن الشارع يقف بالمرصاد لأحلام باسيل، فأسقط الصفدي الذي تربطه بـ”ولي العهد” علاقات مميّزة، سقوطا مدويا، ومنعه من تسجيل اسمه في نادي رؤساء الحكومة.
قبل الثورة، كان باسيل يخطو خطوات مؤكدة نحو تولي رئاسة الجمهورية خلفا لعمه، حتى إن هناك من هو مقتنع بأنه اتفق مع “حزب الله” على تقصير ولاية عمّه الذي يصيبه العمر بوهن بدأ يظهر بوضوح عليه، من أجل أن يحل هو مكانه.
بمجرد أن تمّ تكريسه في القصر الجمهوري وليّا للعهد، راح يتعاطى مع اللبنانيين بفوقية مقززة للنفوس
ولكن الثورة، في أولى نتائجها، لم تسقط الحكومة التي تجاوز فيها باسيل الحدود المنطقية والمسموح بها، فحسب بل أسقطت باسيل أيضا.
الثورة رسمت على الشفاه قولا موحّدا لدى جميع المراقبين: جبران باسيل الشخصية الأكثر كرها لدى اللبنانيين في الداخل وفي دول الانتشار.
جبران لن يقتنع بذلك. سيبقى يحفر في الهاوية التي سقط فيها. مثله مثل الـ7 بالمئة من الناس في العالم الذين يعتقدون بأن الأرض مسطحة، وفق معطيات المؤتمر الذي عقده “مسطحو الأرض” في مدينة “ريو دي جنيرو” البرازيلية، يوم الأحد الماضي. ومثله ومثل طوني بلير الذي بقي يفاخر بأن 15 بالمئة من البريطانيين يؤيدونه على الرغم من النقمة الوطنية العارمة عليه بسبب مشاركته في الهجوم على العراق، حتى اكتشف أن هذه النسبة من مواطنيه تعتقد أيضا بأن الفيس برسلي لا يزال على قيد الحياة.
الفارق بين باسيل وبين هؤلاء أنهم إمّا منظرون يريدون إثبات رؤية سابقة لزمن كوبرنيك وغاليله، وإمّا من “رجال الماضي” الذين يحاولون التعايش مع مجتمعهم، وتاليا فهم لا يشكلون أي خطر على بلدانهم، في حين أن باسيل مستفيدا من رضى “حزب الله” وسلاحه، لا يزال يسعى إلى جرّ ما تبقى صامدا من لبنان إلى الهاوية التي هو فيها.