نص دراسة استراتجية للدكتور توفيق هندي عنوانها: خريطة الطريق لخلاص لبنان

95

نص دراسة استراتجية للدكتور توفيق هندي عنوانها: خريطة الطريق لخلاص لبنان
د. توفيق هندي/05 حزيران/2021

لبنان بخطر الوجود. اللبنانيون باتوا غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم. إنهم بحاجة إلى وصاية دولية، والوصاية الدولية بحاجة لكي تتحقق لتتقاطع المصالح الدولية والعربية عليها، وبحاجة أن تتبناها قوى الثورة وتجهد دبلوماسيا” للتسويق لها. للوهلة الأولى، يبدو هذا الطرح صعب المنال، لا بل مستحيل. ولكن، إذا نظرنا إلى الواقع بحركيته، يتبين لنا أنه ممكن أن يتحقق، لا بل أنه السبيل الوحيد لخلاص لبنان، ليس فقط بإخراجه من حالة التحلل والإندثار التي تتهدده، ولكن أيضا” لوضعه على سكة الخروج نهائيا” من تخلف بنيته الإجتماعية-السياسية. وضع خريطة طريق يتطلب قراءة” ثاقبة للوضع ليس فقط على المستوى الآني التكتي، إنما على المستوى الإستراتيجي والبنيوي.
بدأت ثورة 17 تشرين بشكل عفوي بعنوان محاربة الفساد. فمن هي المنظومة الفاسدة ؟ وكيف يمكن تعريف الفساد في لبنان ؟
المنظومة الفساد في لبنان ثلاث مكونات: المنظومة السياسية، الدولة العميقة والمنظومة المالية.
المنظومة السياسية الفاسدة مكونة من الطبقة السياسية المارقة المجرمة. أما حزب الله الذي أبقى نفسه خارج إطار الدولة في مرحلة الإحتلال السوري، إنخرط فيها مباشرة منذ عام 2005، وأمن للطبقة السياسية الغطاء وأصبح راعيها بشكل كامل منذ التسوية-الصفقة عام 2016 حيث بات يمسك بمفاصل الدولة كافة وحيث إبتلعت الدويلة الدولة وحولتها إلى لادولة وبات حزب الله هو السلطة الحقيقية الوحيدة. ومع إزدياد الضغوط الدولية والعربية عليه، حوّل الطبقة السياسية إلى غطاء دولاتي شكلي تجاه خارج معادي له وأمسك برسن قياداتها وأحزابها المدجنة ولعب بمهارة على تناقضات مكوناتها وضبط إيقاعها.
أما الدولة العميقة، فهي مكونة من مؤسسات وأجهزة الدولة كافة بما فيها القضاء. الفساد معشعش فيها من أعلى الهرم إلى أسفله، نتيجة” للمحاصصات والزبائنية السياسية المزمنة. وأخيرا”، المنظومة المالية المكونة من حاكمية مصرف لبنان وغالبية أصحاب المصارف ومدرائها العامين.

لا شك أن المنظومة السياسية تفسد الدولة العميقة محوّلة” إياها إلى أداة حكم في يدها كما تفسد المنظومة المالية التي تساعدها على نهب المال العام والخاص وتشاركها بهذا النهب.
إن هذا الترابط والتكامل بين مكونات منظومة الفساد الثلاثة أدّى إلى إنهيار الوضع الإقتصادي والمالي والنقدي والمعيشي وتحلل الدولة والمجتمع.
غير أن المنظومة السياسية وعلى رأسها اليوم حزب الله، هي المسؤولة الأولى عن فساد الدولة العميقة والمنظومة المالية.
ولكن الفساد في لبنان بنيوي. فبالرغم من بعض مظاهر الحداثة التي يتحلى بها الفرد اللبناني ، فان المجتمع اللبناني يعاني من آفات تجعله مشابها” لأكثر المجتمعات تخلفا” في العالم. المشكلة تكمن في بنيته الاجتماعية-السياسية وهي مزيج هجين من الإقطاع الآري والقبلية السامية، كما يوصفها اوهانيس باشا كويومجيان آخر متصرف للبنان، وهي تتمظهر بما يمكن تسميته بالبيوتات السياسية الكبيرة والصغيرة، القديمة والمستحدثة، التي تفرض سيادتها على الحياة السياسية والاجتماعية العامة والخاصة بكل مفاصلها.

وفي واقع الحال، أن هذه البنية متجذرة بأيديولوجيتها وأنماط العلاقات الملازمة لها في الاجتماع والسياسة، بحيث لا تكمن المشكلة فقط في كينونة وتصرفات “زعامات” هذه البيوتات، إنما أيضا” في خضوع الشعب الطوع لها وهو الذي يرتضيها مولاة له، فتحقق له مصالحه خارج المسالك القانونية والنظامية وتحميه من ملاحقة الدولة المركزية ، أيا” تكن السلطة التي تتولاها، مقابل ولائه الأعمى واستزلامه البخس لها. فلبنان، بإستثناء حزب الله، نظرا” لأنه جسم غريب عن لبنان لكونه جزء عضوي من الجمهورية الإسلامية في إيران، عبارة عن مجموعة قبائل متناحرة متنافسة تتشكل من البيوتات السياسية، تسعى كل منها إلى اقتطاع أكبر حصة ممكنة من سلطة الدولة المركزية لحساب زعامة رئيس قبيلتها ومن أجل تقوية نفسها مقابل القبائل الأخرى. فهي بذلك تشبه المافيات التي يتوقف قوة رئيس كل منها ليس على عدد الذين هم على إستعداد للموت من أجله بل على عدد الذين هم على إستعداد للقتل بأمر منه. فالساحة السياسية اللبنانية يسودها ما يمكن توصيفه بتوازن الرعب فيما بين هذه المافيات. هذا ما يفسر المحاصصة والزبائنية السياسية والفساد والحاجة لميسترو ينظم تنافسها، الإحتلال الأسدي سابقا” والإحتلال الإيراني الممثل بحزب الله حاضرا”.

وواقع الأمر أن التنظيمات التي صنفت نفسها تغييرية لم تتمكن من تكملة مسيرة التغيير، وهي تحولت من جماعات سياسية تلتف حول مشاريع سياسية وطنية وتغييرية إلى مجموعة أزلام تدين بالولاء البدائي والغددي والأعمى لزعيم بيت سياسي مستجد، يختصر “القضية” بشخصه ويشكل نموذجا” مسخا” عن تلك الزعامات التي طرح نفسه أصلا” بديلا” عنها. هذه حالة الغالبية العظمى للأحزاب اللبنانية: الرئيس هو أبدي سرمدي لا “يرثه” إلا أقرب الناس إليه بالدم أو بالزواج. فنظام حكم البيوتات السياسية لا يرتضي وجود أي جسم سياسي غريب عنه إلا إذا حوله إلى مثيله، أي إلى بيت سياسي مستجد. ولا علاقة عضوية بين طبيعة النظام السياسي مع منظومة البيوتات السياسية التي تتحكم منذ عصور بلبنان وهي سبب بلائه الأساسي. لماذا؟ بسبب نوعية أدائها السياسي المرتبط بطبيعتها الأنانية وعدم اكتراثها بالمصلحة العامة وجشعها السياسي. كما أن الإحتلال، أي إحتلال يفرض تحكمه بالبلد أي يكن نظامه السياسي. هذا ما حصل مع الإحتلال السوري في الجمهورية الأولى والثانية وهذا ما يحصل اليوم مع الإحتلال الإيراني.

إن ثورة 17 تشرين كسرت شوكة هذه البيوتات السياسية وطرحت قضية الإحتلال الإيراني، ولكن لن تتمكن حتى الآن من إزالتهم عن بكرة أبيهم. الدستور يحتوي على ما يكفي من المواد لتطوير النظام، بحيث يتلاءم مع طبيعة المجتمع اللبناني. لكن أي تغيير في النظام مرفوض قبل تحرير لبنان من الإحتلال الإيراني ومن الطبقة السياسية المارقة. إن هذا التوصيف الدقيق لمكونات منظومة الفساد ومصدره يستدعي الملاحظات العامة التالية:
1) محاربة الفساد لن تكون بإستبدال شخص فاسد بآخر غير فاسد لأن هذا الآخر قد يكون إنتهازيا” متسلقا” على ظهر الثورة للوصول إلى السلطة أو أن تحول البنية السياسية-الإجتماعية دون تحقيق طموحاته التغييرية وتحوله إلى عكس ما هو عليه، كما أشرنا سالفا”. محاربة الفساد يتطلب أولا” كسر هذه البنية. كيف ؟ هذا ما سوف نراه لاحقا”.

2) لقد حاول الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964) أن يكسر هذه البنية وأن يبني دولة المؤسسات. ولكنه لم يتمكن من إنجاز المهمة لأنه، بالرغم من حسن نواياه، كان تقليديا” في مقاربته للموضوع وأعتمد على ما كان يسمى بالمكتب الثاني (أي مخابرات الجيش).

3) لا يمكن كسر هذه البنية إلا تحت رقابة دولية مشددة على السلطة اللبنانية التي سوف توكل إليها القيام بهذه المهمة، حتى لو لم تكن هذه السلطة الرقابية ملائكية.

4) من الحكمة إستغلال التناقضات بين مكونات الطبقة السياسية المارقة وتسعير حدتا بهدف تفككها. الصعوبة هنا تكمن في أن ضابط الإيقاع، أي حزب الله، لا يزال مقتدرا”. ولكن يجب التنبه أن إستغلال التناقضات لا يعني التحالف مع بعض الكونات والسماح لها بالتسلل إلى صفوف الثورة.

ولكن هل يمكن تحقيق خلاص لبنان من خلال المسالك الدستورية : تشكيل حكومة، إنتخابات نيابية ورئاسية ؟ للإجابة على هذا التساؤل، نورد أولا” الملاحظات العامة التالية :
1) إن هذه المعالجات، ولا سيما الإنتخابات النيابية، تتطلب وقتا” طويلا” نسبيا” في حين أن مسار تدهور الوضع سريع وسريع جدا”، وقد يودي بلبنان الدولة والكيان والشعب.

2) عندما تصبح قضية لبنان وجودية، لا يصح حينها إلا إتباع سياسة راديكالية ولن يعود السعي للوصول إلى السلطة الدولتية هو السبيل إلى التغيير. فمن الواضح أن لبنان هو تحت الإحتلال الإيراني، والدولة والمجتمع في حالة تحلل ولبنان يعيش حالة اللادولة. لذا، لا معنى للسعي لرئاسة جمهورية غير موجودة، أو السعي لتشكيل حكومة لا سلطة لها، أو المطالبة بإجراء إنتخابات نيابية تجدد شباب الطبقة السياسية المارقة، فتشكل حجة لبعض الخارج للتعاطي معها.

3) إن مآل الأوضاع في لبنان كما بأي بلد، يحدده ميزان القوى. إن المكون الرئيسي لميزان القوى هو المكون العسكري-الأمني وهو يسبق بالأهمية المكونات السياسية والدولاتية والشعبية والإقتصادية والمالية والثقافية…، كما أن مكونات ميزان القوى هي داخلية وخارجية في آن معا”. فداخليا”، حزب الله هو الأقوى عسكريا” وأمنيا”، كما أنه مسيطر على الطبقة السياسية ومفاصل الدولة كافة، مباشرة و/أو من خلال القوى التابعة له، ولا سيما على المؤسسات الدستورية الثلاث: فرئيس الجمهورية هو حليفه إلى يوم القيامة، وهو يتمتع بالأغلبية الخالصة في البرلمان وأي حكومة سوف تشكل سوف يكون قرارها بيده. أما خارجيا”، فبات واضحا” أن مفاوضات فينا سوف ينتج عنها العودة إلى الإتفاق النووي بنسخته الأصلية، مع إبقاء موضوعي الصواريخ البالستية والتمدد في المنطقة خارج المفاوضات. فترفع العقوبات عن إيران وتتدفق الأموال الإيرانية المجمدة على الجمهورية الإسلامية ويتعافى الإقتصاد الإيراني ويفّعل بنيجتها فيلق القدس ومحور المقاومة، علما” أن حزب الله هو المكون الرئيسي للمجموعتين ونصر الله القائد غير المعلن لهما خلفا” لقاسم سليماني. يمكنكم الإطلاع على مقال لي تجدونه على حسابي وصفحتي فيسبوك بعنوان “قريبا” عودة إلى الإتفاق النووي”.

4) إنطلاقا” من سياسة المهادنة (appeasement) المتبعة من إدارة بايدن والإتحاد الأوروبي تجاه إيران، يمكن توصيف سياسة الغرب تجاه لبنان (أميركا، فرنسا، الإتحاد الأوروبي،…)، وعنوانها العريض هو : عدم وصول لبنان إلى وضع يستوجب تدخله الجدي. تتمحور هذه السياسة حول النقاط التالية :
أ) ضرورة تشكيل حكومة لمعالجة الأزمة الإقتصادية-المالية-الإجتماعية من خلال إجراء إصلاحات، إنما عمليا” حتى من دون هذه الإصلاحات.
ب) إعتبار أن عدم تشكيل الحكومة سببه داخلي بحت، وذلك مراعاة” لإيران بعدم التعرض إلى المشكلة الحقيقية، أي ضغط إيران إقليميا” من خلال الميليشيات التابعة لفيلق القدس وأطراف محور المقاومة للدفع بإتجاه إلزام بايدن بشروطها في مفاوضات فينا. إن ترجمة هذا الضغط الإيراني في لبنان يتجسد بإمساك حزب الله بورقة تشكيل الحكومة وعدم الإفراج عنها إلا عند العودة إلى الإتفاق النووي بشروط إيران.
ج) التهديد بعقوبات لن تجدي نفعا”.
د) الضغط الكلامي لإجراء إنتخابات نيابية في وقتها.

ولكن بالرغم من وضوح الصورة، بعض الثوار والسياديين لا يزالون مقتنعين بإمكانية خلاص لبنان من خلال الآليات الدستورية. فثمة من يطرح إستقالة رئيس الجمهورية كمدخل لإعادة إنتاج السلطة كونه المسؤول الأول عن وضع البلاد وحليف حزب الله الأساسي والذي يؤمن له الغطاء المسيحي. ثمة إستحالة لتحقيقه سياسيا” وشعبيا” حتى عبر مسيرة مليونية تطالب بالإستقالة على أبواب بعبدا. الرئيس عون لن يستقيل وهو إن أراد، يمنعه حزب الله من ذلك، وهذا الأخير قادر على منعه. من ناحية أخرى، لا شك أن البديل عنه بنظر حزب الله هو جبران باسيل الذي فضّل الحزب على أميركا عندما خيّر بينهما. وحزب الله يمتلك الأغلبية النيابية لإنتخابه وبري لا يمكنه مناقضة حزب الله إذا طلب منه أن يفسر المادة 49 من الدستور عبر مكتب المجلس بإمكانية إنتخاب الرئيس بالأغلبية العادية. وما هّم حزب الله إذا كان رئيس جمهورية لبنان واقعا” تحت العقوبات الأميركية (التي قد لا تدوم مع بايدن)؟! العكس صحيح لأن هذه العقوبات تجعل باسيل أكثر حاجة” لحزب الله وإلتصاقا” به للذهاب بلبنان شرقا”.

وثمة من يتمسك بطرح حكومة مستقلين أو غير حزبيين أو حكومة مهمة. فهو أيضا” مستحيل التحقيق ليس فقط بسبب أو بحجة تناقض مصالح أطراف الطبقة السياسية المارقة (وهم من غير اللاعبين بل الملعوب بهم!) بل أساسا” لأن تشكيل الحكومة مرتبط بإرادة حزب الله. في مطلق الأحوال، لن يقبل حزب الله بتشكيل حكومة إلا إذا كان له اليد الطولى فيها. هل هو قادر على ذلك؟! نعم لأنه يمتلك السلاح والسطوة الكاملة على الطبقة السياسية.

وإستطرادا”، إذا إفترضنا أن أحدهم أصبح وزيرا”، وهو “آدمي” وذات إختصاص ومن صفوف الثورة، ماذا عساه أن يفعل وإدارة وزارته من أعلى الهرم إلى إسفله تنتمي إلى هذا “الزعيم” أو ذاك؟!
وثمة من يعتبر أن المدخل لإنتاج سلطة بديلة يكون من خلال إنتخابات نيابية مبكرة أو غير مبكرة ينتج عنها أغلبية جديدة فرئيس جديد وحكومة جديدة. ولكن لماذا يخاطر حزب الله ولو بواحد بالمئة بأي إنتخابات مبكرة أو غير مبكرة يمكن أن تفقده الأغلبية النيابية المباشرة التي من خلالها يتحكم بسهولة بالمسارات والآليات الدستورية وبالمؤسسات الدستورية الثلاث؟! وإستطرادا”، في حال فقدانه لها، لن تتأثر كثيرا” سطوته على الطبقة السياسية، إنما إنتخاب باسيل يتطلب حينها ضغوط أكبر عليها. والبديل عن الإنتخابات عنده هو تمديد ولاية البرلمان. وما أسهل إختلاق المبررات (أحداث أمنية، خلاف حول قانون الإنتخاب،…)!

أما إذا إفترضنا أن المستحيل حدث، وهو أن يقبل حزب الله بإجراء إنتخابات نيابية وكان إجرؤها تحت ضغط الخارج ورقابته، فلن يكون التغيير ذات شأن من حيث تمثيل الثورة، ولو حصّلت هذه الأخيرة بعض النجاحات المحدودة.

فلا يزال حزب الله والطبقة السياسية المارقة بمكوناتها كافة تمتلك عناصر القوة التالية: غطاء السلاح لها، المال، التنظيم، الخبرة بالإنتخابات، الماكينات الإنتخابية، إدارة العملية الإنتخابية، الدولة العميقة وأخيرا” غباء بعض الحالات الشعبية الغنمية التي تؤلّه “زعيمها” الفاسد الذي “بياكل وبتطعمي”.

وهكذا يتبين أنه لا قدرة لبنانيا” في ظل هذه السلطة الرعناء للإصلاح ومعالجة الأوضاع الإقتصادية والمالية والبيئية والإجتماعية والمعيشية والإنسانية… ولبنان متجه نحو مزيد من المآسي والإنحلال.
كما لا قدرة لقوى الثورة أن تحدث التغيير بالسرعة المطلوبة حتى لو توحدت صفا” وبرنامجا” وقيادة” ونزلت إلى الشارع بمظاهرات مليونية. فعند الحاجة، يقمع حزب الله مسيرتها بالقوة.
فمن الواضح أن اللبنانيين باتوا عاجزين من حكم أنفسهم بأنفسهم.
فهل وضع لبنان ميؤوس منه وهل لبنان ذاهب حتما” إلى الزوال؟ كلا إذا صوبت الثورة خطابها. والحل الوحيد هو بتدويل الوضع اللبناني. ولكن هل هذا التدويل ممكنا” ؟ الإجابة بداية”بالملاحظات التالية:

1) من الملاحظ أن ثمة فارق كبير بين وضع لبنان وأوضاع الدول المأزومة في المنطقة من سوريا إلى العراق مرورا” باليمن وليبيا وصولا” إلى الجزائر وتونس. ففي هذه الدول، ثمة صراعات أهلية و/أو إضطرابات داخلية مترافقة مع تدخلات إقليمية ودولية حيث أن إضطراب أوضاعها لا يؤثر إلا جزئيا” على الأوضاع في الإقليم. وعلى عكس هذه الصورة، فلبنان يتدخل عسكريا” وأمنيا” وأيديولوجيا” وسياسيا” في دول المنطقة كافة، ولو بأشكال مختلفة، مباشرة أحيانا” وبشكل غير مباشر أحيانا” أخرى. تعود هذه الفرادة اللبنانية إلى كون أن حزب الله سيطر على لبنان وحّوله إلى قاعدة إنطلاق لمشروعه الجهادي الإسلامي على طريقة ولاية الفقيه، ولأنه جزء لا يتجزء من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولأنه المكون الرئيسي في فيلق القدس المسؤول عن تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية والمكون الرئيسي في محور المقاومة ولأن السيد نصر الله أصبح عمليا” قائد فيلق القدس ومحور المقاومة بعد مقتل قاسم سليماني، ولأن الفيلق والمحور يواجان الثنائي أميركا-إسرائيل وحلفائه في المنطقة ويحاصران إسرائيل من جبهات ثلاث (لبنان، سوريا، غزة-فلسطين) ويتوعدان بإزالتها ولأن إسرائيل تعتبر حزب الله عدوها رقم واحد.

2) إن تدويل الوضع اللبناني يبدو صعباً في المرحلة الحاضرة، ولكن قد يصبح ضرورة دولية وإقليمية في المستقبل القريب. فلبنان في خضم الصوملة الكاملة النهائية، و”الحبل عالجرار”، مما سوف يحوله إلى قنبلة موقوتة تهدد الأمن والإستقرار والسلام الدولي والإقليمي، ويحوله بالتالي تهديدا” للمصالح الدولية والإقليمية. كيف ؟ الطرف الوحيد في لبنان الذي سيزداد قوة” وفعالية” وقدرة” على التدخل في المنطقة، ولا سيما مع رفع العقوبات عن إيران، هو حزب الله في بحر من الفوضى الأمنية في المناطق اللبنانية الخارجة عن نفوذه المباشر، بالإضافة إلى إمكانية كبيرة لتطور دراماتيكي خطير لوضع النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين وبعض اللبنانيين خاصة في شمال البلاد، من حيث سهولة إختراق بيئتهم من داعش وأخواتها، بالإضافة أيضا” إلى إمكانية كبيرة لحدوث هجرة غير شرعية إلى أوروبا.

لكل هذه الأسباب، تراني مقتنعا” بأن مصلحة أميركا وروسيا وحتى الصين والدول الغربية والدول العربية والإقليمية الوازنة يمكنها أن تتلاقى على معالجة جدية للوضع في لبنان. وهنا يبرز دور بكركي المحوري في مسيرة التدويل الإنقاذية لملأ الخواء الوطني الذي أحدثته الطبقة السياسية المارقة. فبكركي تدعم ثورة الشعب اللبناني وتطالب بتحقيق الحياد الناشط والإيجابي وبمؤتمر دولي، إستنادا” على المرجعيات التالية:
المرجعيات اللبنانية: وهي الدستور، ووثيقة الوفاق الوطني (إتفاق الطائف 1989)، وإعلان بعبدا (2012) المعتمد كوثيقة رسمية من قبل الأمم المتحدة.

المرجعيات العربية: ينتمي لبنان إلى العالم العربي وهوعضو مؤسس لجامعة الدول العربية ويلتزم ميثاقها ومقررات قممها.

المرجعيات الدولية: وهي شرعة الأمم المتحدة، والشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وقرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بلبنان لا سيما القرارات 1559 و 1680 و 1701، وإتفاقية الهدنة مع إسرائيل الموقعة في آذار 1949.

ولكن، ما هي خريطة الطريق التنفيذية من أجل تحقيق هذا التدويل؟
إن مفتاح الحل يكمن بالعمل الديبلوماسي الجاد لإقناع أصحاب القرار الدولي بأن مصلحتهم هم، هي بخلاص لبنان وليس بإندثاره وأن تقدم لهم خارطة طريق قابلة التحقيق مرتكزة على تدويل الوضع اللبناني بمعنى إتخاذ مجلس الأمن قرارا” يضع قرارات مجلس الأمن 1559 و 1680 و 1701 تحت الفصل السابع ويوسع مهام القوات الدولية (Finul) ويتخذ قرار بوضع لبنان تحت الإنتداب الدولي وفقا” للفصل الثاني عشر والثالث عشر من شرعة الأمم المتحدة، وذلك لأن لبنان بلد مخطوف ليس بمقدوره أن يحرر نفسه ولأن اللبنانيين باتوا غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم ولأن لبنان محتل ولأن الدولة اللبنانية باتت في خبر كان وبالتالي فقدت عضويتها حكما” في الأمم المتحدة ولأن لبنان أسير قضية إنسانية غير قابلة للمعالجة لبنانيا” في ظل سلطة مجرمة، والأهم أن لبنان بات قنبلة موقوطة للأمن والإستقرار والسلام في المنطقة.
في إطار الوصاية الدولية الآنفة الذكر، يجب تشكيل سلطة مؤقت عسكرية-مدنية على شاكلة ما حدث في السودان، مشكلة من نخبة عسكرية ونخبة مدنية، تعلق الدستور وتعمل تحت الرقابة الدولية على تنظيف مؤسسات الدولة كافة من آثار المحاصصات والفساد بهدف العودة في مرحلة لاحقة إلى تنفيذ الدستور. فتجرى حينذاك إنتخابات نيابية وفق قانون جديد ثم إنتخابات رئاسية وتشكيل حكومة، مما يشكل تمهيدا” لرفع الوصاية الدولية وتعافي لبنان السريع في كل المجالات، ولا سيما في المجالين الإقتصادي والمالي، على قاعدة إعادة ثقة الشعب وثقة المجتمع الدولي والعربي والإنتشار اللبناني بالدولة اللبنانية.
عندها، تصبح الطريق معبدة داخليا” وخارجيا” لإستحصال لبنان على حياده الناشط والإيجابي، صونا” لكيانه ودولته وشعبه على المدى الإستراتيجي.

ويبقى كل الأمل في أن شبيبة الثورة سوف تعرف كيف تحافظ على لبنان وتمنع إعادة إنتاج طبقة سياسية مارقة بعد قيام السلطة المؤقت بإقتلاع آثارها في مؤسسات الدولة كافة.