إميل أبي نادر:15 عاماً على مصالحة الجبل: صفير قال لي يومها: شكراً

149

15 عاماً على مصالحة الجبل: صفير قال لي يومها: “شكراً”
إميل أبي نادر/النهار/5 آب 2016

كان ذلك مساء الثالث من آب 2001 في ساحة بيت الدين، وصل موكب غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، قادماً من المقر الصيفي في الديمان، في زيارة تاريخية، تحت عنوان تثبيت مصالحة الجبل وتعزيزها. وكان الموكب انطلق صبيحة ذلك اليوم من أيام حرّ آب، مجتازاً مسافة تقارب المائتي كيلومتر على تعرّجات جبال وشواطئ وسهول.هذا الحبر الجليل، الثمانيني يومها، تجشّم مشقات السفر من أفياء أرز الرب إلى ظلال أرز الشوف، تغلّف كيانه وتسكن قلبه روح رسولية، تحلّى بها قبله خمسة وسبعون بطريركاً، ورست على منكبيه أمرة قيادة سفينة الموارنة، تمخُر عباب الزمن والتاريخ، والبحر بين هدوء وهيجان، منذ البطريرك الأول. حملها كلّها إلى أرض بيت الدين في ختام يوم سفر طويل تخلّلته محطات عديدة، توقف فيها في البيت الأرسلاني العريق، إلى الدامور الى كفرحيم إلى دير القمر، معاصر بيت الدين، فساحة بيت الدين، حيث كان في استقباله جمهور غفير من أهالي البلدة وبلديتها والجوار.

ترجّل غبطته في ساحة بيت الدين وفي طريقه الى كنيسة مار مارون، تقدّمتُ لمصافحته وتقبيل يده، تعرّف إليّ في خضمّ الحشد المرصوص، وأنوار المصابيح الخافتة، بالكاد تكسر سواد الليل، وقال لي: “شكراً”. اعتراني شيء من الذهول وتساءلت: شكراً على ماذا؟

هذه الزيارة التاريخية لبطريرك الموارنة للجبل، أتت بعد حوالى قرنين على زيارة أولى لبطريركهم إلى بيت الدين، مع ما حملته من معانٍ وأبعادٍ روحية ووطنية ورسالية وما رافقها من مشقات وصعاب، وجاءت في خواتيمها عبارة “شكراً”، قالها بوجه باسم عطوف ونظرة محبة صافية.

هذه العبارة استحضرت في ذهني، بل أوقدت في خاطري كلمة في الليتورجيا من وحي الانجيل: “… سيدي، لست مستحقاً ولا مستاهلاً أن تدخل تحت سقف بيتي، لكن قُلْ كلمة واحدة، تحيا بها نفسي”.

واقع الأمر، أنّ صحيفة “النهار” الغرّاء، كانت قد أولتني قبل يوم من موعد الزيارة (“النهار” 2 آب 2001) شرف نشر كلمة في المناسبة عنوانها: “بيت الدين من البطريرك يوسف حبيش إلى البطريرك نصرالله بطرس صفير”. إشارة الى الزيارة الأولى للبطريرك يوسف حبيش لبيت الدين عام 1833 في عهد الأمير بشير، حيث دشّن كنيسة على اسم القديس مارون، ولم يخطر لي قط أنّ مجرد ربط واقعة تاريخية بأخرى جرت في بلدتي، بفارق مئتي سنة يستحق الشكر من غبطة الحبر الجليل وهو الذي جسّد واختزل ستة عشر قرناً من تاريخ الموارنة ولبنان.

أجل! ما أجمل وأبلغ ما كتب غبطته في مقدمة كتاب “البطريركية المارونية تاريخ ورسالة”، “… صفحات وصور منتقاة للتعرف بالبطاركة الموارنة من خلال تلالٍ نصبوا عليها خيامهم في يانوح. والزمن في إقبال، وأودية قبعوا فيها والزمن في إدبار، وما رأوا في مقرّها السحيق إلاّ وجه الله، حاولوا التطلّع إليه من كوة في قنوبين، زرقاء انفتحت عليهم في السماء فرفعوا إليها مع عطور البخور والصلوات ما انبلج في نفوسهم من هموم، وما ساورهم عن القطيع الصغير من مخاوف، تغلبوا عليها بما عمر صدورهم من إيمان ينقل الجبال وما أوتوه من إرادة قدّت من صخور، نشدوها الرزق الحلال، وكان للملحمة أن تتجدّد… تكرّ القرون وتتكثف الثقافات وراية الجهاد أبداً مرفوعة في سبيل كنزين هما الأغليان، الأبقيان: صفاء العقيدة ونشوة الحرية بدونهما ترخص الحياة…”.

إنّ العلاقة بين الأمير بشير وبطريرك الموارنة، ترقى الى ما قبل عام 1833، على عهد البطريرك يوحنا الحلو (1808 – 1823)، يومها كانت مطرانية صيدا بعيدة الأطراف إلى حدود عريش مصر، وكانت نيابة بطريركية تابعة للسيد البطريرك نفسه… في ذلك الحين، رغب الأمير بشير إلى البطريرك يوحنا الحلو أن يكون قربه رجل دين… فنزل غبطته عند طلب الأمير، واختار عبدالله البستاني المولود في الدبية عام 1780، وسامه كاهناً ووكيلاً عنه في أبرشية صيدا وصور، وقد بنى المطران عبدالله مركزاً لإقامته بجانب كنيسة ما مارون الرعائية في بيت الدين. فأحبّه الأمير وقرّبه إليه، واستعان به لمساعدته ومساعدة كل من يأتي من طوائف الجبل دون تمييز بينهم. (من مخطوطة للمونسنيور يوسف ملحم البستاني 2001). استمرت هذه المساعدة واستمر التعاون لاحقاً، فكانت ربوع الجبل وربوع الشوف واحة تميّزت بتعايش كريم، بين أهلها، على تنوع مكوناتهم العقيدية، ولا سيما بين الموارنة والدروز. تعايش يرقى لأكثر من ثلاثة عشر قرناً، وإن عكّرته أحياناً خلافات، تبدأ فردية ومعزولة، فتتطور وتتسع على وقع اختلاف انتماءات الفرقاء العقيدية، ثم لا تلبث أن تنطفئ فيعود الصفاء والوئام الى سابق عهده، طاوياً آثار دماء أهدرت وأرواح زُهقت، مثلما يحصل حتى ضمن العائلات ذات النسيج الاجتماعي والتكويني الواحد.

حلّ غبطة البطريرط صفير ضيفاً على مطرانية صيدا في بيت الدين، وهي أصلاً أحد قصور الأمير، كان اشتراه المطران بطرس البستاني بعد وفاة البشير من امرأته الست حُسُن جيهان، وكانت قد عرضت للبيع مع قصر الأمير أمين، لحاجة العائلة إلى المال (المرجع السابق).

تخلّلت أيام الزيارة الثلاثة زيارة صاحب الغبطة قصر المختارة التاريخي، حيث استقبله الأستاذ وليد جنبلاط بحفاوة بالغة يحيط به حشد من القيادات والفاعليات والمشايخ الأجلّاء، فكانت حدثاً تاريخياً مضيئاً على دروب مصالحة الجبل، وكانت استعادة منقّحة لعلاقة دهرية بين السلطتين الروحية والزمنية من عهد الامير بشير والبطريرك يوحنا الحلو.

استعادة تجمع كل مكونات الوطن الأساسية وطوائفه في مسيرة كيانية واحدة جامعة منذ عهد البطريرك الأول مار يوحنا مارون. وبعد المختارة أكمل الموكب طريقه إلى جزين، المدينة العريقة الصامدة التي أطل منها إلى رحاب الجنوب المقاوم الغالي، وحتى عريش مصر.

وفي اليوم الأخير من الزيارة التاريخية، ترأس قداساً احتفالياً تحت قبة سيدة التلة في دير القمر في عيدها السنوي، قرب سرايا فخر الدين، في حضور رئيس الدولة العماد إميل لحود وعلى التلة الأخرى من الدير، طيف “فتى العرب الأغر”.

وبعد 25 سنة لتبوئه مقام السدة البطريركية، وخمسين سنة لتسلّمه عصا الأسقفية يسلم غبطته الأمانة، بإيمان ومحبة، بوداعة وكِبَر في آن إلى البطريرك السابع والسبعين مار بشارة بطرس الراعي، في زمن القيامة المجيد، علامة أكيدة لقيام الوطن تحت شعار “شركة ومحبة”، باقياً إلى جانبه، تسكنهما روح رسولية واحدة، ترعاها وترعى لبنان من قمة جبل حريصا سيدة لبنان، أمنا العذراء مريم. وبالعودة إلى كلمة: شكراً. أسأل بأية عبارات شكر نتقدم بها نحن بدورنا، بل يتقدم بها كل لبنان من مقامكم السامي الجليل على عمر مديد كرستموه بأكمله، وإلى سنين عديدة بعد، في خدمة الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان في بلد الإنسان: لبنان.

أية أحمالٍ من باقات عطر الوفاء وصلوات الشكر يمكنها أن تكفي، لتشكر إنساناً كبيراً عاش، بل صنع فصلاً مشرقاً من سفر تكوين وصيرورة وطن الأرز لبنان على وقع قرون كرّت وثقافات تكثفت ومرّت.

*مدير عام وأستاذ جامعي سابق/الرئيس الفخري لنادي بيت الدين