د. خطار أبو دياب/تداعيات الحدث الأفغاني وكسوف العصر الأمريكي

55

تداعيات الحدث الأفغاني وكسوف العصر الأمريكي

 د. خطار أبو دياب/نداء بوست/20 آب/2021

سيذكر التاريخ يوم الخامس عشر من آب/ أغسطس 2021، يوم دخول حركة طالبان كابول عاصمة أفغانستان، وسيذكر أن الانسحاب العسكري الأطلسي من هذا البلد يمكن أن يسجل بداية نهاية العصر الأمريكي، ومما لا شك فيه أنه من المبكر استخلاص كل الدروس من الحملة الأمريكية في أفغانستان، لكن الانعكاسات الآنية لهذا الحدث في الداخل والجوار، ستطبع المرحلة القادمة من العلاقات الدولية وسيكون لها آثار على الدور الأمريكي وأدوار القوى الدولية والإقليمية في “الشرق الأوسط الكبير”.

تسارعت الأحداث منذ إعلان واشنطن عن بدء انسحابها العسكري في نيسان/ إبريل الماضي من هذه الدولة المتميزة بموقع جيواستراتيجي يربط شرق وغرب وجنوب ووسط آسيا.

عبر التاريخ كان هذا البلد الحبيس عرضة لانقسامات عرقية بين مكوناته ومسرحاً لأطماع وصراعات دولية وإقليمية، وللتذكير كانت أفغانستان رغماً عنها مسرح «اللعبة الكبرى» في القرن التاسع عشر بين الإمبراطوريتين البريطانية والروسية اللتين تنافستا على شبه الجزيرة الهندية وآسيا الوسطى. وكما كانت أفغانستان عصية على الغزاة وعلى وجود تلك الإمبراطوريات ، كانت أيضاً في القرن العشرين مصيدة الاتحاد السوفياتي السابق وها هي في القرن الحادي والعشرين تبعد وجود الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة.

أسفرت المغامرة الأميركية التي دامت عقدين من الزمن عن تراجع عسكري (اللافت أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن اعتبر أن أهداف واشنطن تحققت!)، والأدهى أن سقوط

كابول يفتح الباب عملياً لنهاية عصر الأرجحية الأميركية حول العالم. من ناحية التسلسل التاريخي فإن القرن العشرين كان ” القرن الأميركي” الذي بدأت معالمه منذ مشاركة واشنطن في الحرب العالمية العظمى الأولى وصولا إلى الأربعينيات من القرن الماضي ، حين أتت الولايات المتحدة لتساعد في تحرير أوروبا الغربية من آلة الحرب النازية، وما تلاها من إتمام هزيمة الإمبراطورية اليابانية . وحاليا بعد ثمانين عامًا ، تضطر ” الإمبراطورية الأميركية” للتراجع أمام ميليشيا في بلد من أفقر بلدان العالم. والغريب أن بعض مشاهد الانسحاب من سايغون ( فيتنام) في ١٩٧٥ تكاد تتكرر في أفغانستان خاصة مع الحشود اليائسة التي تسعى للهرب بأي ثمن. وهذا الاتجاه يذكرنا أيضا بانسحاب المارينز من بيروت في ١٩٨٤ بعد عملية انتحارية نفذها جهاديون موالون للجمهورية الإسلامية الإيرانية . وفي نفس سياق الحسابات الخاطئة لواشنطن كان الانسحاب الأميركي من العراق في ٢٠١١ والذي مهد لاحقاً لظهور تنظيم ” داعش”. ولذا بمعزل عن الشكوك أو نظريات التآمر يصح التساؤل عن كيفية تنفيذ الإستراتيجية العسكرية و كيفية استغلال القدرات الاستخباراتية للولايات المتحدة. ومن دون شك أن النهايات الصعبة من فيتنام إلى العراق وأفغانستان تدل على أن الولايات المتحدة تملك الإمكانات العسكرية والمادية من أجل السيطرة والتمركز ، لكنها تفشل في ” بناء الدول” وإعادة تكوينها ربما بسبب زيادة الثقة بالنفس أو الغطرسة والأهم بسبب عدم المعرفة الكافية بالتاريخ والتركيبات والبنى القبائلية والعامل الديني . ويبدو بالنسبة لافغانستان أن الاستراتيجيين أو الأمنيين الأميركيين (وقبلهم السوفيات) لم يقرؤوا ما قاله الأمير شكيب أرسلان عن الأفغان: ” لو لم يبق للإسلام في الدنيا عرق ينبض لرأيت عرقه بين سكان جبال الهملايا والهندكوش نابضاً ، وعزمه هناك ناهضًا!”.

مهما كانت التقييمات لنتاج الوجود الأميركي في أفغانستان ، وتحليل البعض بأن الانسحاب ربما يكون مدروسا لكي تبدأ ” لعبة دولية جديدة” تنغمس فيها خصوم الولايات المتحدة ، الأرجح أن الحقيقة التاريخية بعد عقود من الآن ، ستشير إلى أن الولايات المتحدة عانت خلال ما أطلق عليه جورج دبليو بوش “الحرب على الإرهاب” . إذ إنه بالرغم من مشاركة الناتو وحلفاء آخرين لها، لم تتمكن أدوات وتكتيكات أميركا الهائلة من إلحاق هزيمة ساحقة بحركة طالبان طوال عشرين عاما.

من التداعيات المباشرة للتحول الأفغاني تبيان عدم قدرة الغرب على الحسم في معركة أرادها معركة الديمقراطية ضد الجهادية، ولهذا بالرغم من وعود طالبان خلال حلقات التفاوض في الدوحة عن عدم جعل أفغانستان من جديد مركزاً للاستقطاب الجهادي، لا توجد ضمانات نهائية بهذا الخصوص.

ومن الدروس المستخلصة بعد الحملتين العراقية والأفغانية عدم القدرة على بناء دول أو إنشاء جيوش في بلدان معقدة التركيب وخاضعة لتدخلات خارجية مثل التغلغل الإيراني في العراق أو التأثير الباكستاني في أفغانستان . ومن الانعكاسات الأخرى تدهور صورة وهيبة وصدقية الولايات المتحدة حول العالم خاصة أن الارتباك طغى على الأداء العسكري والدبلوماسي. ومن دون شك أن التراجع الكبير للولايات المتحدة من أفغانستان يمثل إهانة أقل من انسحاب الاتحاد السوفيتي في عام 1989، وقد أسهم ذلك في نهاية إمبراطوريته.

لا يمكن حاليا الإحاطة بكل تداعيات الحدث الأفغاني، لكن التراجع الأميركي والانكفاء الأوروبي سيكونان من علامات المرحلة القادمة حيث ستصبح ” اللعبة الكبرى” الجديدة بنكهة آسيوية ، وربما تمهد لتمركز “الحقبة الآسيوية” في تشكيل النظام الدولي الجديد. من الواضح

أن باكستان وإيران معنيتان مباشرة بالتطورات الأفغانية ولكل دولة حساباتها وخططها . بينما

تبدو روسيا منكبة على البعد الأمني وقلقة من التطورات ومهتمة بطمأنة حلفائها خصوصا في طاجكستان . أما الصين المهتمة بهذا البلد الواقع على طرق الحرير الجديدة فقد أبدت استعدادها لاستثمار مليارات الدولارات في تطوير بنيته التحتية ، لكن حلفها مع باكستان ، وحساسية العلاقة الأفغانية – الباكستانية، وإمكانية تأثير الهند على قسم من طالبان، يمكن أن تشكل عوامل مقيدة للدور الصيني .

أما بالنسبة للانعكاسات على قضايا الشرق الأوسط ونزاعاته ، ستحاول الصين وروسيا الذهاب بعيدا في ملء أي فراغ استراتيجي تتركه واشنطن. لن يؤدي الانسحاب من أفغانستان على المدى المتوسط لأي تعديل في السياسات الأميركية، بل سيزيد الحذر عند حلفاء واشنطن ويمكن أن تسود الضبابية حتى نهاية ولاية بايدن.

د. خطار أبو دياب 
أستاذ الجيوبولوتيك والعلاقات الدولية في جامعات فرنسا