السيد يسين: التخاذل الأميركي المريب في مواجهة داعش/مصطفى كركوتي: إيران وقد باتت تحت المجهر/خالد الدخيل: السعودية والاتفاق النووي

287

السعودية والاتفاق النووي
خالد الدخيل/الحياة/26 تموز/15/
يطرح الاتفاق النووي على المنطقة، وعلى السعودية تحديداً، إشكاليات مختلفة عن تلك التي تهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. إحداها: هل كان للدول العربية، ومن بينها السعودية، دور في الصيغة التي انتهى إليها الاتفاق؟ المساهمة هنا قد تكون بفعل ما، أو بعدم القيام بأي فعل. إذا أخذنا الاتفاق على أنه نتيجة صراع إقليمي ودولي على المنطقة، فهذا يعني أنه نتيجة مساهمة أطراف عدة، تختلف مساهماتها وزناً وأهمية. الدول العربية المعنية مباشرة بالدور الإيراني، وتحديداً السعودية ومصر، هي أحد هذه الأطراف. ساهمت هذه الدول في تمدد الدور الإيراني بما لم تفعله. لم تفعل شيئاً تحسباً لنفوذ إيراني في العراق تحت الاحتلال الأميركي. ربما كان ذلك نتيجة قناعة بأن واشنطن لن تسمح بوجود مثل هذا النفوذ في بلد عربي على حسابها، وحساب حلفائها العرب. ثم فوجئ الجميع بأن واشنطن في عهد الجمهوري جورج بوش الابن، والديموقراطي باراك أوباما، سلمت بهذا النفوذ. فعلت واشنطن ذلك لأنها كانت في حاجة إلى دور إيراني في إدارة هذا البلد تحت الاحتلال. لماذا كانت واشنطن في حاجة لدور إيراني في بلد عربي، وليس لدور عربي؟ قد تكمن الإجابة في القرار الأميركي بتدمير الدولة العراقية بعد الاجتياح مباشرة. جاءت مع الاحتلال طبقة سياسية جديدة (شيعية) لحكم العراق. وهذه الطبقة حليفة لإيران، ولأميركا في الوقت نفسه. كان لا بد من تدمير دولة بدأت مع الهاشميين، واستمرت بعد ذلك مع اليسار والقوميين، وآخرهم البعث. في رأي الطبقة السياسية الجديدة كانت هذه الدولة لسنة العراق. وهي بذلك ستمثل، بجيشها وبيروقراطيتها، عقبة كأداء أمام مشروعها الذي يتمتع بدعم إيراني، وربما بمبادرة إيرانية. كان لا بد من تدمير الدولة وإعادة بنائها على أسس تنسجم مع مرئيات ومصالح الطبقة الجديدة وحليفها الإيراني. والنتيجة نراها الآن: دولة طائفية ضعيفة، ونفوذ إيراني، وميليشيات، وحرب أهلية قد تنتهي بتقسيم العراق. وهو تحديداً ما تريده إيران: عراق ضعيف ومنقسم، يمثل عمقها الاستراتيجي، ولا يشكل تهديداً لها كما كان عليه أيام البعث. أين الأميركيون من كل ذلك؟

السؤال الأهم: أين كانت السعودية ومصر من كل ذلك؟ سبق للراحل الأمير سعود الفيصل أن قال لبرنامج «تشارلي روز» الشهير إن السعودية كانت قد قالت لإدارة بوش الابن بأنه ليست هناك حاجة أو مبرر لغزو العراق واحتلاله، للتخلص من صدام حسين. لكن بوش لم يقتنع بذلك. ولا مفر من الإقرار بأن نتيجة موقف بوش هي أحد المعطيات التي ساهمت في فرض الاتفاق النووي. يتكامل مع ذلك غياب الفعل العربي عن علاقة سورية بإيران منذ أيام حافظ الأسد. لم يتصور أحد كما يبدو أن الطائفية ومبدأ تحالف الأقليات كانا في العمق أساس هذا التحالف بين دمشق وطهران. كانت هناك ثقة في أن عروبة الأسد وقومية حزب البعث لن تسمحا بأن تصبح سورية في يوم ما تحت الاحتلال الإيراني. صحيح أن أحداً في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي لم يكن بوسعه التنبؤ بانتفاضات الربيع العربي، وأن هذا الربيع سيتحول إلى شتاء قارس، وبالتالي ممراً لنفوذ فارسي إلى الشام. لكن الحالة العراقية، وقبلها الحالة الفلسطينية، تكشفان أن غياب الفعل العربي وغياب المبادرة سمة اجتماعية سياسية تأسست على حسابات قصيرة النظر، تفتقر إلى أدنى درجة من الخيال والتصور لما يمكن أن تكون عليه مآلات الأمور والأحداث في مستقبل الأيام. وهذا ناتج عن غياب مشروع للدولة أولاً، وللمنطقة تالياً. ومن ثم ليس مفاجئاً والحال هذه أن تُركت سورية، قبل العراق، لتكون ممراً لإيران إلى لبنان، وأن تنشئ إيران هناك ميليشيا حزب الله على مقاسها وصورتها السياسية والدينية تحت نظر سورية، وأيضاً تحت شعار «مقاومة إسرائيل». قبل الجميع بهذه الميليشيا على هذا الأساس. ثم فوجئوا بأن هذه الميليشيا كانت في الحقيقة أداة لحماية النظام السوري، وحماية تحالف الأقليات الذي تنتمي إليه قيادة النظام، وطبعاً تحت الشعار نفسه، «مقاومة إسرائيل».

غياب الفعل العربي والتصور العربي لمستقبل المنطقة أسس للمساهمة العربية في الاتفاق. في كل مرة يسأل فيها الرئيس باراك أوباما، أو وزير خارجيته، جون كيري، عن سبب إخراجهما للسلوك السياسي لإيران من المفاوضات تأتي إجابتهما واحدة: الأولوية هي منع إيران من الحصول على سلاح نووي. ربط هذا الهدف النووي بالسلوك السياسي سيعقد الأمور، وقد يضعف التحالف الدولي لاختلاف مرئيات أطرافه حول ذلك السلوك، وقد لا نصل في الأخير إلى شيء. وعليه فإن كل ما عدا الهدف النووي يمكن التعامل معه في شكل أفضل بعد إنجاز هذا الهدف كأولوية. ولعل ما قاله أوباما لتوماس فريدمان من الـ «نيويورك تايمز» يختصر رؤية الإدارة لهذا الموضوع. يقول فريدمان إنه خلال المقابلة التي استمرت 45 دقيقة ظل الرئيس يؤكد مجادلة واحدة: «لا تحكموا عليّ من خلال إن كانت هذه الاتفاقية ستحدث تحولاً في إيران، أو ستنهي السلوك العدواني لإيران تجاه جيرانها العرب، أو ستحدث انفراجاً في العلاقة بين السنّة والشيعة. احكموا عليّ من خلال شيء واحد: هل ستمنع هذه الاتفاقية إيران من امتلاك سلاح نووي خلال العقد المقبل؟ وهل هذه النتيجة هي الأفضل لأميركا، وإسرائيل، وحلفائنا العرب، من أي خيار آخر على الطاولة؟»، (نيويورك تايمز، 14 تموز/ يوليو 2015).

هذا يعني أن فصل التقني عن السياسي في المفاوضات التي انتهت بالاتفاق كان متعمداً. أميركا لم تطرح مسألة اعتراف إيران بإسرائيل. وطهران لم تربط تعهدها بعدم امتلاك سلاح نووي بتخلي إسرائيل عن ترسانتها النووية، في إطار جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل. من الناحية التقنية، قدمت إيران كل التنازلات المطلوبة لإنجاز الاتفاق. هل تنازلت الإدارة سياسياً؟ لا. لم تتنازل. لا تزال تعتبر أن إيران تتبع سياسة عدوانية، وتدعم الإرهاب، وتوظف آلية الميليشيا في دورها الإقليمي (من بين مصادر عدة، انظر «نيويورك تايمز»، العدد المشار إليه). في السياق نفسه، تبدو الإدارة نشطة حالياً في التنسيق مع حلفائها في المنطقة لتطوير سياسات الحلفاء وقدراتهم لمواجهة السلوك السياسي الإيراني. كل ذلك صحيح. لكن الصحيح أيضاً أن تعامل الإدارة مع الوضع في المنطقة منذ 2011، ومع إيران تحديداً، لا ينسجم مع ما تقوله الآن. الأمر الذي يترك مساحة واسعة للسؤال. وإذا كان سلوك الإدارة السابق هو لتسهيل التوصل إلى الاتفاق، فالمفترض أن يتغير هذا السلوك بعد الاتفاق. هل سيؤدي رفع العقوبات عن إيران، مثلاً، إلى رفعها أيضاً عن الحرس الثوري و «فيلق القدس»، والميليشيات الأخرى التابعة للحرس، والتي تعتبرها أميركا منظمات إرهابية؟ ثم كيف يتفق أن الإدارة تريد مواجهة السلوك العدواني لإيران، وفي الوقت نفسه تريد دوراً لها في محاربة «داعش»؟ ماذا تقصد الإدارة تحديداً بأنها تنتظر تغيراً في السياسات الإيرانية كإطار لكل ذلك، وكيف؟ هنا يتبدى الفراغ الذي تسبب به غياب الحضور العربي. موقف إيران واضح. مشروعها طائفي. إنما لديها مشروع. على الجانب الآخر غاب العرب عن المفاوضات بقرار عربي. ليس هناك مشروع بديل للمشروع الإيراني. والمثير للدهشة أنه بعد أكثر من أربع سنوات من الانتفاضات الشعبية، والحروب الأهلية، والإرهاب، وتفشي الطائفية، وبعد كل التدخلات الخارجية، من الغزو الأميركي للعراق، إلى تنامي النفوذ الإيراني، ليس هناك أدنى مؤشر على تحرك عربي لمواجهة هذه الحالة الشاذة والخطيرة. والأكثر إثارة للدهشة أن بعض العرب، خصوصاً بعض من ينتمي لـ «التيار القومي العربي»، بات فجأة يتفهم الدور الإيراني، انطلاقاً مما يسمى توازنات القوة والمصلحة. مصر تحاذر الاصطدام مع إيران، ومرتبكة أمام الوضع في سورية. الأردن محشور بين إسرائيل وسورية والعراق. والمغرب العربي يبدو بعيداً مما يحدث في المشرق.

السعودية هي الوحيدة التي تواجه إيران مباشرة في سورية، واليمن والبحرين. وهي محقة في ذلك تماماً. لكنها لا تطرح مشروعاً يلتف حوله العرب، ويتجاوز حدود وقف التدخلات الإيرانية. هنا يبدو أوباما محقاً عندما قال في حديثه إن مواجهة إيران تتطلب تعزيز القدرات العسكرية للحلفاء وإصلاحات اجتماعية وسياسية أيضاً. أمام ذلك تبدو الخطوات المطلوبة للتأثير العربي على تداعيات الاتفاق. منها: أن يكون التحالف ضد «داعش» تحالفاً ضد الطائفية. لا يمكنك محاربة «داعش» والتحالف مع الحشد الشعبي في الوقت نفسه. تشجيع واشنطن على المضي في جعل السلوك الإيراني هدفاً لسياساتها وحلفائها بعد الاتفاق، أن يكون تخلي إيران عن الميليشيا كآلية لدورها شرطاً للحوار معها، إقناع مصر بضرورة مواجهة النفوذ الإيراني، وفصل موضوع «الإخوان» عن المشاركة في إعادة صياغة التحالفات الإقليمية لإعادة التوازن للمنطقة، وحماية للمحيط العربي. مرة أخرى، كل ذلك يتطلب مشروعاً إقليمياً يؤسس لدولة وطنية بطبيعة مدنية، ويسحب الورقة الطائفية من التداول. هناك ورقة أخرى تعتاش منها إيران، هي الورقة الفلسطينية. لا بد من سحبها أيضاً. لا بد من الاستمرار في طريق امتلاك الطاقة النووية. وإذا قررت إيران امتلاك سلاح نووي فلا بد من امتلاكه أيضاً. ستقول هذه مطالب كثيرة. صحيح، لكنك ستفاجأ بأنه ليس كل المطلوب. هذا نتيجة ترك الأمور تتراكم عاماً بعد آخر، وأزمة بعد أخرى.

التخاذل الأميركي المريب في مواجهة «داعش»
السيد يسين/الحياة/26 تموز/15/
أصدر رئيس أركان حرب الجيش الأميركي بياناً بالغ الغرابة أثار الدهشة الشديدة لدى عديد من المحللين السياسيين والمفكرين الاستراتيجيين. فقد قال إن مواجهة «داعش» عسكرياً بالغة الصعوبة، وأنه يتوقع أن تستمر هذه المواجهة حين تبدأ من عشر سنين إلى عشرين سنة!وإذا كان صاحب هذا التصريح هو قائد أقوى الجيوش العالمية بإجماع الخبراء العسكريين وهو الجيش الأميركي، فإن ذلك يثير العديد من التساؤلات المهمة. وليس أدل على قوة الجيش الأميركي من مقارنة البحرية الأميركية ببحرية كل الدول الأوروبية مجتمعة. سنجد – كما سبق للكاتب الأميركي بول كنيدي صاحب الكتاب الشهير «صعود وسقوط القوى العظمى» أن أميركا تملك على الأقل سبع حاملات طائرات في حين أن الجيش الفرنسي يملك بالكاد حاملة طائرات واحدة! وقد وصف في مقالة التشكيل العسكري لحاملة الطائرات الأميركية والتي تضم عشرات الطائرات وألوف الجنود من مشاة البحرية إضافة إلى عشرات سفن الحراسة. ومعنى ذلك أن حاملة الطائرات الأميركية تتحرك وكأنها جيش متكامل متحرك.

ولو نظرنا إلى الموازنة العسكرية للجيش الأميركي سنجد أنها تفوق كل موازنات الدول الأوروبية مجتمعة، وأنها تمثل أكبر موازنة عسكرية في التاريخ! والسؤال المحوري كيف – والحال هكذا – يعجز هذا الجيش الأميركي المهول بحاملات طائراته وصواريخه ودباباته ومشاته عن مواجهة عصابة «داعش» الإرهابية، والأنكى من ذلك -كما قرر رئيس الأركان الأميركي- أن المسألة تحتاج إلى عشرين عاماً كاملة للقضاء عليها؟ ولذلك ينبغي أن نقف طويلاً بالتحليل النقدي امام هذا التصريح المريب!

هل هو تصريح سياسي يخفي وراءه عدم رغبة الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة «داعش» لأن لها مصلحة ما في استمرار تمدد التنظيم، سواء في سورية والعراق أو قفزه إلى ليبيا واليمن وغيرها من البلاد العربية، لأن هناك هدفاً استراتيجياً أميركياً هو التمزيق النهائي لخريطة العالم العربي، وهدم دوله وتحويلها إلى دويلات وقبائل متحاربة حتى تصبح إسرائيل هي الدولة العظمى في إطار رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط؟ هل المبرر هو ضمان الهيمنة الكاملة على الدول العربية النفطية ضماناً لتدفق النفط في ظروف غير مؤاتية لهذه الدول؟
في تحليلي النقدي لهذا التصريح الغريب – والذي يعلن مسبقاً الهزيمة الأميركية أمام عصابات «داعش» – آثرت أن أعود إلى «نظرية الجيل الرابع للحروب» التي تتردد كثيراً في التحليلات الاستراتيجية المعاصرة لتفسير سلوك الجماعات الإرهابية التي تطبق استراتيجيات وتكتيكات حربية جديدة سمحت لها بتحقيق انتصارات مشهودة ضد جيوش نظامية. ولعل نموذج تمدد «داعش» في سورية كان يمثل المشهد الأول وإن كان يعد مشهداً غير ممثل – إن صح التعبير- لأن تمدد «داعش» في سورية تم بعد انهيار الدولة السورية بعد الثورة التي قامت ضده والتي أدت في الواقع إلى حرب أهلية بين فصائل متعددة متناحرة، بحيث لا يمكننا أن نقول إن الجيش السوري هزم أمام عصابة «داعش»، لأن الأطراف الضالعة في الحرب متعددة ومتنوعة في خلفياتها الإيديولوجية وعقائدها وأنماط تحالفاتها، سواء مع دول غربية أم دول عربية. ولذلك يمكن القول إن المشهد النموذجي تمثل في امتداد «داعش» إلى العراق بعد إعلان «الخلافة الإسلامية» المزعومة ونجاحها في احتلال مساحات شاسعة ومدن استراتيجية عراقية حتى أن هذه العصابات «الداعشية» أصحبت تهدد العاصمة بغداد!
هل صحيح أن الجيش العراقي هزم في المعركة أم أنه انسحب أمام «داعش» نتيجة تآمر وتواطؤ قياداته العسكرية التي لم تستطع أن تدافع عن شرفها العسكري أمام شراذم من العصابات الإرهابية؟ وهل صحيح أن هذا الجيش العراقي المزعوم الذي شكلته ودربته وأنفقت عليه أميركا ملايين الدولارات – بعد أن سرحت الجيش العراقي بعد غزوها الإجرامي للعراق – لم يستطع أن يدافع عن أرض بلاده؟

لقد حاول الخبراء الاستراتيجيون تفسير نجاحات «داعش» بأنها التعبير الأمثل لما أطلقوا عليه «الجيل الرابع من الحروب». وأصحاب هذه النظرية يقسمون الحروب الحديثة إلى أربعة أجيال. الجيل الأول هو الحروب الكلاسيكية بين الدول، والجيل الثاني نشأ بفضل التكنولوجيات التي اخترعت في القرن التاسع عشر والتي سمحت بإنتاج أسلحة لها قوة نيران عالية غير مسبوقة، وقد يكون اختراع «المدفع الرشاش» أحد وسائل هذه الحرب والتي غيرت مسار الحروب لأنها أعطت كتائب المشاة قوة نيران غير مسبوقة. والجيل الثالث شهد تطوراً ملحوظاً قام على أساس الهجوم المفاجئ Blitzkrieg الذي اشتهر به الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية. أما الجيل الرابع من الحروب فيتسم بسمات جديدة مختلفة عن كل الحروب السابقة، وهي الحرب التي يمكن في تعريفها اعتبار أنها صورة متطورة من صور التمرد المسلح.

هي حرب لا تمييز فيها بين «العسكري» و «المدني» وهي لا تمارس في ميدان محدد للمعركة Battlefield كما كان الحال في الحروب السابقة حين تذكر مثلاً معركة ستالينغراد والتي هزم فيها الجيش السوفياتي الجيش الألماني ورده على أعقابه وطارده على مستوى أوروبا كلها حتى وصل إلى برلين واحتل قسماً منها. ولكن حروب الجيل الرابع تمارس في ما يطلق عليه «فضاء المعركة» Battle Space ولعل المساحة الشاسعة بين سورية والعراق التي تمدد فيها تنظيم «داعش» تمثل خير تمثيل هذه الفكرة. وذلك لأن معارك «داعش» لم تحارب في إطار ميدان معركة محدد الملامح ولكنها مورست في هذا القضاء الشاسع. وإذا أضفنا إلى ذلك أنه من بين ملامح حروب الجيل الرابع استخدامها البالغ الذكاء للعالم الافتراضي من خلال الترويج لعقائدها ونشر صور مذابحها للرهائن لبث الرعب في النفوس على شبكة الإنترنت، لأدركنا أن وصف فضاء المعركة وصف بالغ الدقة حقاً، لأن هذا النمط الجديد من الحروب لا يحارب على الأرض فقط ولكن يحارب في الفضاء من خلال غزو عقول البشر لجذبهم إلى صفوف المقاتلين الإرهابيين. ولعل ما يؤكد ذلك أن مقاتلين إرهابيين من جنسيات متعددة ومن بينها جنسيات أوروبية سافروا إلى سورية والعراق للانضمام إلى عصابات «داعش». في ضوء هذا التحديد الدقيق للسمات الفارقة لحروب الجيل الرابع يمكن القول إن هناك صعوبة حقيقية للجيوش النظامية في مواجهة العصابات الإرهابية لأن المقاتلين يختلطون بالمدنيين في فضاء المعركة من ناحية، ولأن الجيوش النظامية غير مدربة على ممارسة حرب العصابات كما ثبت في هزيمة الجيش الأميركي في كل من فيتنام وأفغانستان والعراق. ولكن تحدي الجيل الرابع من الحروب يمكن مواجهته -في ضوء الإرهاب المعولم – بأن تغير الجيوش النظامية- ومنها الجيش الأميركي عقائدها العسكرية وأن تنحي جانباً المدرعات والطائرات والغواصات وأن تدرب قوات المشاة وكأنها «قوات صاعقة» تتميز بخفة الحركة والقدرة على المناورة. هكذا تحدث بعض كبار الخبراء الاستراتيجيين عن الطريقة الفعالة لمواجهة «داعش» وهذه الفكرة تحتاج إلى مناقشة أعمق في المستقبل القريب.

إيران وقد باتت تحت المجهر
مصطفى كركوتي/الحياة/26 تموز/15
باتت إيران محط أنظار العالم بعد توقيع اتفاق الملف النووي مع المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة، إذ يُنتظر منها، أو هكذا يُعتقد، أن تتحول «قوةً للخير» تبتعد عن سياستها المغامِرة بدعمها أنظمة متهاوية، أو مشاريع أنظمة فاشلة، أو إرهاباً أعمى، لا تُثمِر غير الدمار. هذه هي التوقعات المنطقية لنهج إيران ما بعد الاتفاق، لا سيما بعد إذعانها لشروط المفاوض الدولي والغربي، على رغم ما قاله زعيمها الروحي خامنئي من أن بلاده ستواصل سياستها ضد «الاستكبار والغطرسة». فكأن خامنئي يؤكد ضمنياً تنازل بلاده أمام الغرب، ولكن على رغم ذلك، «فإننا» لن نتوقف عن معاداة «الاستكبار والغطرسة»، العبارة التي باتت ممجوجة منذ زمن، وفقدت أي معنى لها، والتي تعيد إلى الأذهان مقولات مماثلة رددها قادة عرب كثيرون بعد هزائم متكررة أمام إسرائيل.

لكن يبدو أن خامنئي لا ينتبه لاضطرار أستاذه الراحل آية الله الخميني إلى وقف أطول حرب في القرن العشرين، حرب الثماني سنوات مع العراق في 1988، حين شبّهه بـ «تجرّع السم». في كل الأحوال يقدم الاتفاق لإيران فرصة تاريخية لتحسين موقفها في المنطقة عموماً ومع جيرانها في الشاطئ المقابل من الخليج خصوصاً. ويفترض أن يساعد طهران على اتخاذ خطوة حيوية أخرى، غير التوقيع على الاتفاق، تكون ذات طبيعة استراتيجية مهمة تجاه عرب المنطقة. فالآثار التي يتركها نفوذ إيران في الأحداث واضحة المعالم من دون لبس في أربع عواصم عربية على الأقل. ففي دمشق وبيروت تشكل قوة طهران ونفوذها عاملاً مصيرياً لا جدال حوله في المستقبل السياسي لسورية ولبنان. فطهران تحقن منذ 2011 بلايين الدولارات في شرايين نظام الرئيس بشار الأسد الفاقد الصلاحية والمكروه من قسم كبير من شعبه. كما تدعم وتحتضن الدور الداعم للأسد الذي تلعبه ميليشيا «حزب الله» وزعيمها حسن نصر الله. وفي بيروت تُمسِكُ الميليشيا ذاتها برقبة لبنان كرهينة في يدها وتحول دون قيام ممثلي اللبنانيين في البرلمان بلعب دورهم الدستوري باكتمال النِصاب القانوني لانتخاب رئيس للبلاد. فقد فشل مجلس النواب في جلسة الأربعاء (15/7/2015) في انتخاب رئيس للمرة السادسة والعشرين، إذ مضى على لبنان الآن، وهو من دون رئيس جمهورية، نحو من 430 يوماً، ما يزيد تعريض البلاد لمزيد من الاحتقان السياسي والطائفي، وذلك في بلد «يسير على كف عفريت» في منطقة لا حدود لأخطارها.

على صعيد آخر، يبدو أن دور إيران في العراق تقسيمي وغامض في أحسن الأحوال. فلم يعد سراً كيف أن دعم سياسة رئيس الحكومة السابق نوري المالكي الطائفية التوجه، وإصرار «الحرس الثوري» على التمسك بها، ساهما لسوء الحظ في خلق شروط ولادة تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) وانتشاره السريع والواسع في مناطق الأنبار وحتى الموصل، المدينة الثانية في العراق. ومن المحزن أيضاً العبث القاتل الذي لا تتوانى طهران عن بث لهيبه في اليمن عبر تقديم المساعدات من دون حدود لميليشيات الحوثي وعساكر الرئيس السابق علي عبدالله صالح. فهذا الدور لم يلهب فحسب حرباً أهلية شرسة بين اليمنيين، بل حفر شرخاً في جسد اليمن الاجتماعي والسياسي قد تطول وتصعب معالجته. فإيران تعبث في حرب دامية في بلد بعيد جداً عن حدودها ولا مستقبل لطهران فيها ما عدا طعن السعودية في ظهرها.

فهنا الآن، مع الاتفاق حول الملف النووي، ثمة فرصة لفتح أكثر من باب للتعاون وليس المواجهة. وهذا يعني شيئاً واحداً فقط وهو اتخاذ طهران خطوات وإجراءات لتطبيع علاقاتها مع بقية دول العالم. فالاتفاق، إذا ما نُفذ بحكمة، يضعها لأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود، على طريق التحول قوةً للخير في المنطقة وما وراءها. لكنْ كي يحدث هذا، على إيران في المقام الأول وعاجلاً أن تطمئن جيرانها المباشرين، لا سيما القوى المكونة لـ «التحالف العربي» التي تخوض حرباً دفاعية في اليمن، في شأن نواياها المستقبلية. ويتوقع كثيرون أن تقوم إيران بعد توقيعها على الاتفاق بإعادة ترتيب أولوياتها: فهل هي الاهتمام بالتنمية وإخراج البلاد من حالة الإنهاك الشاذة، أم الاستمرار في السياسة الطائشة هنا وهناك والاستمرار بحربٍ لا مستقبل سياسياً أو أمنياً لها؟ فدول مجلس التعاون الخليجي الست رحبت بدرجات مختلفة بالاتفاق النووي، إذ رأت فيه أساساً واقعياً ليس على الجبهة الأمنية فحسب، بل الأهم لما يشكله من فرص كبرى للتعاون الاقتصادي والتجاري مع إيران بجيلها الشاب المتطلع نحو الانفتاح على العالم وليس الحرب معه.

وتتطلع دول مجلس التعاون نحو منطقة مستقرة في الخليج والشرق الأوسط. ومن الطبيعي أن تشعر بقلق مصيري في هذه المرحلة التي شهدت في السنوات القليلة الماضية تدميراً شبه كامل لاثنين من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، سورية والعراق، وانحسار إمكانية أي دور إقليمي واسع لأكبر دولة عربية، مصر. لذلك، يتعين على القيادة الإيرانية بكل مكوناتها طمأنة جيرانها العرب حول نواياها في الأشهر والسنوات المقبلة. ويتوقع جيران إيران باعتبارها الدولة الأقوى (بعد إسرائيل) في الشرق الأوسط وشرق آسيا، اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتخفيف التوتر في المنطقة والإسهام العاجل في وضع حد لاتساع الحرب المتوحشة في سورية والعراق واليمن وردعها عن لبنان.
فهل إيران قادرة على التغير؟