حنا صالح/إنه استكمال للانقلاب

56

إنه استكمال للانقلاب
حنا صالح/الشرق الأوسط/29 تشرين الثاني/18

كل الصيغ الحكومية اللبنانية المتداولة تمنح «حزب الله» وفريقه أغلبية مريحة ومرجعية مطلقة في القرار اللبناني. رغم ذلك قرر «الحزب» تعطيل التأليف ما لم يتم توزير نائب من «السُنة» الدائرين في فلكه، فما هي المكاسب الإضافية التي يريدها، وهل توازي الأضرار الجسيمة التي أُلحقت برئاسة الجمهورية وصورة البلد؟ خصوصاً أن رئيس الجمهورية كان قد وعد اللبنانيين بأن حكومة ما بعد الانتخابات هي حكومة العهد الأولى، وهي حكومة الإصلاح ومكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين، وحكومة الاستقرار واستعادة الازدهار؟؟

صورة «العهد القوي» و«الرئيس القوي» تأثرت سلباً كما صورة الرئيس المكلف. رئيس الجمهورية أعلن في الذكرى السنوية الثانية لوصوله إلى الرئاسة أن شرط المشاركة ككتلة نيابية في الحكومة لا ينطبق على الذين شاركوا في المشاورات النيابية كأعضاء في كتل أخرى، وفُهم كلام الرئيس على أنه آخر الكلام، فجاء بعده الأمين العام لـ«حزب الله» ليقول إنه صاحب الكلام الفصل وإنه حتى قيام الساعة لا حكومة من دون تمثيلهم!!

مضى أكثر من شهر على الأزمة الجديدة، وتكليف الرئيس الحريري بتأليف الحكومة أنهى الأسبوع الأول من الشهر السابع، ونجح «الحزب» بما له من فائض قوة بحجز الحكم ومعه البلد في عنق الزجاجة، وكثرت الأسئلة عما تريده طهران من أزمة مفتعلة، لأن مثل هذا القرار لا تمليه اعتبارات محض محلية.

بالتأكيد تريد طهران اليوم تأليف الحكومة التي تخدم مخططها لمواجهة العقوبات الأميركية، ولبنان ساحة أساسية من ساحات هذه المواجهة بعد كل استثمار النظام الإيراني في «حزب الله». كان رهان الملالي كبيراً على نتائج الانتخابات الأميركية النصفية بأنها ستؤدي إلى لي ذراع الرئاسة الأميركية فتنصرف عن متابعة نهج العقوبات فخابت كل هذه الرهانات، فالرئيس الذي لم ينتصر أيضاً لم ينهزم، وباتت معركة العقوبات ضد الحكم المتهم بزعزعة استقرار المنطقة والسلم، حجر زاوية في معركة ترمب لولاية ثانية في 2020. ولأن الرياح في الإقليم لم تعد كلية في خدمة أشرعة الهيمنة الإيرانية، وضع «حزب الله» أوراقه القوية على الطاولة محاولاً فرض الحكومة الطيّعة، في مرحلة تشهد كل يوم تفكيك شبكة متهمة بالإرهاب، في سعي حثيث لتجفيف مصادر التمويل المشبوه مع تراجع عدد حقائب «المال الطاهر» للميليشيات!!

في الدعاية إيران منتصرة في الإقليم، وما زال يتردد صدى قول قديم للسيد نصر الله مفاده أن من ينتصر في المنطقة يؤثر في الوضع اللبناني، وما يشهده لبنان هذه الأيام فيه الكثير من الترجمة لهذه المقولة، لكن المعطيات في المنطقة مغايرة إلى حد بعيد. فمع تقدم قوات الشرعية في الحديدة وهي «كعب أخيل» المشروع الفارسي في اليمن، بعد تقطيع صعدة ومحاصرتها، تكرس تغيّر كبير في ميزان القوى الميداني، والعد العكسي للسيطرة الحوثية بدأ يتسارع. وعندما يكشف نتنياهو عن عرض روسي يقضي بانسحاب الإيرانيين وميليشياتهم من سوريا مقابل تخفيف العقوبات، وتعلن واشنطن بلسان السفير جيمس جيفري المكلف بالملف السوري رفضاً قاطعاً للعرض، لأن المطلوب اقتلاع هذا النفوذ، ولا مقايضة على العقوبات التي يراد منها إرغام النظام الإيراني على تغيير سلوكه، كم تبدو معها «انتصارات» أطراف الممانعة راسخة ومتينة؟

مفهوم أن روسيا التي تحتل الجزء الأكبر من الأراضي السورية، تفاوض باسم النظام السوري وتعرض صفقات وتمنح مناطق نفوذ، لكن أن تقدم عروض مقايضة الوجود الإيراني في سوريا، فالأمر لافت ويستدعي تأملاً، خصوصاً مع تسارع المتغيرات في الموقف الأميركي الذي يشي ببدء بلورة سياسة أميركية جديدة من معالمها الميدانية تعزيز قاعدة التنف، إلى بدء إعمار البنية التحتية وتعزيز القدرة العسكرية لـ«وحدات حماية الشعب»، وإقامة نقاط حماية عسكرية أميركية فاصلة مع الأتراك، ومنع إقامة جسر بري لطهران على الحدود العراقية – السورية… أما الجانب السياسي الأميركي فهو آخذ في التبلور ولحمته وسداه انتهاء زمن القيادة من الخلف، وستمنع أميركا وجود أي فراغ في المنطقة على غرار ما حصل في العراق وليبيا وسوريا، وكمؤشر لافت على هذه السياسة نجد نوعية جديدة من السفراء سيتسلمون مهامهم في بغداد وغيرها بعد تسليم ملف الأزمة السورية إلى فريق خاص يقوده السفير جيفري.
إذن ليست المسألة مجرد توزير سني مقرب من «حزب الله» وحسب، بل أبعد من ذلك، فالبلد يشهد اليوم فصلاً متقدماً في الانقلاب المستمر منذ 10 سنوات، بدأ باحتلال بيروت في 7 مايو (أيار) 2008 الذي أفضى إلى تسوية الدوحة بعد فشل المتدخل القطري مدعوماً من تركيا في إحلال «اتفاق» الدوحة، وهو تسوية طائفية، مكان اتفاق الطائف. تلك التسوية التي تمت تحت شعار تثبيت الأمن واستعادة الاستقرار عطلت الحكم مع انتزاع الفريق المسلح ما عُرف بـ«الثلث المعطل» في مجلس الوزراء، ثم فرض في البيانات الوزارية اللاحقة ثلاثية جيش وشعب ومقاومة، أي تم الإقرار الرسمي بوجود جيشين في البلد!!

في حرب يوليو (تموز) العام 2006 رفض رئيس الوزراء في حينه فؤاد السنيورة ما طرحه عليه وزير خارجية إيران آنذاك منوشهر متكي استبدال المثالثة بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين التي أقرت في الطائف، وقيل إن الطرح تضمن استحداث منصب نائب رئيس للجمهورية يكون للطائفة الشيعية، وبعدها كثُر الحديث عن مؤتمر تأسيسي لوضع دستور بديل للدستور الممنوع من التطبيق في أكثرية بنوده، لكن التطورات التي أفضت إلى التسوية عام 2016 وجوهرها فوز العماد عون مرشح «حزب الله» بالرئاسة، وإن قضت بعودة الرئيس الحريري إلى السراي، فهي فتحت الباب لتسويات لا دستورية، كتكريس أعراف مثل «التوقيع الثالث»، والزعم أن الأمر نوقش في الطائف، وهو يقضي بأن تكون وزارة المالية لشخصية شيعية بحيث تحمل كل قرارات مجلس الوزراء توقيع هذا الوزير إلى جانب توقيعي رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية… إلى الإصرار على التشريع في غياب الحكومة، بعدما كان الرئيس نبيه بري تحدث قديماً عن «دبلوماسية برلمانية»، ما يعني تغييراً جوهرياً في النظام السياسي. واليوم في تأليف الحكومة تم وضع البلد أمام عرف جديد، وهو أن المرجعية لم تعد للدستور بل باتت لميزان القوى، وهو بالنهاية متغير ولا يحمل قوة الدستور. نعم يريد «حزب الله» كمنفذٍ لأجندة خارجية، وفي ذروة المواجهة مع العقوبات الأميركية والتحولات العميقة في أوروبا ضده، أن يقدم نفسه كطرف عابر للطوائف من خلال وزراء ممثلين له: شيعة، سنة، دروز، مسيحيين، ويريد وضع معاييره في كيفية تأليف الحكومة التي تخضع لشروطه، ودورها المحوري تأمين مراسلة بين النظام الإيراني وأميركا، وآخر الهموم ما يتعلق بمصالح الناس والبلد.

لن يتأخر الوقت على المطالبة بوضع نصوص هذه الأعراف، وسيذهب «حزب الله» بعيداً في سعيه، مستفيداً من المحاصصة الطائفية، وابتزاز الآخرين بمقولة «الأمن والاستقرار»… لكن استسلام فرقاء التسوية، لو تم، لا يعني استناداً لتجربة البلد ودروسها القدرة على تركيع الناس. الوقت ليس في صالح «الحزب» وطهران، فربما تسارعت التطورات في الإقليم، وهي مسار بدأ لحظة إطلاق الرياض «عاصفة الحزم».

لا خيار أمام الجديين الاستقلاليين غير الرفض والتمسك بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني، ولا خيار غير المواجهة بكل الأشكال المتاحة دستورياً، فطريق الاستقرار هو طريق استعادة السيادة، واستعادة السيادة ممر إلزامي لاستعادة الازدهار والأمن الحقيقي.