سامي خليفة:غضب شيعة لبنان، فشل دولة حزب الله/بلال خبيز: ثورة ضد الفصاحة في السلاح والعبارة

225

ثورة ضد الفصاحة في السلاح والعبارة
بلال خبيز/المدن/الخميس 23 تشرين الأول/2019

غضب شيعة لبنان.. فشل “دولة” حزب الله
سامي خليفة/المدن/الخميس 23 تشرين الأول/2019
تظهر انتفاضة اللبنانيين العارمة أن المواطن العادي لم يعد يؤمن بالطقم السياسي الذي يحكم البلاد. ويعني تواصل كرة النار المتدحرجة سيرها منذ اشتعال الاحتجاجات من دون توقف، أن هناك حاجة إلى تغيير في العمق في لبنان، يعيد البلد إلى وضعه الطبيعي، ويؤمن كرامة الشعب الذي يرفض الظلم.
فشل إيراني
لكن التحليلات لا تحصر ما يجري في لبنان بالفساد والمحاصصة، بل يعود جزء منها إلى بناء إيران نماذج في لبنان والعراق، لا تعير أذاناً صاغية لوجع الناس، ولا مكان فيها لخطاب يوفر القوت اليومي. وفي هذا الإطار، ترى مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، أن الشيعة في لبنان والعراق اكتشفا أن النظام الذي بنته إيران والجماعات الوكيلة عنها في البلدين فشل في ترجمة الانتصارات السياسية والعسكرية إلى انتصارات اجتماعية واقتصادية. وبعد أن فاز الحزب في لبنان بكتلة برلمانية كبيرة، تزامناً مع تحقيق حلفاء إيران بعض التقدم في خط المواجهة، تجاهلت طهران الرؤية الاجتماعية والاقتصادية للحفاظ على قاعدة دعمها.
التحول ضد حزب الله
وصف المراقبون، حسب المجلة، الاحتجاجات الحالية في لبنان بأنها غير مسبوقة، حيث أدرك اللبنانيون أن عدوهم في الداخل، وليس محتلاً خارجياً أو مؤثراً إقليمياً. ولم يتمكن الزعماء السياسيون من السيطرة على مسار الاحتجاجات، التي تعم جميع المناطق، من طرابلس في الشمال إلى صور والنبطية في الجنوب وعبر بيروت وصيدا.
اللافت في الاحتجاجات، ولأول مرة منذ تشكيله في ثمانينات القرن الماضي، انقلاب الشيعة ضد الحزب بعد اتخاذه موقفاً غريباً، عندما قرر أمينه العام أن يقف إلى جانب السلطات ضد الناس في الشوارع. وهو الذي لطالما قدم نفسه على أنه حامي الفقراء والمحرومين. لم يكن قرار الحزب بدعم حكومة سعد الحريري، حسب المجلة، من دون تخطيط، لكن صور المتظاهرين الشيعة وهم يشاركون البقية في مدن لبنان أخافت قيادة الحزب. فهؤلاء هم عصب الدعم له وقاعدته الشعبية، ويصوتون له ولحركة أمل في الانتخابات، ويقاتلون في حروبه في لبنان وسوريا واليمن، ويحصلون في المقابل على الرواتب والخدمات التي يقدمها وراعيته إيران.
نقمة الشيعة
ينبع غضب شيعة لبنان، كما تحلل المجلة، من تورط الحزب المكلف في الحرب السورية وضغط العقوبات الأميركية الذي أجبره على خفض الرواتب والخدمات، ما أدى إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل مجتمعه. أُجبرت قاعدة حزب الله الجماهيرية على قبول نبيه بري كرئيس للبرلمان، باعتباره ضرورة للحفاظ على الائتلاف ووحدة الصف الشيعي. لكن فساد حركته “أمل” المعروف كان يتعارض مع رواية الحزب عن الشفافية والنزاهة. وعندما بدأ الاقتصاد اللبناني في التدهور، وتقلص الدعم المالي للحزب، لم يعد بإمكان الكثير من الشيعة دفع فواتيرهم، وبالتالي أصبحوا أقل تسامحاً مع فساد “أمل” وثرواتها الفاحشة. ركز حزب الله على مدى السنوات الماضية على مدى أهمية قوته العسكرية. التي جعلته يرغم إسرائيل على الانسحاب من لبنان في عام 2000، ثم مرة أخرى بعد حرب تموز عام 2006. ليدخل بعدها إلى الميدان السوري ويعلن انتصاره على المتطرفين. إلا أن هذه الانتصارات لم تنعكس بشكل إيجابي على حياة الناس العاديين، ربما استفادت إيران من انتصارات الحزب، لكن شيعة لبنان أصبحوا أكثر عزلة من الماضي. ولهذا السبب، فانضمامهم للتظاهر هو محاولة لتأكيد هويتهم اللبنانية بدلاً من الدينية التي خيبت أملهم. وتلفت المجلة الأميركية، إلى أن الحزب لن يرتكب خطأ الحشد الشعبي في العراق. ولذا، يقوم بتدريب عناصر في سرايا المقاومة اللبنانية لمواجهة التحديات المحلية، وهو ما سيعطيه فرصة لنفي مشاركته في قمع التظاهرات.
هدف موحد
من جهتها، تطرقت مجلة “التايم” الأميركية، لاحتجاجات لبنان، معتبرةً أن الانتفاضة من دون قيادة، لديها هدف مشترك واحد وهو إسقاط الحكومة، شارحةً كيف فجر المتظاهرون جل غضبهم على وزير الخارجية جبران باسيل الذي تعرض لكمٍ هائل من الشتائم. قبل تعيينه وزيراً للخارجية، شغل باسيل منصب وزير الطاقة والمياه في البلاد. وفي عام 2012، تصدر هاشتاغ #BlameBassil موقع تويتر في لبنان، عبّر اللبنانيون من خلاله عن شكاويهم من نقص المياه في البلاد وانقطاع التيار الكهربائي اليومي.
انعدام الثقة
كانت آخر مرة نزل فيها اللبنانيون إلى الشارع بأعداد كبيرة عقب اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في شباط 2005. وبعد عقد من الزمان، جمعت أزمة النفايات عشرات الآلاف من المتظاهرين في شوارع بيروت. وكالمعتاد فشل السياسيون في معالجة هذه الأزمة حتى يومنا هذا.
حاول رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، حسب “التايم” الأميركية، بعد التظاهرات الأخيرة العارمة، تهدئة الشارع، معلناً عن مجموعة من الإصلاحات تشمل تخفيض رواتب السياسيين إلى النصف، ومساعدة الأسر الفقيرة، وإنشاء هيئة لمحاربة الفساد وإقرار خطة الكهرباء. كما تضمنت تعهداً باسترداد الأموال العامة المسروقة.
أشعل خطاب الحريري غضب المتظاهرين، الذين توافدوا بعد إلقائه لخطابه بأعداد ضخمة إلى ساحة الشهداء حاملين أعلام لبنان ومرددين لهتاف “الشعب يريد إسقاط النظام”. فالثقة أصبحت معدومة مع الأحزاب السياسية، التي تسيطر على الحكومة اللبنانية منذ نهاية الحرب الأهلية في البلاد عام 1990، وتعتمد التوريث السياسي.
الحراك مستمر
لا يبدو أن من انتفض في لبنان، كما تشير “التايم” الأميركية، سيكل أو يمل من مواصلة الحراك. فقدت الناس الثقة في الطبقة الحاكمة، بعد سلسلة وعود للحكومة اللبنانية بإجراء تغييرات لم تتم متابعتها. لذلك يقول أحد المتظاهرين للمجلة “اخدعني مرّة، والعيب عليكَ، اخدعني مرّتين، والعيب عليّ”.
في الشارع المليء بالاحتجاجات المؤدية إلى البرلمان، جلست امرأة على طاولة، ودعت المتظاهرين إلى اقتراح أسماء لمجلس انتقالي للبلاد. تضمنت الأسماء الموضوعة على الطاولة عدداً قليلاً من أعضاء البرلمان السابقين، الذين يعتبرهم البعض خارج نظام المحاصصة والفساد.
غالباً ما يتم الدعوة إلى التظاهرات في لبنان من قبل قادة الأحزاب، الذين يدفعون الناس إلى الشوارع حاملين أعلاماً حزبية، ومرددين شعارات طائفية. لكن الاحتجاجات هذه المرة مختلفة، تطغو عليها أعلام لبنان وشعارات “الشعب اللبناني واحد”، ما يعني أنها تجاوزت الانقسامات التي تسببت في الكثير من اضطرابات الماضي.

ثورة ضد الفصاحة في السلاح والعبارة
بلال خبيز/المدن/الخميس 23 تشرين الأول/2019
يوم 16 تشرين الأول 2019، لم يكن أي مراقب أو متابع يجرؤ أن يحلم بأن ساحات مدن وقرى لبنان ستمتلئ بالمتظاهرين ضد طبقة السياسيين جميعاً. ما حدث لم يكن متوقعاً، والتوقع بحسب القديس أوغسطينوس هو المستقبل. وهذه كانت أولى الضربات التي وجهتها ثورة اللبنانيين ليس للطبقة السياسية والجهات العسكرية المختلفة في البلد وحسب، بل أيضا لأهل النظر من اللبنانيين الذين درجوا على افتراض أنهم يملكون الحلول وما يمنعهم عن تطبيقها هو استبعادهم من الحكم.
خارج التوقعات
والحق، إن أهل النظر في لبنان لا يلامون كثيراً. إذ لربما تجاوزت إنجازات الثورة اللبنانية أحلام الثائرين أنفسهم. فهؤلاء أيضاً، جميعا ومن دون تمييز، كانوا ينظرون إلى الجوار، ويستذكرون ما حل بالسوريين المطالبين بالحرية، وكيف قُمعت ثورتهم بالعنف المفرط، ويعرفون أيضا أن أحد الأطراف التي قمعت ثورة السوريين هو حزب الله، حاكم لبنان الفعلي. حزب الله أيضا لم يكن يتوقع أن يخرج الناس على خط الانضباط الذي بناه لهم بالعبوات المتفجرة والقمصان السود واستعداد قبضاياته لكمّ أي فم يحاول الاعتراض. مفترضاً أن النجاح في قتل السوريين من دون محاسبة ماثل في ذهن كل لبناني، ويمنعه حكماً من تعريض نفسه لمصير مماثل. الجميع لم يكن يتوقع، حتى الثائرات والثائرين أنفسهم. لكن ما يميز الثائرين والثائرات عن أهل النظر وعن أهل الحل والربط، أنهم انساقوا إلى موجة الثورة الهادرة وتركوها تأخذهم إلى حيث سترسو. الثائرون هم الذين لم يروا في الشتائم ما يخجل أو يحرج، والثائرون هم من لم يقلقوا على مصير الثورة لأنها بلا برنامج، والثائرون هم من لم يحاولوا فرض قيمهم وقناعاتهم على الناس، والثائرون هم من لم يسمحوا لأنفسهم التمييز بين قوى السلطة وأهلها وفرزهم بين فاسد وأقل فساداً، أو مرتكب وأقل ارتكاباً. لسان حالهم يقول: إذا كان أي من أهل السلطة غير مرتكب فهذا لا يعفيه من غضبنا، ولا يمنحه صك براءة يخوله تلبس لبوس الثائرين ومشاركتهم في المسار الذي يشقونه أغنية أغنية وشتيمة شتيمة.
البداية من الصفر
الثورة التي تفجرت في لبنان أصابت المفوهين، يساراً ويميناً واعتدالاً وتطرفاً، في مقتل أيضاً. منذ لحظتها الأولى اشترطت على محترفي النضال أن يخلعوا ثيابهم ومنطقهم وأن يبدأوا من الصفر، تهجي المفردات مفردة مفردة، ليتسنى في ما بعد للساحات نفسها أن تصوغها في جمل وعبارات. وتلمس الطريق خطوة خطوة، ليتسنى للبنان أن يرسّم حدوده بالأعلام والأغاني والشتائم واختلاط الأجناس. هذه ثورة ضد الفصاحة في السلاح والعبارة، وعلى المشاركين فيها أن يتعلموا لغتها التي لا تشبه لغات المنتصرين، لليأس أو للأمل.
ظنون حزب الله
قد يكون حزب الله هو أول من أساء تقدير ما يجري في لبنان. فلطالما ظن هذا الحزب أن الشارع ملعبه: تظاهراً منظماً، وبلطجة عند اللزوم، وانتشاراً مسلحاً حين يشاء. والأرجح أنه كان يعرف أن اللبنانيين يكتمون غيظهم في أحيازهم الخاصة، لكنهم لن يجرؤوا على إشهاره في الساحات. لكن هذه الخبرة الطويلة في تجربة الحلول محل الشعب، والتنصل من مسؤولياته في السلطة، وقذفها بوجه شركائه ووكلائه وتابعيه، لم تجد نفعا هذه المرة. فهذه الثورة ولدت بلا رأس (أو رؤوس) وتالياً لا يمكن لمسلحي حزب الله وجهاز أمنه قطع الرأس ليهمد الجسد. كل الذين تظاهروا ما كانوا على الأرجح يطمحون لتنصيب أنفسهم حكاماً لهذا البلد أو اجتراح حلول سريعة لأزماته. انتفضوا على الوضع القائم، لكنهم لم يطلبوا الحلول محل السلطة. على العكس، بدت السلطة ومناصبها في هتافاتهم وأغانيهم محل ازدراء وليست موضع حسد، والأرجح أن أحداً من هؤلاء اليوم لا يطمح لأن يقع في موقع جبران باسيل، أو يقبل بأن يكون مكانه. ولازدراء السلطة فعل السحر. فتفشيه على النحو الذي شهدناه في هذه الثورة يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح: الشعب لا يريد الحكم، لكنه يريد اختيار من يحكمه. لا يصدر أحكاماً لكنه يمثل هيئة المحلفين. لا يدعي أنه يملك الحلول، لكنه يملك الحق في الحكم على مجترحي الحلول وأفكارهم. وعلى كل من يجد في نفسه الجرأة على إطلاق مشاريع حلول جاهزة من أرشيفاته اليسارية أو الدينية أو الليبرالية أن يغامر في التعرض للازدراء، ووضعه في صف جبران باسيل. وإذا كان ثمة ما يجب أن يتعلمه مفوهو شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد فهو اتباع طريق الشاعر العباسي أبو نواس: احفظوا ألف بيت من الشعر ثم انسوها تماماً حين تريدون أن تصبحوا شعراء.
الإعلام.. والقيم البائدة
ثمة حائر آخر وضعته هذه الثورة في موقع لا يحسد عليه. فالثوار منذ البداية ما كانوا يطمحون كما في معظم الثورات الحديثة، وفي ثورة 2005 أيضاً أن يتحولوا نجوماً على الشاشات. لا يملكون كلاماً يناسب إطار الشاشات ولا يخدش حياء المراسلين والمذيعين، ولا يلتزمون بزمن الدقيقتين للتعبير عن أفكارهم كما يحصل في البرامج الحوارية. لديهم جملة واحدة هي بمثابة حكم قاطع: “كـــ.. أم” أي كان إلى أن يثبت أنه يقع في موقعهم، وأنه أيضا يدرك الأزمة العميقة التي يعيشها البلد وأهله، لكنه ليس من مستسهلي اجتراح الحلول. وتالياً، فإن وسائل الإعلام التي يبدو أن الزمن عفا عليها، أعفيت من مهمتها تماماً، فهي اليوم ليست من ينقل الخبر للمشاهدين القابعين في بيوتهم، مع كل المؤثرات التي تخولها المشاركة في تصنيع الرأي العام، بل أن هؤلاء المشاهدين هم من يصنعون الخبر وليسوا بحاجة لوسائل إعلام لتصلهم بالمشاهدين القابعين في بيوتهم وعلى أرائكهم. اللبنانيون تحولوا في هذه الثورة من مشاهدين إلى فاعلين، ولم يعد ثمة حاجة لأن يعلمهم ضيوف مارسيل غانم أصول العمل السياسي ومبادئ الاقتصاد السليم. والحال، بصرف النظر عما ستنجزه هذه الثورة في المقبل من الأيام إلا أن ما تم إنجازه يشبه الزلزال، وهو زلزال يحتاج وقتاً طويلاً لتبين آثاره وما يميته وما يحييه. وقت أكثر من كاف لدفن كل وسائل السلطات في ضبط الناس، وكل الخطابات التي تدعي أنها تملك الحلول الناجعة لإبقاء الشعب منضبطا تحت حد القيم البائدة.