مقالات خمسة من الشرق الأوسط تحاكي انتفاضة شعب لبنان على حزب الله والطاقم السياسي/سمير عطا الله: برفع الصوت ورفع الأيدي/غسان شربل: العهد والحكومة والحزب ورسائل الخيبة/إميل أمين: عن لبنان وصحوة الفينيق/سامم منسى: التسوية اللبنانية بين الانتفاضة المعيشية وأوهام المشرقية/مشاري الذايدي: نصر الله ولبنان هيهات منّا الاستقالة

161

برفع الصوت ورفع الأيدي
سمير عطا الله/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019

العهد والحكومة والحزب ورسائل الخيبة
غسان شربل/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019

عن لبنان وصحوة الفينيق
إميل أمين/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019

التسوية اللبنانية بين الانتفاضة المعيشية وأوهام المشرقية
سامم منسى/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019

نصر الله ولبنان: هيهات منّا الاستقالة!
مشاري الذايدي/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019

==============================
برفع الصوت ورفع الأيدي
سمير عطا الله/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019
الذين اختلفوا مع «التيار الوطني الحر» اختلفوا معه خصوصاً بسبب الخطاب الفوقي الذي يستخدمه رموزه في وجه اللبنانيين. وكان هؤلاء يشيرون إلى الناس كما كان يشير إليهم القيصر؛ أي كرعايا من فئة العبيد. أحد هؤلاء الوزراء قال: «جبنالهم النفط»؛ أي إنهم – التيارون – أتوا للبنانيين بالنفط، نيابة عن العزة الإلهية. ومن جملة الأنعام التي يكررون أنهم أنعموا بها على هذا الشعب، الذي لم يكن يملك أو يعرف شيئاً قبل وصولهم، أنهم أعطوه قانون انتخابات ينتخب به الأكثرية التي حازوها في البرلمان، مع أن اللبناني ينتخب منذ مائة عام.
تابع الناس أمس خريطة المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام: ألوف الشبان والشابات من سن الاقتراع، من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، وعلى مدى الوسط، في المدن وعلى الطرقات، من الفجر وطوال النهار وطوال الليل. مَن الذي اقترع لهؤلاء النواب إذن؟ ما هذا الشعب الناكر للجميل الذي لا يعرف قيمة العهد الذي «جاب» له النفط، ومنّ (وتمنن) عليه بقانون انتخابات؟
حتماً، كان هناك نحو مليون إنسان على مدى مساحة البلد جمعهم، بمناطقهم وطوائفهم وأعمارهم، الشعور بالمرارة والخداع وسفاهة التمنين على ألسنة وزراء ليس لهم في الحقل العام أكثر مما للرضيع في ثدي الأم.
مليون إنسان، من الفئة التي – في أكثريتها الساحقة – لا تنزل إلى الشوارع، ولا تتعاطى السياسة، أخرجتها من بيوتها حالة مزرية من الفشل العام والخوف والقلق والشعور بأن المصير في أيدي مراهقين والسقوط الأخير على أبواب المنازل.
تحدث المتظاهرون لغة واحدة: في بيروت، وفي صيدا وصور وطرابلس وجونيه، لغة واحدة سامية في صدقها وبساطتها، خالية من الطائفية والعنصرية وسفاهة المتاجرة بمصير الوطن ومستقبل الناس. لذلك، حمل بعضهم أطفالهم معهم، وخلت التجمعات من سخف الخطابات والشعارات الرثة الجوفاء التي لا تزيد أهميتها على لون طلائها. مليون إنسان، على مدى وسط بيروت، في كل ساحة طرابلس، في جونية، بلا منظم، بلا حزب، بلا تعبئة، يئنون ويغنون ويصرخون؛ هذا هو قانون الانتخاب الحقيقي: برفع الصوت ورفع الأيدي.

العهد والحكومة والحزب ورسائل الخيبة
غسان شربل/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019
فاجأ اللبنانيون الطبقة السياسية الفاسدة الممسكة بأعناقهم والتي ذهبت بعيداً في سياسات الاحتقار والإفقار. تدفقوا إلى الشارع في كل المناطق ومن كل الطوائف. وهذا المشهد غير مألوف منذ عقود. كشفوا تآكل شعبية الحكومة والحكم وأحدثوا جروحاً في هيبة الأحزاب الممسكة بشوارع المناطق. وهو مشهد مؤلم للرئيس سعد الحريري الذي كانت الجموع توافيه حين يناديها. والأمر نفسه بالنسبة إلى الرئيس ميشال عون. كل من الرئيسين يعرف أن أكثر الرسائل إيلاماً جاءته من منطقته وشارعه.
إنها موجة عاتية من الغضب ضاعفها شعور اللبنانيين بعدم جدية الحكومة والحكم في التصدي للانهيار الاقتصادي المقترب والذي يهدد لقمة أطفالهم وفرص التعليم والعمل ويدفع بمزيد من اللبنانيين إلى طريق الهجرة. لم يعد اللبنانيون في وارد تصديق أسطوانة الحكومة والحكم عن محاربة الفساد ومعالجة التدهور الاقتصادي. ضربت السنوات الأخيرة مصداقية العهد والحكومة معاً. كان هدير الشوارع واضحاً وهو أوفد رسائل الخيبة باتجاه ساكن السراي الحكومي وساكن قصر بعبدا. هذا من دون أن ننسى أن الرجلين دخلا المقرين استناداً إلى شرعية انتخابية وموقع مميز لكل منهما داخل طائفته.
بعد موجة الغضب التي تجتاح لبنان يقف عهد عون أمام منعطف كبير. وتاريخ الجنرال يثبت أنه كان لا يخشى المنعطفات والانعطافات حتى ولو استلزمت تخطي التفويض الشعبي أو الدستوري الممنوح له. وأمام المنعطف الحالي من واجب الجنرال أن يقرأ ويسمع.
أتمنى أن يتسع صدر الرئيس لحقيقة كشفتها تجربة السنوات الثلاث الماضية التي شكلت النصف الأول من عهده. وهي أن بعض رجال القصر هم من أضعفوا القصر وأن بعض رموز العهد هم من أضعفوا العهد. أنا لا أتهمهم بتعمد ذلك لكنني أضع سلوكهم في خانة قلة الخبرة أو الغرور أو التملق.
يعرف الجنرال أن سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع قبلوه رئيساً بعدما فرض «حزب الله» معادلة: لا رئيس إلا إذا كان عون. وبعدما بقيت الجمهورية طويلاً مقطوعة الرأس. تناسى الحريري مواقفكم من والده والمحكمة والاغتيالات وإسقاط حكومته وأيدكم. وتناسى جنبلاط فصول معارك سوق الغرب ومدافعها وأيَّدكم. وتناسى جعجع «حرب الإلغاء» ومدافعها وأيَّدكم. ومن حق أي لبناني أن يسأل أين مصلحة العهد في إظهار الحريري مهيض الجناح مستضعفاً أمام جمهوره وطائفته؟ وأين مصلحة العهد في استعداء جمهور جنبلاط وإعادة فتح جروح الجبل وهز المصالحة فيه لأن «التيار» لم يكن من أبرمها؟ وأين مصلحة العهد في التعامل مع وجود جعجع في الحكومة والشارع وكأنه ورم خبيث يجب استئصاله؟ أنا لا أقول إن الثلاثة من صنف الملائكة، وأعرفهم كما أعرفك، لكنني أسأل عن مصلحة عهدك ومصلحة اللبنانيين.
واضح أن العهد أخطأ في التعامل مع القوى التي شاركت فيه آتية من ركام تجمع «14 آذار». وواضح أيضاً أن الحريري أخطأ حين لم ينطلق في رحلته مع العهد من قاعدة أصلب وأوضح وأكثر توازناً خصوصاً أنه يدرك أن الانهيار يقرع الباب. وكان باستطاعة الحريري أن يفيد من حاجة العهد الملحة إليه لتفادي الانهيار الاقتصادي الكامل. وكان باستطاعته أن يدير العلاقات على نحو أفضل مع حلفائه السابقين لضمان شيء من شبه التوازن.
طرف ثالث يفترض أن يقرأ مشهد الساحات المكتظة بالمحتجين وهو «حزب الله». لقد حمّل الحزب لبنان في الأعوام الأخيرة ما يفوق قدرته على الاحتمال سياسياً واقتصادياً. خصوم الحزب سلموا له بدور كبير وفاعل ومؤثر لكن أكثر من نصف اللبنانيين لا يسلمون له بحق احتكار القرار الوطني وفرض أسلوبه ومنهجه على حياة كل اللبنانيين. لا يحق للحزب وضع اللبنانيين دائماً أمام خيار وحيد وكأن إرادته فوق المؤسسات وكلمته لا ترد.
لا بد من الاستماع إلى وجع الناس. إلى الألم الذي دفعهم مع أبنائهم إلى الساحات لإشهار خيبتهم من أهل القرار أو من يفترض أن يكونوه. على الحكومة والحكم التحرك سريعاً لإقناع الناس بأن الخطوات التي أعلنها الحريري أمس ليست مجرد حبوب مؤقتة لتهدئة الشارع. وعلى الحراك الشعبي أن يبلور برنامجاً يتضمن مطالب واضحة وممكنة وخطة تحرُّك فاعلة تمنحه القدرة على ممارسة حق الرقابة الشعبية الدائمة على سلوك الحكومة والحكم في المرحلة المقبلة.
تدفق اللبنانيين من كل الطوائف والمناطق دفاعاً عن لقمة العيش وفرص التعليم والعمل والحرية والكرامة يكشف الحاجة العميقة إلى قيام دولة تستحق التسمية. وفي معركة معقدة من هذا النوع بفعل تركيبة الداخل وتمزقات الإقليم، لا بد من الصبر والحذر والتحلي بالمسؤولية في موازاة الشجاعة.
لا خيار أمام عون غير استخلاص العبر من هذه الانتفاضة الواسعة الممتدة من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال. لا بد للحريري أيضاً من الخروج بالاستنتاجات اللازمة. استعادة ثقة الناس تستلزم جراحات لا مراهم تجميل. والخوف هو أن يكون تحرك الشارع تخطى المعالجات المحدودة المتأخرة. غضبة اللبنانيين صريحة في الداخل والخارج. على الحكم والحكومة تجرع سمَّ التنازل لإرادة الناس لأن كلّ رهان آخر معروف النتائج والعواقب. إننا أمام فصل جديد مختلف في حياة لبنان. لا يمكن الذهاب إلى المستقبل بشبه دولة مستباحة.

عن لبنان وصحوة الفينيق
إميل أمين/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019
ارتبط لبنان طويلاً وكثيراً بطائر الفينيق، وسميت حضارته بالفينيقية في استعارة لا تخطئها العين للطائر الأسطوري الذي يقوم من رماده مرة جديدة، وذلك بعد أن يخيل للناظر أنه قد ذهب وراء الآفاق ولا رجعة له وتقطعت صلاته بالحياة.
على أنه دائماً وأبداً كان لبنان بتكوينه الحضاري والثقافي، وبنسيجه الاجتماعي يصحو مدهشاً من حوله، وليؤكد كل يوم أنه رسالة بأكثر منه دولة.
ما هذا الذي نراه على ردوب لبنان الأرز العتيق صاحب المجد الأدبي والإنساني، الذي يتجاوز رقعته الجغرافية أو حضوره الديموغرافي؟
باختصار غير مخل يمكن القطع بأننا أمام «فعل إيمان ورجاء» بلبنان، وبلبنان وحده المنزه عن المحاصصات الطائفية، والتبعيات الآيديولوجية، أو المساقات الدوغمائية التي أغرقت اللبنانيين في لجج من الصراعات ما كان لبلد «العيد» أن ينحدر إليها.
مشهد الشوارع اللبنانية يحتاج إلى علماء اجتماع بأكثر من كُتاب ومحللين سياسيين، إذ إنها المرة الأولى بعد انتفاضة العام 2005 التي أخرجت القوات السورية من بلد الأرز العالي السامق في أعلى عليين، التي تخرج فيها عشرات الآلاف من الجماهير اللبنانية واللبنانية فقط، من دون تمايز طبقي أو عرقي أو طائفي أو مذهبي، وهم لبنانيون ينشدون الخلاص من ثلاثة عقود من الاهتراء السياسي، والفساد الحزبي، وحكومات التشارع والتنازع، وبدع سياسية لم يسمع العالم بها من قبلُ كالثلث المعطل وما لف لفه.
بات اللبنانيون على بكرة أبيهم «نخبة مستنيرة»، نخبة نهضوية، وليست نخبة نهبوية، ومن هنا يتبين أن المفصل الذي تواجهه القيادات السياسية في لبنان هو تاريخي وخطير، ومن دون حكمة وحنكة عاليتين لن يمكن الخروج من المأزق الآني.
إيمان اللبنانيين في واقع الحال يتجاوز الوعد برفع ضريبة من هنا، أو تقديم خدمة بعينها هناك، إنه إيمان جديد بلبنان الكرامة والشعب العنيد، كما صدحت جارة القمر ورمز لبنان السيدة فيروز.
ما يسعى إليه الشعب اللبناني في هذه الآونة هو استعادة لبنان من أنياب الفساد الذي استشرى، ليجعل من اللبنانيين طبقتين لا غير، مليارديرات بالأعلى، لا علاقة لهم بالمعذبين والمجروحين في كرامتهم في قاع البلد.
غاب عن السياسات اللبنانية وجل السياسيين طوال العقود الثلاثة الفائتة ما أشار إليه حكيم الصين الأشهر كونفوشيوس، الذي حذر ليس من الفقر أن يسود مجتمعاً بعينه، بل من التفاوت الطبقي القاتل، ذاك الذي يملأ القلوب بالضغائن، ويزخم في العقل والمخيلة صور الانتقام، ويهيج الثارات ويجعلها الطريق المؤدية إلى الانحدار.
المتابعون للشاشات طوال الساعات الأخيرة يدركون أننا أمام شعب متحضر برجاله ونسائه، بشبابه وشيبه، شعب حقيق به أن يسعى في طريق الأمل للإصلاح الجذري، ذاك الذي يتجاوز بعض الإجراءات البيروقراطية، ويهدف إلى العودة إلى مربع الاستقلال اللبناني الحقيقي، لبنان القابض على كرامته بأسنانه، وليس لبنان الدائر في أطر وفلك القوى المخربة الخارجية، لبنان صاحب الزعامات اللبنانية التاريخية، تلك التي يسترجع اللبنانيون مجدها أمام أعينهم، وتعلو الألسنة باللغو اللبناني «هيك بيكون الزعماء».
أفرزت المظاهرات الأخيرة حقائق مؤكدة وفي مقدمها أنه حان الوقت ليضحى لبنان دولة واحدة، وجيشاً واحداً وشعباً واحداً، إذ لا يستقيم بالمرة أن تكون دولة ذات رأسين، حكومة وجيش وطني، وميليشيات تأتمر بأوامر الملالي، ولعل خروج متظاهرين لبنانيين في الضاحية الجنوبية من جهة، وفي المناطق الواقعة تحت تأثير وولاء حركة أمل من جهة ثانية، لهو رسالة بأن أزمنة الاحتماء بسلاح الميليشيات قد فات أوانها، وأنه وقت لبنان الموحد.
لن يخاف اللبنانيون من تصريحات نصر الله الذي يتوعد من يستقيل من الحكومة بالمحاكمة وكأنه هو الدولة، ولعل الساعة هي ساعة الوعي والرجوع عن طروحات وشروحات «التهور الاستراتيجي»، الذي يمكن أن يقود لبنان إلى المزيد من الاحتراب الأهلي والطائفي من جديد، وإن كان المرء يثق أن وعي اللبنانيين هذه المرة، وبعد سنوات الخبرة والألم التي عاشوها، سوف يقفز ويتجاوز هذا الفخ المراد للبنان. أثبتت المظاهرات الأخيرة ضمن معطيات كثيرة أن كافة معطيات ومحاولات الإسلام السياسي قد باءت بالفشل، وأن تسخير الدين ولي عنق النصوص لا يفيد، فالشعوب كما الجيوش تمشي على بطونها، وتتطلع إلى الصادقين الأمناء في وعودهم، وقراراتهم، لا في تنظيرهم وخطبهم الرنانة والطنانة والتي لا تسمن ولا تغني من جوع. ستكون الطريق طويلة حتى يستعيد اللبنانيون حقوقهم، غير أن ما جرى أثبت أنهم قادرون على الأمل ومتعلقون بهدبه، لا يلوون عليه شيئاً، وهذا هو الدرب للتصحيح الجذري العميق.
جميل إلى حد الروعة مشهد السلوك الآدمي والإنساني لقوات الجيش اللبناني تجاه المتظاهرين، وكذا موقفه من المظاهرات ما يعني أن وحدة الصف اللبناني قائمة وقادمة.
لبنان أراد الحياة… وقدره الساعة في أيدي اللبنانيين.

التسوية اللبنانية بين الانتفاضة المعيشية وأوهام المشرقية
سام منسى/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019
يبدو أن المتابعين للحدث اللبناني باتوا مقتنعين بأن البلاد تدخل مرحلة جديدة، عبَّرت عنها بوضوح الانتفاضة الشعبية العارمة بحجمها، والواسعة بانتشارها، وما سبقها من جملة مواقف مستفزة لوزير الخارجية جبران باسيل، صدرت في أقل من أسبوع واحد. ولا تجوز قراءة هذه المواقف من دون ربطها بعدد آخر من مواقف سابقة لحليفه المهيمن حسن نصر الله، وقادة في حزبه.
بدأ رئيس «التيار الوطني الحر» وصهر رئيس الجمهورية، مواقفه المتفردة من منبر جامعة الدول العربية، في اجتماع وزراء الخارجية، مطالباً بعودة سوريا – الأسد إلى الجامعة «لأن الوقت حان لعودة الابن المبعد، وللمصالحة العربية»، داعياً «إلى قمة عربية تكرس هذه المصالحة».
وفي احتفال لـ«التيار الوطني الحر» أطلق باسيل موقفاً نارياً ثانياً، هدد فيه بقلب الطاولة والمواجهة والانتصار، مؤكداً الدفاع عن سيادة سوريا «ولو وحيدين بين العرب»، والتصميم على زيارتها بهدف إعادة النازحين، ولأنه يريد «للبنان أن يتنفس بسيادته وباقتصاده… وسوريا هي رئة لبنان الاقتصادية».
وتوج الوزير باسيل مواقفه بموقف ثالث في اللقاء المسيحي المشرقي، وهو الأخطر، إذ اعتبر أن المشرقية هي «حضن حضاري ثقافي يمتد على مساحة العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين… ونريد تحويلها إلى حاضنة جغرافية حسية، تحضن عروبتنا وآراميتنا وكرديتنا… وإلى جبهة مشرقية معاصرة».
في خضم انشغال رئيس التيار بسيادة سوريا وبالمشرقية، علت صرخة اللبنانيين يوم 18 أكتوبر (تشرين الأول) في تحركات مطلبية غير مسبوقة على مستوى لبنان كله، لا اعتراضاً على هذا المفهوم الجديد، وقلة منهم تدرك خطورته وأنه المفتاح الذي سيحكم إقفال دائرة انقلاب «حزب الله» على أسس الكيان اللبناني؛ بل احتجاجاً على الفساد والرياء والزبائنية والخطب الرنانة التي يصدح بها المسؤولون اللبنانيون، متضامنين مع الشعب وما آلت إليه أوضاعهم، وكأن المسؤول عن هذا التدهور شبح مجهول الهوية والهوى.
المواقف الرسمية التي رافقت هذه الانتفاضة، أظهرت استفحال حجم النكران والانفصام الذي تعيشه السلطة الحاكمة، لا سيما في كلمتي باسيل ورئيس الحكومة سعد الحريري؛ حيث تبادلا الاتهامات حول المسؤول عن تدهور الأوضاع في لبنان.
وبحسب ما علمتنا إياه التجارب، يجوز القول إنه إذا كان بين المحتجين من يصرخ وجعاً مندداً بزعماء طائفته وهم كثرة، فبينهم أيضاً الموجَّه والمدفوع ممن يريد الإفادة من هذا الحراك، للقضاء على ما تبقى بما يذكر بلبنان القديم، ويستبدل رموزه بوجوه صافية التوجه، وتنتمي إلى محور الممانعة الإيراني، مكرساً في لبنان الانتصارات الإقليمية التي حققها. البعض يوشوش بأن الأمر سينتهي باستقالة الحكومة الحالية، لتتسلم دفتها شخصية «نظيفة» الانتماء، والبعض الآخر يقول إنه لا حاجة للاستبدال بالرئيس الحريري؛ لأنه بات بعد التسوية رهينة بأيدي «حزب الله» وما عبر عنه حسن نصر الله في خطابه بعد يوم واحد من الانتفاضة، من تمسكه بهذه الحكومة؛ بل ما يشبه تهديد الرئيس الحريري من أن يتخلى عن المسؤولية دليل على ذلك، إنما الحاجة هي إلى إبعاد من أطلق عليهم باسيل تسمية «السياديين الجدد» غامزاً من باب «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«حزب الكتائب» وصولاً إلى حكومة «نظيفة». وآخرون يتحدثون سراً عن احتمال أن يتنحى رئيس الجمهورية قبل انتهاء ولايته، لصالح صهره وزير الخارجية، في إطار تحويل النظام اللبناني إلى نظام رئاسي، وهو أيضاً شخصية «نظيفة». وشوشات نترك للأيام أن تحسم صحتها من عدمها.
يبقى أنه لا يمكن فصل الحدث اللبناني اليوم عن تطورات إقليمية مهمة وخطيرة، لا سيما من زاوية العناوين التي طرحها الوزير باسيل، إن لجهة دفاعه عن سوريا الأسد ومطالبته بعودتها إلى الجامعة العربية، أو لجهة المشرقية التي طرحها، بما تفترضه من بديل لمسميات العروبة والإسلام الليبرالي، وما تستشرفه من تأسيس لتحالف أقليات، بعضها دينية وأخرى عرقية؛ لكنها في جلها مذهبية غير سنية وغير عربية.
فمن ناحية، تمكن قراءة مواقف باسيل عبر مسعى تركيا بزعامة رجب طيب إردوغان إلى إسقاط القوة المسلحة الكردية، وإقامة منطقة عازلة بين العرب السنة والأكراد في شرق الفرات؛ حيث تتوقع إعادة توطين سنة عرب سوريين من اللاجئين في تركيا في غير مناطقهم الأصلية. هذه «المغامرة» الإردوغانية المدعومة بتعبئة شعبوية ذات طابع سني من «الإخوان المسلمين» السوريين، و«حماس» الفلسطينية، وقطر، تعني بالدرجة الأولى إعادة الأكراد السوريين إلى «حضن» نظام الأسد، بما يعزز زعمه «بحماية» الأقليات غير العربية، ويسمح له باستكمال عملية تعويم شرعيته.
وتمكن قراءة مواقف باسيل أيضاً عبر عدسة العمليات الأمنية التي يشهدها العراق، لترهيب أصوات شيعية معارضة جريئة، بحجة الحفاظ على وحدة «الطائفة الشيعية»، ما يعني أمراً واحداً بلغة عراق اليوم، وهو الالتفاف حول المشروع الإيراني وحمايته.
ويذكِّر الحدث اللبناني الذي أعده وأخرجه «حزب الله» وينفذه الوزير باسيل، بما سبق وصرح به زعماء روسيا، وفي طليعتهم الرئيس فلاديمير بوتين وفريقه من مفكرين وخبراء، بشأن دور روسيا الاتحادية في حماية الأقليات في المشرق.
وسط كل ذلك، يسجَّل صمت إسرائيل المريب. ولإنعاش ذاكرة من يتناسى من جماعة الممانعة، سبق لزعماء واستراتيجيين هناك أن أعلنوا، وبالفم الملآن، عن دعمهم؛ بل وتخطيطهم لقيام تحالف أقليات، تكون الدولة العبرية فيه اللاعب الأكثر نفوذاً، والمحرك البارز للعلاقات بين مكوناته.
هذه التطورات الإقليمية مضافة إلى المشهد اللبناني في نسخته الأخيرة، تشي بأن الفريق المحلي – الإقليمي المنتشي بالانتصار، يعتقد أنه آن الأوان لينتقل إلى مرحلة إحكام دائرة الانقلاب الذي قاده، فيتخلص من الجالسين معه إلى الطاولة، إيذاناً ببداية الحلقة الأخيرة من مسلسل إلحاق هذا البلد سياسياً واقتصادياً بالمحور الإيراني المنتصر. وما يتيح له ذلك هو القرار الأميركي بالانسحاب من سوريا، والعملية التركية، وما قد تقدمه من خدمة لجميع أطراف هذا المحور.
في واقع الأمر، من اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، والاغتيالات الأخرى التي تلته، إلى حركة قمصان «حزب الله» السود في 7 مايو (أيار) 2008. إلى اتفاق الدوحة الذي كرس التوافقية، إلى التسوية التي أسفرت عن انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، إلى قانون الانتخاب الهجين الذي حقق أكثرية نيابية وحكومية لمحور الممانعة، كلها محطات أخرجها «حزب الله»، ونفذ بعضها بتغطية من حلفائه، المسيحيين منهم خاصة، بهدف تغيير الكيان اللبناني بدستوره ونظامه وحتى نسيجه الاجتماعي، ليسلمه إلى راعيته إيران كياناً صديقاً ونظيفاً. ولعل انكفاء الدول الغربية وسكوتها عن عمليات القضم التي تمارسها إيران في المنطقة عبر أذرعها، سيتيح للحزب النجاح في خطته.
محصلة هذا المشهد اللبناني في عمقيه المحلي والإقليمي، أن المؤسسات والأعراف والقوانين تنهار الواحدة تلو الأخرى، جراء السعي لدفن تسوية اتفاق الطائف 1989، في مسار يتجه نحو إدخال لبنان في مرحلة تتجاوز مستوى استنفار العصبيات المذهبية والعرقية، إلى مستوى إدخالها في هيكلية بعض الدول والأنظمة في المنطقة، وتجعل الصدام بين الأكثريات والأقليات الدينية والمذهبية هو المحدد لهويتنا الوطنية، وتقضي بالتمام والكمال على أي أمل بإعلاء الرابطة الوطنية، وإرساء الدولة المدنية القائمة على القيم الديمقراطية والولاء الدستوري وأولوية المواطنة؟

نصر الله ولبنان: هيهات منّا الاستقالة!
مشاري الذايدي/الشرق الأوسط/21 تشرين الأول/2019
الذي جرى ويجري في لبنان منذ عدة أيام، ليس من النوع الذي يمكن تمريره بسهولة، أو بلهجة اللبنانيين «بتقطع»، بل هو فاصلة بين ما قبل وما بعد، إنه ليس مجرد غضبة من أجل مطالب خدمية بحتة، كما يريد سادة العهد الحالي تصويره، وفي مقدمتهم زعيم حزب الله، حسن نصر الله، وأصدقاؤه من التيار العوني.
لا… الذي نراه، من زخم ومطالب المتظاهرين، هو بالفعل ثورة على كل مؤسسة الحكم اللبناني وثقافة الحكم التي أوصلت البلد إلى الاستسلام لحزب الله، والعمل لصالحه، وتسليم قرار الحرب والسلم له. نعم هذا هو أصل الداء، لأن طرفاً أساسياً من معاناة الاقتصاد اللبناني اليوم هو العقوبات الأميركية والمقاطعة العربية، بسبب انخراط حزب الله في العدوان على الدول العربية، وتغذية الحروب الطائفية، والإسهام الفعّال في خدمة الحرس الثوري الإيراني على مستوى العالم، بل والتخادم المفضوح مع عصابات المخدرات اللاتينية، وخلق روابط اتصال وتنسيق مع تنظيمات إرهابية مثل «القاعدة»، وغير ذلك كثير من صحيفة لا تسر الناظرين. الذي ركّب العهد السياسي الحالي في لبنان، هو حزب الله، فهو من جلب الرئيس ميشال عون، لكرسي بعبدا، وهو من سلَّط صهره المستفز جبران باسيل على بقية القوى السياسية، وهو من استهان بزعيم السنة، يفترض ذلك، سعد الحريري حتى أفقده، أعني سعد، الكثير الكثير من مصداقيته، ليس في الشارع السني وحسب، بل لدى كل معارضي حزب الله وأتباعه من العونية.
لذلك حين خرج حسن نصر الله قبل أيام يخطب عن المظاهرات، كان منتظراً منه أن يدافع عن «العهد» وقال بالعامية: «ما تعبوا حالكن، العهد باقي».
بل وجعل التجاوب مع غضب الشارع – بما فيه، بل أوله: الشارع الشيعي – من قبل بعض كتل الحكومة «خيانة»، وربما لو تحمس قليلاً لقال كلاماً آخر، لأنه كان يتكلم بمناسبة أربعين الحسين.
يفترض بثقافة الحزب وطرق تعبئة الجمهور، التركيز على مطالب «المحرومين» و«المستضعفين»، وهذه مفردات أصيلة ومثيرة في خطاب التحشيد الذي تنتمي له ثقافة حزب الله، لكن خطاب المظلومية هذه المرة لا يخدم حاكم لبنان الحقيقي نصر الله، فهو السيد، وهنا لست أعني النسبة فقط للعترة العلوية، بل أعني المراد اللغوي المباشر عن سيد القوم. جعل نصر الله في خطابه الغاضب الاستقالة من العهد والحكومة خيانة، وكاد يردد المقولة الكربلائية الشهيرة: خيروني بين السلّة والذلّة… وهيهات منا الذلّة، ولكن مع تعديل الهتاف إلى: خيروني بين الحكومة والاستقالة… وهيهات منّا الاستقالة!