الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري: في الذكرى الثانية والعشرين لاحتلال الجنوب وتفريغه من أبنائه..أتتذكّرونهم؟.. أنا أتذكّرهم، وربّما أنا الوحيد

678

في الذكرى الثانية والعشرين لاحتلال الجنوب وتفريغه من أبنائه..أتتذكّرونهم؟.. أنا أتذكّرهم، وربّما أنا الوحيد
الكاتب والمخرج يوسف ي. الخوري/25 أيار/2022

بالأسماء، بالوثائق، بالوقائع، بالتواريخ، بكلّ الدلائل والقرائن، كان الرائد سعد حدّاد يدين الذين اتّهموه بالخيانة، فيُثبت أنّهم هم الخونة، وهم تجّار الدماء والأرض والشعب والمصير. (عن بعثة جريدة “صوت الأحرار” لمقابلة الرائد سعد حدّاد – أواخر السبعينيّات).

بعد مشاهدتها مقابلتي الأخيرة على “صوت بيروت أنترناشيونال”، اتّصلت بي صديقة لتقول لي بالحرف: “لِمَا لا تزال تحمِل على ياسر عرفات ومنظّمة التحرير طالما أنّ الذين حاربوهم طَوُوا الصفحة؟” فأجبتها ساخرًا: “وكيف تكون الصفحة قد طُوِيَت ولم تُحلّ بعد قضية أفراد وعائلات جيش لبنان الجنوبي المُبعدين قسرًا إلى إسرائيل!!؟”

بالطبع لم تجرؤ صديقتي أن تقول لي أنّ الجنوبيين هؤلاء هم “عُملاء” لإسرائيل، لأنّها مطّلعة جيّدًا على موقفي من هذا الموضوع، ولأنّها بمكان هي مصدّقة ومنجرّة وراء كذبة ما يُسمى بـِ “يوم التحرير” مثلها مثل باقي اللبنانيين الذين تأخذهم البروباغندا ولا يستهويهم البحث عن الحقيقة، إذ يُفضّلون “الطبخات” المفبركة في أروقة “تجّار الدماء”، كما أسماهم الرائد سعد حدّاد، والتي تصلهم جاهزة عبر أبواق هؤلاء التجّار الخونة، ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، الممسوكة من جماعاتهم.

يروق لي اليوم، في ذكرى تحرير الجنوب من أبنائه، أن أُضيء على بعض الأخبار التي من شأنها الايضاح كيف أنّ اللبناني هو باستمرار ضحيّة تشويه وتزوير وفبركة للوقائع، بنيّة إخفاء الحقائق عنه وقلبها رأسًا على عقب، حتّى يُصبح بنظره البطل “متخاذلًا”، والشريف من الناس “عميلًا”، والخائن المتآمر “وطنيًّا”، وما أكثر حضور هؤلاء المتآمرين في السلطة اليوم.

في مقابلته مع جريدة “صوت الأحرار”، يسأل الرائد سعد حدّاد: “لماذا لم يكن الرائد حدّاد خائنًا عندما هوجمت الفيّاضيّة (شباط 1978) واستنجدت قيادة الجيش به ليساعدها ويفك حصار السوريين عنها؟”

وقع الصدام يومذاك بين الجيش اللبناني والجيش السوري في منطقة الفيّاضيّة ومحيطها، ولمّا اشتدّ حصار السوريين على الجيش اللبناني، اتّصلت قيادة الجيش بالرائد حدّاد لمساعدتها، فقال بإنّ ليس بمقدوره أن يصل إلى منطقة الاشتباكات في الوقت الحاضر، لكنّه سيطلب المساعدة من إسرائيل. فكان جواب القيادة “اعمل ما تُريد، المهم أن تخلّصنا”. وهكذا كان، اتّصل الرائد حدّاد بالإسرائيليين، وبعدها أرسل ضابطُ الارتباط الإسرائيلي رسالة صوتيّة على الجهاز إلى قيادة الجيش اللبناني قائلًا: “أنا ممثّل جيش الدفاع الإسرائيلي المقدّم يورو المعروف بجعفر، نحن مستعدّون لمساعدتكم، أطلبوا ما تشاؤون وما تُريدون منّي”. على أثر هذه الرسالة، التي سرّبها الإسرائيليون عمدًا لعمليات القيادة السوريّة في زحلة، توقّف القتال فورًا، إذ أدرك السوريون خطورة الوضع في حال تدخّلت إسرائيل.

يقول النقيب في قوى الأمن الداخلي، غسّان الحمصي، وهو الرجل الذي نظّم، بأوامر من قيادة الجيش اللبناني، المقاومة ضدّ الفلسطينيين في الجنوب قبل تسليمه شعلتها للرائد حدّاد، وانتقاله ليكون بتصرّف قيادة الجيش في اليرزة، يقول الحمصي (عن معركة الفيّاضيّة) إنّ السوريين كان في نيّتهم احتلال وزارة الدفاع والقصر الجمهوري وإنهاء الشرعيّة اللبنانيّة، ما دفعه إلى تحريض قائد الجيش فيكتور خوري على الانقلاب على السلطة اللبنانيّة، لقطع الطريق على السوريين ودفعهم للتفاوض مع الجيش كسلطة جديدة. فيكتور خوري وافق على الخطة، لكن ليس قبل أن ينقطع الاتصال نهائيًّا بين قيادة الجيش والرئيس الياس سركيس. في هذه الأثناء، اتّصل الحمصي، بعلم وموافقة قائد الجيش، بسعد حدّاد وطلب المساعدة، ويقول، في مذكّراته غير المنشورة، إنّ الرائد حداد طمأنه بعد فترة وجيزة عبر اللاسلكي قائلًا: “إلى أحمد، النسور ستحلّق فوقكم لا تخافوا…”

وبالفعل حلّق بعدها الطيران الإسرائيلي فوق منطقة الاقتتال، وفورًا أوقف السوريون قصفهم المدفعي الوحشي. بعدها صار السوريون يبحثون عَمّن اتّصل بالإسرائيليين حتّى تدخّلوا، فنصح قائد الجيش النقيب الحمصي بالتواري، فلجا إلى كسروان ونجا بحياته قبل مداهمة السوريين منزله بساعات.
ما قام به النقيب الحمصي مع الرائد حدّاد، أخّر اقتحام السوريين القصر الجمهوري لإنهاء الشرعيّة اللبنانيّة اثني عشر عامًا، ليُعيدوا الكرّة في 13 تشرين الأوّل 1990، لكن هذه المرّة بمؤازرة الطيران الإسرائيلي.

وعن تآمر السوريين على جنوب لبنان، يقول الرائد سعد حدّاد إنّه بعد اتّفاق كامب دايفيد جرت مفاوضات سرّية بين إسرائيل وسوريا لضمّ الأخيرة إلى عمليّة السلام، وكان يقودها من الجانب السوري عبد الحليم خدّام. وقد أبرز الرائد حدّاد لبعثة “صوت الأحرار”، المُشار إليها أعلاه، وثائق تؤكّد أنّه شاهد بأمّ العين خدّام في إسرائيل، وقد أُتيح له، أيّ لحدّاد، أن يستمع إلى الحوار بين الفريقين، والذي فيه كان عَرْضُ خدّام للإسرائيليين كي تنضم سوريا إلى عمليّة السلام، أن تتخلّى إسرائيل عن جنوب لبنان للسوريين مقابل أن تتنازل سوريا عن الجولان نهائيًّا وتقبل بالسلام مع إسرائيل. حينها ضحّى الإسرائيليون بالسلام ولم يقبلوا بترك الجنوب، وهذا ما أخّر احتلال جنوب لبنان وطرد أبنائه واحدًا وعشرين عامًا، لتنسحب بعدها إسرائيل باتّفاق سرّي مع حزب الله بواسطة الألمان، وممّا جاء في متنه أنّ إسرائيل تتكفّل بسحب عناصر وعوائل جيش لبنان الجنوبي معها، مقابل عدم تعرّض حزب الله للقوافل المنسحبة إلى خارج الحدود اللبنانية.

تآمُر الإسرائيليين على جيش لبنان الجنوبي، أسهب في الحديث عنه الكاتب الإسرائيلي Aharon Amir في كتابه ”The Black Book of Southern Lebanon: Joke, Betrayal and shame”، كما تناول الكاتب الإسرائيلي Mordakay Nissan في كتابه ” Politics and War in Lebanon”، وثيقة الاتّفاق بين الحزب وحكومة باراك نقلًا عن صحيفة Der Spiegel الألمانية.

إنّ المُلفت في عمليّة التناغم بين إسرائيل وحزب الله هو أنّه في فترة الانسحاب من لبنان، كان رئيس إسرائيل “موشيه كاتساڨ” من أصول إيرانيّة، ورئيس أركان جيشها “شاوول موفاز” من أصول إيرانيّة ايضًا.

وقبل أن أختم، رواية أخيرة عن الضابط المتمرّد أحمد الخطيب الذي قسم الجيش اللبناني عام 1975. لمّا وجد هذا الأخير أنّ حركته الانفصاليّة عن الجيش لا آفاق لها، لجأ إلى النقيب غسّان الحمصي، باعتبار أنّ الإثنين هما من الدورة الحربية نفسها، طالبًا الالتحاق بدولة لبنان الحرّ، وهو أيضًا عرض الأمر ذاته على الرائد سعد حدّاد، وكان الأخير كاشفًا أنّ الخطيب يتواصل مع الإسرائيليين، لكنّ الحمصي وحدّاد رفضا ضمّه لأنّهما يعتبرانه أُلعوبة بيد منظمة التحرير الفلسطينيّة.

نصل إلى اليوم، سعد حدّاد جُرّد من رتبه بحجّة أنّه يتعامل مع إسرائيل، مع العلم أن معركة الفياضيّة رُقي بنتيجتها فيكتور خوري إلى رتبة عماد ووُعد برئاسة الجمهوريّة. النقيب غسّان الحمصي متواري لا أحد يعرف أرضه، مجرّدًا من رتبه العسكريّة وتعويضاته، وهو متّهم بمحاولة الانقلاب على الدولة والتعامل مع إسرائيل جرّاء ما قام به لإنقاذ الشرعيّة اللبنانيّة في معركة الفياضيّة. أحمد الخطيب مات خطيبًا على منابر تيار المستقبل و14 آذار، محافظًا على كلّ ترقياته وتعويضاته. حزب الله يحتفل اليوم بِـ “يوم التحرير”، وجيش سعد حدّاد الذي حمى الجنوب من شرور وانتهاكات منظّمة التحرير، أفرادُه مشرّدة في أصقاع العالم. برلمان جديد سيُفتتح في غضون أيّام، تنافس على مقاعده ألف وثلاثة وأربعون مرشحًا لم يجرؤ واحد من بينهم على ذكر قضية المهجّرين قسرًا إلى إسرائيل، ومعظمهم يدّعون السيادة والتغيير ومواجهة حزب الله.
لا أحد يذكر أو يتذكّر، أما أنا فلم أنساهم… وأعرف.