شادي علاء الدين/تطرف حزب الله.. وتفكيك المجتمع اللبناني

36

تطرف حزب الله.. وتفكيك المجتمع اللبناني

شادي علاء الدين/العرب/03 شباط/17

التطرف هو بنية متصلة ومنسجمة وحتى إذا كانت العناوين التي يمارس من خلالها تبدو متناقضة في الشكل، إلا أنها تصب في نهاية المطاف في دعم المشروع نفسه. من هنا لا تناقض فعليا بين تطرف الشادور (لباس النساء الشيعيات المتدينات خاصة في إيران) الذي يرسم حدودا متطرفة للأخلاق والعفاف ويتهم من لا يتبناها بقلة الأخلاق، وبين الانتشار الواضح للفضائح الجنسية والعري. أبرز دليل على ذلك هو التزامن المريب بين ظهور كل منهما على الرغم من أن بروز حزب الله على الساحة العامة، شهد حملات تشويه للفتيات غير المحجبات بماء النار وغيرها. من هنا يكون السؤال حول شيوع الابتذال ونمو الدعارة سلوكيا ومشهديا، في بلاد يقول خطاب التيار الإسلامي المتطرف الذي يتحكم بمقاليد الأمور فيها “أختاه حجابك أغلى من دمي”، سؤالا وجيها. لم يجد الحزب نفسه محرجا على الإطلاق حين أعلنت بعض أبرز نجمات الإغراء في البلد، من قبيل هيفاء وهبي وميريام كلينك، عن دعمه. بدا جمهور الحزب، وعلى العكس من المتوقع، منتشيا بهذه التصريحات ومسرورا بها، ما يدل على أن التطرف هو كالمقبرة التي لا ترد ميتا، لناحية قدرته على توحيد البنى المتناقضة شكليا في إطار مفهومي واحد. ويشكل سعي الناس إلى تمكين مكانتهم الاجتماعية دافعا أساسيا للمبادرة وبذل الجهود، وتطوير المهارات والقدرات، ولكن الحزب أنتج آلية أخرى للمكانة الاجتماعية ترتبط بكون المرء ينتمي إلى عائلة شهيد أو كونه مشروع شهيد.

هكذا حلّت صورة الشهيد في قلب أي منزل مكان الشهادات الجامعية، وباتت قادرة على منح عائلته مكانة وحضورا، لا يمكن منافستهما بالشهادات الجامعية، أو المكانة المتأتية عن فعل أرضي ومادي ومباشر. تأسيس الحياة الاجتماعية على الموت لا يمكن إلا أن ينتج حالة من جنون العظمة الاجتماعي لا يقبل المصابون به الاعتراف بالآخر، بغض النظر عن ما يملكه من قدرات وخبرات. يؤدي وهم المكانة المرتبط بالشهادة وظيفة إعاقة أي إمكانية لتطوير الذات. هكذا يتحول مجتمع كامل إلى ناطق باسم الموتى، وينسحب هذا الأمر على كل مجال الممارسة الاجتماعية، ويترجم في سلوكيات متعالية تضع الآخر في موقع دونية دائمة. يمكن التدليل على مدى تحول هذا الوهم العام إلى سلوك في حادثة جرت في أحد مقاهي الحمراء، حيث كنت أجلس مع مجموعة من الكتّاب والصحافيين والفنانين نتناقش في الشؤون العامة. أتينا في سياق الحديث على ذكر حزب الله وانتقاده، فما كان من النادل الذي يدين بالولاء للحزب إلا أن اقترب من طاولتنا، وقال موجها كلامه للجميع: أنتم لا تعرفون شيئا عن الحزب. التطرف يدمر المجتمعات ويمنع تطورها ويعيق التبادل الاجتماعي، ويحول خارطة العيش في البلد إلى مشهد حريق مكتمل المعالم

لفتني المشهد ودفعني إلى سؤال النادل المراهق، هل تعرف ما هي مهنتي؟ قال نعم أنت صحافي؟ وهل تعرف مهن من يجلسون على الطاولة؟ أجاب نعم، وراح يعدد مهن الجالسين ويقول فلان كاتب، وفلان فنان تشكيلي وفلان أستاذ جامعي وما إلى ذلك. سألته بعد ذلك، أنت الآن في صف الباكالوريا أليس كذلك؟ قال نعم؟ قلت له وما الذي جعلك تعتقد أنه يمكن أن تكون تعرف أكثر من أي من الجالسين هنا؟ اكتفى بتكرار ما قاله سابقا بوقاحة وانسحب ممتعضا.

لعل هذا المثل المباشر الذي سقته يوضح كيف صنع الحزب حالة من الهذيان الاجتماعي العام صارت ضابط إيقاع للسلوك، وكيف يؤسس هذا الهذيان لحالة من الشلل العام، قياسا على فكرة التفوق المضمون للشهداء ومشاريع الشهداء على جميع الأحياء، سواء أكانوا صحافيين أو فنانين أو أساتذة جماعات.

تنسحب إدانة الحياة على إدانة مظاهرها وكل ما يشجع عليها ويحض على ممارستها ببهجة وفرح. البهجة نقيض الحداد العام، من هنا لا بد من منع الغناء، وخصوصا النوع الراقي منه لأنه يناقض منطق إشاعة السواد وطقوس النواح الدائم. منع طلاب الحزب إذاعة أغنيات لفيروز في الجامعة اللبنانية، وهم يجرمون الموسيقى والغناء، ولكن اللافت أنه في ظل هذا المنع والتحريم خرجت إلى النور أغنيات لم يكن أحد يتخيل أن الذوق اللبناني قادر على استقبالها من قبيل أغنية تقول “لط…. لا ترجعي”. لا تتناقض كلمات هذه الأغنية مع منطق الحداد الاجتماعي العام بل تعززه، لأن المناخ الذي تعبّر عنه يعني أن العلاقات بين الجنسين متأزمة، وتستدعي خطابا متأزما يحمل نفس ملامح السواد والاضطراب. يناقض هذا المناخ ما تقوله أغنيات فيروز وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وغيرهم، كونها ترسم ملامح عالم مبهج يحض على الحياة والحب. الجدير بالذكر في هذا المجال أن هناك تناقضا كبيرا بين الحزن في الأغاني، وبين مناخ النواح الذي تعززه منظومة الحزب. الحزن في الأغاني شفاف أي يمكن أن يرى المرء من خلاله وهو يحيل إلى الشخصي والخاص والقابل للتشارك في آن واحد، في حين أن الحداد المطلق الذي تقترحه النواحيات شكلا للحياة لا يسمح بعبور أي ضوء أو فكرة، ويثبت منطقا واحدا لممارسة الحياة يقوم على احتقار الذات، واحتقار الحياة والبهجة. تفكيك البنى العائلية قد يكون أخطر ما تؤسس له منظومة التطرف. من ينتمي إلى صفوف الحزب لا يعود قادرا على أن يمارس دور الابن والأخ والقريب، إلا انطلاقا من مدى ارتباط هذه الوظائف الاجتماعية الأساسية بخطاب الحزب وما يفرضه.

البنى العائلية في ظل هذا الوضع تصبح مهددة بالانهيار، لأن الروابط التي تجمع بين أفراد العائلة تتفكك لصالح خطاب علوي، يخيّر الأهل والأقارب بين أن يكونوا جمهورا حزبيا وبين الإقصاء والنبذ الاجتماعيين.

يدمر التطرف المجتمعات ويمنع تطورها، ويعيق كل مسارات التبادل الاجتماعي، ويدمر الثقافة والفنون، ويحوّل خارطة العيش في البلد من لوحة عامرة بالتنوع والحركة، إلى مشهد حريق مكتمل المعالم، حيث يؤدي الأسود وظيفة الخراب المتجانس والذي لا مجال معه لظهور أي اختلاف.