لقمان سليم/لبنان: عن ‘التَّسوية الرئاسية’ وفن مُشاغلة الحلفاء بالخصوم…

94

لبنان: عن ‘التَّسوية الرئاسية’ وفن مُشاغلة الحلفاء بالخصوم…
لقمان سليم/الحرة/18 حزيران/2019

وذَكِّر: «التَّسوية الرئاسية»، في العاميَّة اللبنانيَّة، هي الكناية التي تصالح اللبنانيون عليها للدلالة على التفاهم الإقليمي/الدولي الذي أنهى ما بدأ في أيار/مايو 2014 من شغور رئاسي تلا انقضاء ولاية الجنرال ميشال سليمان في رئاسة الجمهورية، والذي بوَّأ مرشح حزب الله، الجنرال ميشال عون، في تشرين الأول/أكتوبر 2016 هذا المنصب، والذي ضمن لسعد رفيق الحريري أن يُسمى، للمرة الثانية، رئيسا للحكومة اللبنانية.

بالطبع، لم يكن التوصل إلى هذا التفاهم بالأمر اليسير… وأقل دليل على ذلك ما تَقضى من وقت بين ابتداء الشغور الرئاسي وبين انتهائه. بالطبع، أيضا، لم يمر هذا الوقت على لبنان وعلى جيرانه، ولا سيما على سوريا من هؤلاء الجيران، مرور الكرام، بل العكس هو الصحيح: إنما دام الشغور الرئاسي في لبنان ما احتاجت إليه موازين القوى الإقليمية والداخلية من وقت لترجح لمصلحة المحور الذي يرفع حزب إيران في لبنان، (“حزب الله”)، لواءَه، وليسلَّم خُصوم هذا المحور بأنه لا جدوى بعد من منازعة هذا المحور على الرئاسة اللبنانية، وليسلِّموا بأن صفقة يترأس سعد الحريري بموجبها رئاسة الحكومة أدنى ما يكون إلى الارتضاء من الغنيمة بالإياب…

لم تنتظر التَّسوية الرئاسية طويلا لتثبت عرجها، وليحاول أحد الشركاء المركزيين فيها التملص منها بصرف النظر عما تهاداه اللبنانيون في أعقاب الجلسة المسخرية التي انتَخَب خلالها مجلس النواب ميشال عون رئيسا للجمهورية ـ ما تهادوه من مجاملات ومداهنات مُفادها أن انتهاء الشغور الرئاسي بانتخاب عون خارقة لبنانية جَرَت على أياد لبنانية، وأن “الرئيس ميشال عون” مفخرة من مفاخر الصناعة اللبنانية، وبصرف النظر عن السرعة التي كُلِّفَ بها سعد رفيق الحريري تأليف حكومة جديدة، والسرعة القياسيَّة التي ألَّف خلالها هذه الحكومة، (40 يوما).

لم تنتظر هذه التَّسوية الرئاسية طويلا لتثبت عرجها، وليحاول أحد الشركاء المركزيين فيها التملص منها. فمطلع تشرين الثاني/نوفمبر 2017، بعيد أيام من الذكرى السنوية الأولى على انتخاب عون رئيسا للجمهورية بموجب التسوية تلك، من ضيق ذرع بإفراط سعد الحريري في تقديم آيات الطاعة لإيران ولحزبها اللبناني، استدعت المملكة العربية السعودية سعد الحريري، واسْتَقالَتْهُ تلفزيونيا، بالقوة القاهرة، من منصبه.

تسرعت المملكة في ما أقدمت عليه بأن لم تقدر شعار “الحفاظ على استقرار لبنان” الذي تتخذه الديبلوماسيات الغربية، ولا سيما الأوروبيَّة منها، إماما لسياساتها حَق قَدْرِه، وما هي إلا أيام قليلة حتى أفلحت المساعي الحميدة في الإفراج عن الحريري، وفي إعادته إلى لبنان. وإذ اكتفى المستمسكون باستقرار لبنان أن تنفسوا، عند هذه النهاية السعيدة، الصعداء، لا غرو أن ذهب شركاء الحريري اللبنانيون في التَّسوية إلى أبعد من ذلك.

ففشل المملكة في التَّحَكم باستقالة الحريري حَكَمَ على محلها من الإعراب اللبناني، بما فيه التسوية الرئاسية، أن يتقلص إلى أبعد الحدود ـ علاوة على ما أساءه هذا الفشل إلى صورتها، وهذا ما لم يتأخر أولئك الشركاء في الاستثمار فيه. أما سعد الحريري المُسْتقال في الرياض ترميما لمكانة الرئاسة التي يشغلها، فعاد إلى بيروت كسيرا مهيض الجناح، وفوق هذا وذاك عاد عييًّا لا يملك ما يخاطب به أحدا من اللبنانيين، وفي الطليعة من هؤلاء أبناء طائفته السنية.

ولعل عِيَّ الحريري هذا، أي إفلاسه، وإفلاس تياره، على مستوى الخطاب السياسي، مضافا بالطبع إلى نكباته المالية، هو مفتاح الهزيمة النكراء التي مني بها بمناسبة انتخابات 2018 النيابية ـ علما أن هذه الهزيمة لا تُقاس فقط بعدد المقاعد التي خسرها تياره وإنما تُقاس أوَّلا، وقبل أي شيء آخر، بارتضائه خوض الانتخابات بموجب قانون يعرف سلفا، كما سائر اللبنانيين، أنه يحكم عليه بالخسارة.

عَمَلا بالتسوية، عُهِدَ إلى سعد الحريري في أعقاب هذه الانتخابات، أن يؤلف حكومة جديدة. وما هي أن باشر مساعي التأليف هذه حتى تَبَدّى مجددا أن التسوية تلك أدنى إلى قسمة ضيزى لا تعدل بين من يُقْسَمُ عليهم السَّلَب اللبناني، ولا ترى إليهم أندادا متكافئين، وحتى تَبَدّى أن الحكاية لما تزل في أوائِلها، وأن ترئيس ميشال عون فاتحة تنازلات لا مسك ختام التنازلات. وعليه، فلقد اقتضى سعد الحريري أشهرا مديدة، وجرعات متلاحقة من الدعم الدولي الصريح، ليتمكن من تأليف حكومة… قل: من تأليف حكومة بشروط حزب الله، أي حكومة يتولى رئاستها ولا رأيَ حاكما له على سياساتها وقراراتها…

و”من يهن، كما يقول الشاعر، يسهل الهوان عليه”، وهذا ما كان من أمر سعد الحريري الذي وجد نفسه، بعد محنة الاستقالة وبعد الانتخابات النيابية، صفر اليدين إلا مما يسعه أن يقدمه بعد، بوصفه “ابن الشهيد”، من تنازلات عنوانها التخاذل المنهجي عن مواجهة حزب إيران بذريعة الحفاظ على الاستقرار، وهذا ما مضى فيه لقاء “جوائز” تُعينُه، في ما يُقال، على ترميم أرصدته المستنزفة غافلا، أو متغافلا، عن اثنين مَعا: الأول أن الهوانَ الإرادي يُشَهّي بإيقاع المزيد من الهوانِ على الراضي به، والثاني أنَّ دَمَ رفيق الحريري الذي فَقَدَ، لما سالَهُ وتَخَثَّرَه، المرة تلو الأخرى، خلال السنوات الماضية، الكثيرَ الكثيرَ من قيمته الشرائية باتَ أضعف حُجِّيَّة، لا سيما بين أهل السنة، من أن يشفع لسعد الحريري استسهالَه تقديم التنازلات وإيثارَه مصالحه الشخصية على مسؤولياته المفترضة عامة ووطنية.

استسنحَ “العهد” ممثلا بجبران باسيل، الجامِعِ مجد مصاهرة الرئيس عون إلى حقيبة الخارجية إلى رئاسة “التيار الوطني الحر” بما يجعل منه في واقع الحال رئيس جمهورية الظل في دولة “التسوية”، ــ استسنح تلك الغفلة، وراح لا يدع مناسبة تمرُّ ولا ينتهزها ليترجم “استعادة حقوق المسيحيين” ــ الشعار البراق الذي رفعه ذات يوم صاحب العهد والذي مقوله استعادة الموارنة لأنفسهم ما تنازلوا عنه في اتفاق الطائف من صلاحيات لمصلحة السنة ــ إلى أعمال وممارسات بلغت أعلى درجات الصراحة والوضوح خلال انكباب الحكومة، لأسابيع خلت، على وضع مشروع قانون موازنة 2019 حيث أصر باسيل على إظهار نفسه بمظهر المتحكم بـ”الزمن الحكومي” وبأنه، ومن ورائه وزراؤه، صاحب الكلمة الفصل في تقرير استيفاء الموازنة حقها من النقاش أو عدم استيفائه، موحيا بذلك أن دفة الحكم ليست بيد من يفترض به أن يكون رئيسا على السلطة التنفيذية.

والحقيقة أن سلوك باسيل هذا لم يخرج عن منطق استدلالي سديد يبني على مقدمة هي، نظريا، في صلب “التسوية الرئاسية”، وأثبتتها، عمليا، تطبيقات هذه التسوية: بما أن سعد الحريري لا يُمانع في تقديم أي تنازل، لأي طرف كان لقاء البقاء في السلطة، بما في ذلك التنازل لقتلة والده، ففيمَ تراه يتأنف عن التنازل لـ”العهد القوي”؟

ولكن، وإذ انتزع باسيل، رئيس جمهورية الظل، ما أمكنه من تنازلات من رئيس الحكومة، لم يُقَدِّر، على ما يبدو، حق قدره ما يعتمل بين اللبنانيين السنة من امتعاض كان البعض من وجوههم، وليس الأقل منهم، قد سارعوا إلى التعبير عنه يوم أن سلم الحريري سعد بـ”التسوية الرئاسية” وذلك بالمخالفة الصريحة على انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية.

من آنذاك لم ين هذا الامتعاض يتضخم، ولم ين يتلمس سبل التعبير عن نفسه، (انتخابات أيار/مايو 2018 العامة، انتخابات طرابلس الفرعية…)، إلى أن كان ما كان مؤخرا من تضافر جملة ظروف إقليمية ومحلية استجاب سعد الحريري لوطأتها عليه بأن اعتكف في مسقط رأسه، الرياض، لبعض الوقت، ثم بأن عاد إلى بيروت من اعتكافه ذاك الذي وصفه أحدهم بـ”نصف استقالة” محاولا الاستدراك على ما استجلبه على نفسه، وعلى من يفترض بهم أنهم رعاته الإقليميون، بجملة من المواقف البلاغية التي لا بد للواحد/الواحدة من كثير سذاجة، أو حسن نية، ليشتري جدها وليطمئن إلى صدق صاحبها في التمسك بها والعض عليها بالنواجذ ــ أللهم أن تكون أسنان حليبه قد تَبَدَّلَت نَواجِذ.

لقد يدهش، بل ينبغي أن يدهش، أن هذا المشهد اللبناني المتمحور على “التسويَة الرئاسية” يخلو، في كل ما يصدر عنه من جلبة وصخب، من أي حضور علني لحزب إيران في لبنان، ومن أي غمز صريح أو مستتر في قناة هذا الحزب، وكأنه، رغم مكانته المُسْتَفيضة في كل مرافق الحياة اللبنانية، ورغم استيلائه المسلم بها من خصومه قبل الأصدقاء على أخطر ما قد يتهدد لبنان واللبنانيين، أي على قرار الحرب، ــ وكأنه، حزب الله، غير معني، من قريب أو بعيد، لا بـ”التسوية الرئاسية” ولا بما يختلف عليها من منازعات بين أطرافها (بلغت خلال الأسابيع الماضية حدودا لفظية غير مسبوقة).

تسرعت السعودية في ما أقدمت عليه بأن لم تقدر شعار ‘الحفاظ على استقرار لبنان’ الذي تتخذه الديبلوماسيات الغربية لا شك بأن السجال الماروني/السُني على “الحقوق” و”الصلاحيات” يُغْني التحليل التاريخي ذا الصلة بالظروف والملابسات التي وضع اتفاق الطائف في ظلها، ولا شك بأنه يصلح مادة بحثية لطلاب العلوم السياسية في علم “تقاسم السلطة في مجتمع متعدد”، ولطلاب الفقه الدستوري في مبحث “تقنين التعاقدات الاجتماعية التالية على النزاعات الأهليَّة”، وهكذا، بَيْدَ أنه لا شك أيضا أن هذا السِّجال الماروني/السُّني، أقله في صيغته التي يمثل عليها اليوم، ومهما علت ضوضاؤه، ليس بـ”التناقض المركزي” الحاكم على مآلات الأمور في لبنان. فمطالبة “العونية السياسية” باسترداد حقوق مزعومة سليبة وتمسك “الحريرية السياسية”، بصرف النظر عن هوادة سعد الحريري، بصلاحياتها المكتسبة هما، تماما، قواعد لعبة التسوية ــ التسوية واللعبة المُذَيَّلَتَين بتوقيع حزب إيران في لبنان باعتبار أنه من صاغ بنود التسوية، وأنه من قَعَّدَ قواعد اللعبة ومن يُحَكِّمُ مبارياتها.

تختلف الملابسات التي عاد تحتها عون إلى بعبدا، مقر الرئاسة اللبنانية الأولى، والتي عاد تحتها الحريري إلى السراي، مقر الرئاسة اللبنانية الثالثة، ولقد يبدو أن أحدهم اعتلى السدة هابطا إليها من عل، والآخر صعد إليها لاهثا، والحال أن الأمر لا يخلو من صحة، ولكنها صحة لا يطعن فيها أن عون القوي والحريري الضعيف هما، اليوم، شريكان في لعبة لا يملك أي منهما أن يخرج منها أو أن يعدل من قواعدها، وبهذا المعنى فهما متساويان في المرتبة وإن تخالفا في القوة الذاتية، وبهذا المعنى، أيضا، لا شطط في القول إن حزب الله، بإلزامه حليفه “التاريخي”، عون، أن يُلاعب خَصْمَهَ “التاريخي”، الحريري، والعكس، يُعَيِّنُ القَدْر المباح من «السياسة» للبنانيين، ويُرسي لـ”السياسة” في لبنان تعريفا عسكريا مُفاده أنها فن مشاغلة الحلفاء بالخصوم…