طوني عيسى: لماذا لا يطلق حزب الله صواريخه/د. انطونيوس ابو كسم: الإستراتيجية الدفاعية ومعضلة تطبيق القرارين 1559 و1701

87

الإستراتيجية الدفاعية ومعضلة تطبيق القرارين 1559 و1701
د. انطونيوس ابو كسم محامي دولي/جريدة الجمهورية/ الثلاثاء 27 آب/2019

لماذا لا يطلق «الحزب» صواريخه؟
طوني عيسى/جريدة الجمهورية/الثلاثاء 27 آب 2019
تقتنع إيران أنّ أكبرَ ورقةٍ تستطيع امتلاكها هي أن تتمدَّد عسكرياً وتسيطر على القرار في العراق وسوريا ولبنان وغزّة. حينذاك، تصبح ذات حدود مع إسرائيل الإبنة المدلَّلة للولايات المتحدة، بل تطوِّقها، وتبدأ مساوماتها الكبرى. لذلك، ردَّت عليها إسرائيل بهجوم معاكس: ضربَت أذرع إيران الممدودة، وذهبَت إلى العراق لتصبح مباشرة على الحدود الإيرانية: واحدة بواحدة!

لا يمكن إنكار الغموض الذي لفَّ مجريات الأحداث في الضاحية الجنوبية فجر الأحد الفائت. فما هو واضح، أنّ هناك طائرتين مسيَّرتين في العملية، وأما البقية فيكتنفها الغموض التام. وتتناقض الروايات والسيناريوهات التي يوزّعها المعنيون جميعاً، وكأن كلّاً منهم يريد إخفاء عنصر معين، أو أكثر، لضرورات عسكرية أو غير عسكرية. لذلك، لم يتمكن الخبراء والمحللون الذين حاولوا معرفة ما جرى «موضوعياً» وبعيداً عن «البروباغندا»، من رسم صورة متكاملة، لكنهم توقفوا عند عناصر واضحة ترتبط مباشرة بالحدث:
1 – إنّ الطائرات المسيّرة (الدرون)، بطلة الفيلم في عملية فجر الأحد، كانت نجمة الليالي في سماء جبل لبنان الجنوبي في الأيام الأخيرة. وقد طرح أبناء الشوف وعاليه وبعبدا أسئلة حول هوية هذه «الدرونات»، ولم يلقوا جواباً من أحد.
وثمة مَن سأل: إذا كانت إسرائيل هي التي تجتاح الأجواء بهذا الشكل، فلماذا لا يرفع لبنان صوته شاكياً خرقها القرار 1701؟ وأما إذا كانت قوى غير معادية هي التي تدير هذه الطائرات للمرة الأولى بهذا الشكل، فما الهدف الذي تسعى إليه: التدريب أم الحماية أم الاستكشاف أم غير ذلك؟
ولأنّ أحداً لم يقدّم جواباً للناس في الجبل، انطلقت التكهنات. وذهب خيال البعض إلى حدّ الربط بين «الدرون» وحال التوتر التي سادت أخيراً هناك، على خلفية حادثة البساتين. وثمة مَن سأل: هل هي رسائل إلى وليد جنبلاط؟ ومنطقياً، يصعب إدراك قصة «الدرون» في الضاحية ما لم تُدرَك قصتُها في سماء الجبل أولاً.

2 – حسَمَ «حزب الله» الجدل بالقول إنّ إسرائيل هي التي نفّذت العملية، وارتكبت أوسع خرق للقرار 1701. وبالنسبة إليه، يكفي تزامن استهداف إسرائيل لـ«الحزب» في بيروت ودمشق وضربُ «الحشد الشعبي» في العراق لتأكيد أنّ الجهة المعتدية واحدة، ووقف التكهنات والتساؤلات التي يبدو بعضها بريئاً وبعضها الآخر خبيثاً.
لكن إسرائيل نفسها لم تعترف بالعملية. وعلى العكس، حاول مسؤولون إسرائيليون الإيحاء بأن الطائرتين اللتين أُسقطتا من صنع إيراني، وأنّ «حزب الله» كان يجهزهما لتنفيذ عملية داخل الحدود الإسرائيلية، كما يفعل في محيط دمشق، وقد تمكّنت إسرائيل من كشفهما وتعديل وجهتهما الكترونياً لتنفجرا في مقرٍّ لـ«الحزب» في الضاحية.
وطرح الإعلام الإسرائيلي والأميركي أسئلة عن مدى الجدّية في الرواية الرسمية التي أطلقها «الحزب»، والتي جاء فيها أنّ الطائرة المسيَّرة أسقطها شبّان بالحجارة.

3 – أعلن «حزب الله» قبل فترة، بلسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أنه لن يقف مكتوفاً إذا تعرَّضت إيران لاعتداء إسرائيلي، في أي منطقة من الشرق الأوسط.

ومن الواضح أنّ «الحزب» يأخذ على عاتقه القيام بدوره العسكري في منظومة الدفاع الإيرانية في المنطقة، وهو دور الرادع لإسرائيل في المواجهة الكبرى مع الولايات المتحدة.

وكرَّر «الحزب» مراراً تأكيده على جدّية هذا الالتزام، خصوصاً أنّ المواجهة الأميركية – الإيرانية تتجّه إلى مزيد من السخونة، ما يجعل إيران في حاجة ماسّة إلى دور يقوم به «الحزب» لردع إسرائيل: إما بالانخراط فعلاً في المعركة معها، أياً تكن التكاليف، وإما بالمناورة فقط!

وكان السيّد نصرالله أعلن أنّ ترسانة الحزب الصاروخية صارت أقوى بكثير مما كانت عليه قبل حرب تموز 2006. وفي أيلول العام الفائت، لفت الى إنّ محاولات إسرائيل لقطع الطريق على الصواريخ الدقيقة الأهداف، الآتية من سوريا، قد باءت بالفشل.

وقال: «مهما فعلتم. لقد انتهى الأمر وتمّ إنجازه، وباتت المقاومة تملك من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة ومن الإمكانيات التسليحية ما يمكِّنها، إذا فرضت إسرائيل حرباً على لبنان، أن تواجهها بمصير لم تتوقعه في أي يوم من الأيام».
في تقدير محللين أنّ أي طرف في الصراع، سواء إيران وحلفائها أو إسرائيل، لا يستطيع الذهاب بالتصعيد إلى الحد الأقصى، لأنّ الحسابات مكلفة هنا وهناك. فلا بنيامين نتنياهو يريد فتح الجحيم عليه حالياً، في ظل مرحلة سياسية داخلية وخارجية دقيقة، ولا «حزب الله» في وارد دفع لبنان إلى «تجربة الخراب» التي ذاقها في 2006، وهو يكاد ينهار أساساً. فالصواريخ التي هدَّد بها «الحزب» طويلاً ربما صارت جزءاً من «احتياط» الردع لا أكثر، ولا قيمة لها في الاستعمال واقعياً، تماماً كما هي الترسانات النووية في الدول التي تملكها.

والبديل الممكن هو تبادل الرسائل أو العمليات «المحدودة» نسبياً، بواسطة «الدرونات» التي أتاحتها التكنولوجيا الحديثة للدول، كما للمجموعات النظامية وغير النظامية. والأرجح أنّ إسرائيل و»حزب الله» يستسيغان هذه الوسيلة الفعّالة وغير المكلفة بكل المقاييس.

وإذا كان الإسرائيليون قد اختبروا «الدرونات» في سوريا والعراق من قبل، فإن «حزب الله» سبق أن اختبرها في معارك القلمون السوري عام 2015 وهو جاهز اليوم لاختبارها مع إسرائيل أيضاً. وسبق لهذه الطائرات أن حلّقت فوق الحدود لجهة الجليل، وأعلن الإسرائيليون إسقاط إحداها العام الفائت.
إذاً، على رغم السقف المرفوع، على خلفية «درونات» الضاحية، لن يستخدم «حزب الله» طاقاته التدميرية الموعودة، ولاسيما ترسانته الصاروخية الهائلة، ولو جاءت لحظة المواجهة الكبرى بين إيران وخصومها، وهو سيكتفي بالتهديد والضربات الموضعية.

ولكن، الأصحّ هو أنّ المواجهة الكبرى لن تقع على الأرجح. فحتى إيران والولايات المتحدة ليستا مستعدتين للعب «صولد». وفي أساس اللعبة، لا إيران تريد محو إسرائيل عن الخريطة ولا تستطيع، ولا إسرائيل تريد إسقاط الجمهورية الإسلامية أو تدمير «حزب الله».

فالجميع يعرف حدوده، ويدرك أنّ هناك مصالح أكبر من العداوات أحياناً. فقط، هي عملية رسم حدود وسقوف لكل طرف.

الإستراتيجية الدفاعية ومعضلة تطبيق القرارين 1559 و1701
د. انطونيوس ابو كسم محامي دولي/جريدة الجمهورية/ الثلاثاء 27 آب/2019
في ذكرى السنتين لمعركة فجر الجرود، وفي ظلّ استمرار اعتداءات العدّو الاسرائيلي انتهاكاً للسيادة اللبنانية، وبعد استعراض إنجازات الجيش اللبناني في المعارك، بات من الملحّ وضع استراتيجية دفاعيّة عسكريّة من نوعٍ آخر، خصوصاً في ظلّ تكاثر المجموعات المسلحّة التي تنذر بنزاعات هدفها تهديد الكيان وقلب موازين القوى. في الواقع، تتكاثر «الفزاعات» لتشرّع بقاء السلاح في أيدي مجموعات، بدءاً من فزاعة الخطر الحقيقي المتمثل بالعدوّ الاسرائيلي مروراً بفزّاعة المجموعات المتطرّفة على الحدود السورية اللبنانية وصولاً إلى المجموعات الإرهابية في الداخل. وكأنّ تحرير فلسطين المحتلّة أصبح يمرّ بلبنان وتحرير سوريا من الجماعات الإرهابية أيضاً. أمّا بخصوص فزاعة الإرهاب في الداخل، فعلى رغم من أنّ مخيّم نهر البارد كان خطاً أحمر، استطاع الجيش اللبناني وحيداً من هزيمة «فتح الإسلام» على رغم من المتآمرين الذين تطوّعوا لتهريب شاكر العبسي حتّى لا يكون نصر الجيش ألماسياً، أمّا الإرهاب على الحدود، وبعد المراوغة السياسية لسنوات بذريعة النأي بالنفس عن الحفاظ على سيادة الحدود اللبنانية، إرضاءً لدولٍ إقليمية ومجموعات مسلّحة محلّية نصرة للدين، اتّخذت قيادة الجيش قرارها بتحرير جرود السلسلة الشرقيّة على رغم من التهويل والجبن السياسي. أنجز الجيش بمفرده عمليّة فجر الجرود وسط محاولات تشويش تلتها محاولات لتقاسم النصر. وكالعادة، صدر الأمر السياسي بإيقاف آخر مرحلة من المعركة حتّى لا يكون نصر الجيش إلهياً.

بعد الطائف أدّت «لبننة» «حزب الله» إلى أن يصبح المقاومة الوحيدة والحصريّة في وجه العدوّ. وتمّ إدخال الجيش في معادلة «الجيش الشعب والمقاومة»، وكأنّ الجيش منفصل عن الشعب، وكأنّ الجيش لا يقاوم، في حين أنّ الجيش هو ابن الشعب وأنّ مقاومة العدوّ هي في صلب عقيدته وتشكّل واجبه الأساسي.

هذه المعادلة، أدّت إلى إسقاط معادلات أخرى، أبرزها سقوط معادلة سلاح المخيّمات الفلسطينيّة. فالسلاح الفلسطيني لم يعد مبرراً كونه لم يعد يهدف لمقاومة العدوّ، بل حماية بؤرٍ أمنيّة داخل المخيّمات، حيث تحوّل إلى فزّاعة بدءاً من عين الحلوة مروراً بشاتيلا وصولاً إلى نهر البارد، وبذلك انتفى هدفه.

وبعد الطائف، تمّ نزع سلاح بعض الميليشيات، وأبقي في أيدي أخرى اتّخذت شكل أحزابٍ سياسية تدّعي مقاومة إسرائيل. إلّا أنّ جزءاً منها استعمل في الداخل وليس بوجه العدوّ، كحروب طرابلس والشّراونة وأيار والجاهلية وقبرشمون. بوجه مَن هذا السلاح؟

وما هي الفزاعات المستجدّة ليبقى السلاح في يد مجموعات مسلحة؟ أمام هذا الواقع، حريّ بالدولة أن تضع استراتيجية دفاعية للداخل. للأسف أظهرت الأحداث، أنّ السلاح متفشٍّ بكثافة في يد فئات عديدة من اللبنانيين دون أخرى، وهذا انتهاك لسيادة الدولة وخطر على السلم الأهلي.

بالطبع ليس كلّ هذا السلاح مرخصا،ً وإن كان مرخصاً، فما هي دواعي منح التراخيص؟ ما هي الفزّاعة الوهميّة؟ لا أحد ينكر أنّ عديد القوى الأمنيّة كافٍ لاستتباب الأمن أقلّه في الداخل إذا لم يحرّم عليهم دخول مناطق أمنيّة.
جاء القرار 1559 كالصاعقة، نتيجة قمّة الرئيسين بوش شيراك في ذكرى النورماندي – 2004، وإن كان التوقيت الظاهر للقرار يتعلّق باستحقاق دستوري، إلّا أنّ مضمونه أضفى طابعاً دولياً ملزماً على جزء من الطائف بموجب المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، حيث جاء في قسمه الإجرائي أنّ مجلس الأمن يطالب جميع القوات الأجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان، ويدعو إلى حلّ جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها.

رافق صدور الـ1559 اغتيال الرئيس الحريري وشخصيات أخرى، انسحاب الجيش السوري وعدوان 2006 بدلاً من أن ينسحب الجيش الإسرائيلي تطبيقاً للقرارات الدولية، شنّ حرباً شرسة ضدّ لبنان انتهت بصدور القرار 1701 كتبنٍ إضافي للقرارين 1559 و1680 وليضع حداً لتسلّح «حزب الله» ولنطاق عملياته.

أمّا طاولات الحوار تحت مظلّة البرلمان ورئاسة الجمهورية فانعقدت تلبيةً لطلب أممي، بهدف إيجاد حلٍ لمسألة سلاح «حزب الله» يحفظ ماء الوجه مع المجتمع الدولي تحت تسمية الاستراتيجية الدفاعيّة. استطاع الأقطاب التوصّل إلى إعلان بعبدا كوثيقة تنفيذية لقرارات الشرعية الدولية من دون الذكر العلني للقرار 1559 الذي يثير حساسية كبيرة.

إنّ تطبيق الـ1559 و1701 يستدعي ملاحظات عدّة. بما أنّهما يهدفان إلى الاحترام التّام لسيادة لبنان وسلامته الإقليمية، إنّ جدّية تطبيقهما تكمن بانسحاب العدوّ الاسرائيلي من الأراضي المحتلّة دون أيّ قيد أوشرط. فالتذرّع بفزّاعة المقاومة يخدم العدوّ كحجّة لتوسيع حزامه الأمنيّ.

وبالتالي إنّ تطبيق هذين القرارين هو غير منطقيّ، حيث يطالبان بنزع سلاح حزب لبناني كأولويّة مطلقة ويغضّ النظر عن انتهاكات الاحتلال والسلاح الآخر وصولاً لحمايته.

وبالتالي، إنّ الوصول حالياً لاستراتيجية دفاعية حسب معايير المجتمع الدولي أمرٌ مستحيل، حيث ليس من الممكن واقعياً إقناع الحزب بتسليم سلاحه للدولة تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن ولمقرّرات مؤتمر روما حول تسليح الجيش. فما الغاية من الاستراتيجية الدفاعية، أهي تطوير الدفاع العسكري بوجه العدوّ؟ واقعياً، إنّ المجتمع الدولي لا يقبل بأيّة استراتيجية دفاعية يكون «حزب الله» فيها شريكاً وهذا ينعكس على تسليح الجيش.

أمّا على المستوى الداخلي، وقبل البحث في استراتيجية دفاعية، الأولويّة لنزع سلاح الميليشيات الأجنبيّة الذي ليس له أيّ مبرّر، إضافة إلى سلاح مخيّمات المهجّرين السوريين المستحدث والذي سيتحوّل في المستقبل المنظور إلى فزّاعة جديدة ستشكّل ذريعة لتسلّح آخرين. أمّا سيادة الدولة فتقتضي بأن تقوم قيادة الجيش برسم سياستها الدفاعية بسرّية تامّة، فالجيش هو المختصّ برسم إطار مشاركة الشعب معه.

أيّة دولة عاقلة تبحث استراتيجية دفاعها في الإعلام وبمشاركة سياسيين حسب تمثيلهم الطوائفي؟

إنّ القرارين 1559 و1701 سيشكلان عقبة جدّية بوجه أية استراتيجية دفاعية تبحث بالشراكة مع المقاومة.

إنّ الديبلوماسية اللبنانية مدعوّة لإلقاء الضوء على التطبيق الكيفي والانتقائي لقرارات مجلس الأمن بدلاً من اعتماد الجواب التقليدي أنّ الحزب هو مكوّن أساسي وممثل في البرلمان والحكومة.

كلّ سلاح يُستعمل في الداخل يشكّل مسّاً لهيبة الدولة ويقتضي القضاء عليه صوناً للسيادة، فسلاح الدولة هو الحامي الوحيد والذي يجب أن يصبح الضمانة لكلّ مواطن في الداخل وعلى الحدود الدوليّة حيث إنّ الدستور اللبناني أناط قرار الحرب والسلم بمجلس الوزراء.