تقرير يغطي مأساة الصحافية مريم سيف مع بلطجة وبلطجية حزب الله..الوعد الصادق الجديد

105

الوعد الصادق الجديد
رشا الأطرش/المدن/10 كانون الأول/2020

ما عاد “حزب الله” يكترث لشكله وصورته في الداخل الطائفي والمناطقي الواقع تحت سيطرته. ما ارتكبه محازبوه وأقاربهم، في قضية الزميلة مريم سيف الدين، انكشاف، بل إعلان، ليُعلِم الحاضرون الغائبين. بلطجة ليست بالضرورة نتيجة أمرٍ مباشر، لكن هذا لا يعني أنها لا تحظى بالموافقة الحزبية وغطائها الدافئ. وإلا لخَرَج من القيادات مَن يُطالعنا بتصريح أو بيان يتبرأ، ولو لفظياً، من انخراط حزبيين في اعتداء على عائلة آمنة في بيتها وتهديد أفرادها بالقتل والبهدلة نُصرةً لمَن يريد اقتلاعهم من شقتهم في الضاحية بلا أي مسوغ قانوني أو أخلاقي. كما لم يُلمَس أي تدخل حزبي، ولو بصَمت، من أجل أن ينسَلّ الحزبيون من هذا الإشكال الذي جاء وصفه بـ”العائلي” مضحكاً مبكياً. بل انطلقت الجيوش الإلكترونية والأبواق الإعلامية المعهودة، مؤكّدةً “عائلية” القضية، واتهمت مريم بالسعي إلى الشهرة، وإساءة استخدام موقعها كصحافية لتحوّل خلافاً مع خالها إلى قضية حريات ورأي عام.

يخلع “حزب الله” القفازات، إذن، يتخفّف من بروتوكولات “أقبِّلُ أقدامكم”، يغسل وجهه المقاوَماتي المموّه لمعارك الخارج، ويهبط على أرضه مشمِّراً عن زنده.

وكما أدّى انسحاب القوات السورية من لبنان، العام 2005، إلى استدارة الحزب نحو دوائر الحُكم المحلية، وهرع للمشاركة في الحكومة، للمرة الأولى منذ نشأته، وللمرة الأولى أيضاً استخدم السلاح في الداخل العام 2008.. فإن تفاقم الإنهيار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مع اندلاع احتجاجات 17 تشرين الأول 2019، كمتلازمتَين ووجهَين لعُملة لبنانية واحدة (حرفياً)، حتّم استدارة “حزب الله” بأنيابه البارزة إلى داخل “بيئته”، وهذه المرة لم يكن يبتسم، ولا يحتوي، ولا يغدق العطايا و”الوعود الصادقة”، بل إنها عطايا “لن نجوع” (الحد الأدنى للعيش والبقاء)، ووعودُ الذود عن المخلصين (ولو ارتكبوا جرائم).

كان احتلال النظام الأسدي، العسكري والسياسي، للبنان، حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري، مظلّة وارفة للحزب. ما كان من داعٍ لوجع الرأس في زواريب وحرتقات السياسة والحوكمة. كان الأمن إما في يده، أو في أيدٍ أمينة على مصالحه. وكان التمثيل السياسي والاقتصادي والإرادوي مؤمَّناً بطريقة “بروكسي”، فتمكن من التفرغ للعب أوراق “المقاومة” في لبنان وخارجه، براحة بال وبكامل طاقاته. بل استفاد أيضاً من عرض خاص يشتمل على هدية: الصورة، صورته كمقاوِم زاهد في مباهج الدنيا والسلطة، لا يريد شيئاً لنفسه أو لمقاتليه، أجندته مُطلقة وسامية، مجانية سرمدية، عنوانها التحرر والتحرير للعالَمين العربي والإسلامي وسواهما إن اقتضى الأمر. وهو الطاهر المنتصر، الحكيم الفصيح، المترفّع عن صغائر الشارع كما مؤسسات النظام اللبناني. لكن انسحاب الذراع التنفيذية، تحت رايات “شكراً سوريا”، لم يترك للحزب خياراً سوى الأصالة في غياب الوكالة.

وبالطريقة نفسها، فإن الأزمة الراهنة، والتحرك الشعبي ضد “كلن يعني كلن.. وحزب الله واحد منن”، مهما كان مشرذماً وضعيفاً ورمزياً، جرّدا أدوات الشبكات الزبائنية من جزء معتبر من فاعليتها، وحفرا ثقوباً في الخرافة الإيديولوجية التي كان الناس راضين بها (وربما منتشين بيوفوريا القوة والتفوق)، طالما أن الحياة تجري في قنواتها اللبنانية المعتادة. وذلك، أولاً، بسبب شح الموارد (الدولة اللبنانية والدعم الإيراني) التي كانت تغذي تلك الشبكات، وترشيد استخدام المتاح الآن لتخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية. وثانياً، خوفاً من تسرّب الطائفة من تحت عباءته، بعدما تسللت إليها، ولو بشكل محدود، عدوى التمرّد على “أولياء النعمة” وبالتالي أولياء الولي الفقيه. هكذا، رأينا ما حدث في النبطية قبل نحو سنة، والآن نرى الضاحية عبر مريم سيف الدين وعائلتها الصغيرة، كعيّنة على النهج الجديد.

ليس الحزب الوحيد في البلد المتمسك بأحادية تمثيله لطائفته إلى حد الجنون؟ صحيح. وليس القُطب السياسي والطائفي الوحيد الذي يهيمن على “شعبه” باحتكار رفده بالخدمات، من داخل الدولة وخارجها؟ وباحتكار العنف اتجاهه إن رآه ضالّاً؟ أيضاً صحيح. لكن استشراسه في الحفاظ على مكتسباته، وهو الأكثر تنظيماً والمسلّح بين الطوائف، يضاعف وطأة هجومه الدفاعي، على الجميع، يزيده رعباً على رعب.

مريم صحافية نقدية اتجاه “حزب الله”. وكونها مهنية وموضوعية حتى في النقد، فهذا لا يعنيهم في شيء، فقط الخطوط الحُمر، خطوطهم هم الحُمر. لذلك مريم مكشوفة، عائلتها بلا ظَهر، وبالتالي عُرضة للطرد والإهانة والضرب وربما القتل. المخافر تحت سيطرة قوى الأمر الواقع، كل بحسب منطقته. والضاحية لحزب الله، الأقوى، والذي ما عاد يملك من الوقت والطاقات ما يضيعه في التجميل والكذب.

الدلالة هائلة لمقولة “العنف الأسري” التي صُرِفت بها شكاوى مريم، وتحجّجت بها قوى أمنية لم تُلبّ اتصال الاستغاثة من العائلة المعتدى عليها، لأنه “لا جرحى ولا قتلى”. فالعنف، وفقاً لهذه العقلية، ليس حكراً على بيوت الزوجية والأولاد. العائلة كبيرة وممتدة إلى ما بعد بعد شجرة العائلة، مشاكلها تُحلّ بالطريقة العشائرية البطريركية. ولا شأن للقانون وأذرعه بهذا العنف، حتى بعدما أقرَّ التشريعُ تجريمَه، وسنَّ له العقوبات وآليات الردع. كما أن القضية، أي قضية، لتكون كذلك وتحصد التضامن وتشغل الرأي العام، يجب أن تكون قضية جماعة، لا أفراد. وحرية التعبير والصحافة والنقد والمساجلة، ولو بأفضل معايير التوازن والاحتراف، هي معيار القرب أو البُعد من السلطة، من بطشها أو حضنها الحامي، فكيفَ إن خالَطتها أزمة السيطرة واحتكاكات القبيلة؟ لا قضية هنا في نظر القُضاة الميدانيين، ولا جريمة في الدغل الذي ما عاد سيّاده يتكبدون عناء تسويقه كحديقة.