الـيـاس الزغـبـي: رسائل شماليّة

167

 رسائل شماليّة
الـيـاس الزغـبـي/لبنان الآن/28 أيار/16

الرسالة السياسيّة الرابعة والأخيرة في الصندوق البلدي، تأتي الآن من الشمال، بعد رسائل ثلاث ذات قاسم مشترك: استعادة التنوّع كصفة خلاّقة في المجتمع اللبناني بعد مرحلة من الاختزال وتعليب الطوائف والأحزاب والعائلات والعشائر، قادها “حزب الله” مسافة ربع قرن، وطالت عدواها آخرين.

ولا يشذّ الشمال، بمحافظتيه طرابلس وعكّار، عن هذه القاعدة، بل يؤكّدها بامتياز، من جسر المدفون جنوباً، إلى النهر الكبير شمالاً، فالقرنة السوداء شرقاً. المشهد التعدّدي الانتخابي الديمقراطي استعاد حيويّته الكاملة، بعد مرحلة من “التعيينات” في ظلّ وصاية النظام السوري، أعقبتها مرحلة من “الأحاديّات” كردّة فعل على تعسّف تلك الوصاية وذيولها. لكنّ الشمال لا يكتفي بهذه الرسالة المشتركة مع سائر لبنان، بل يقدّم رسائل إضافيّة ذات دلالات إيجابيّة أو سلبيّة، يُمكن التوقّف عند أهمّها:

– لقد انعكس ارتخاء قبضة النظام السوري و”حزب الله”، بفعل الأزمة السوريّة، على طبيعة التحالفات، وفتح الباب أمام تلاقي أضداد الأمس. فكانت طرابلس وزغرتا نموذجين واضحين لتوافق سياسي ما، تحت شعارات الإنماء. وهذا التوافق لم يكن ممكناً لو كان “النظام”، ومعه “حزب الله”، في أوج سطوتهما، كما في العام 2010.وليس خافياً أنّ الأدبيّات السياسيّة لفريق “8 آذار” تنوّعت واختلفت عن السابق، سواء في تصريحات سليمان فرنجيّة ونجيب ميقاتي وفيصل كرامي وسواهم (باستثناء القوميّين السوريّين)، أو في مقاربتهم الحذرة للملفّات الخلافيّة حول التصنيف الإرهابي لـ”حزب الله”، وتورّطه في سوريّا، والتضييق العربي والدولي عليه. بينما لم يبدّل فريق “14 آذار” في أساسيّات خطابه الوطني، برغم الخلاف الكبير في الملفّات السياسيّة، وتحديداً الترشيح لرئاسة الجمهوريّة، والتباعد الانتخابي في أكثر من بلدة وقرية.

هذا يعني أنّ ثوابت “14 آذار” لا تزال تشكّل أرضاً صلبة لإعادة إنتاج تحالفها، بينما كسرت السياسة، بتكتيكها واستراتيجيّتها، دفوف “8 آذار” وفرّقت عشّاقها.

وفي المدينتين، طرابلس وزغرتا، حالات مدنيّة لافتة لا تضرب التوافق بمقدار ما تُضيف حيويّة على المشهد الانتخابي، وتحفظ للناس حقّهم الديمقراطي وأملهم بالتغيير والتطوير. وهذه هي حالة الوزير أشرف ريفي في عاصمة الشمال، واللائحة المنافسة للتوافق في زغرتا. بينما تقدّم بشرّي نموذجاً للديمقراطيّة البلديّة ضمن الخيار الوطني والسياسي الواحد، بعدما عجزت لوثة الالتحاق بالسياسات الدخيلة عن اختراقها.

أمّا في المنية، والضنيّة، وعكّار، فالمشهد نفسه: أرجحيّات محسومة، ولو في إطار تنافس أهل البيت نفسه.

– ويقدّم صراع القمم، في بلدتين – مدينتين محوريّتين، تنّورين والقبيّات، نموذجاً آخر يجب أن يكون مثار اعتزاز وليس عيباً أو نقصاً أو نذير تفكّك. فالمواجهتان بين الثنائي الجديد، القوّات – العونيّين، من جهة، والعائلات العريقة مع قوى سياسيّة أُخرى، من جهة ثانية، ليستا إلغائيّتين، كما يشاء البعض تصويرهما، بل تأكيد على قيمة التعدّد والخيار الديمقراطي.

فما يجمع مثلاً “القوّات” وبطرس حرب وهادي حبيش، فيه من الثوابت ما يتخطّى المصالح التي فرّقتهم في البلديّات. والأمر نفسه ينسحب على علاقة “القوّات” بتيّار “المستقبل”. والنتائج التي ستأتي بها صناديق الاقتراع لطرف أو آخر، وهي حكماً متقاربة وليست تسوناميّة، ستصب في المصبّ الوطني نفسه، على غرار غيمة “الرشيد”: ستُمطرين في خراجي.

– رسالة ثالثة من الشمال، تحملها الكورة بنموذجيّتها السياسيّة الخاصة، كبيئة تفاعل بين أحزاب وقوى سياسيّة عريقة، متصارعة في العمق.

المشهد الكوراني عمودي بامتياز، ولعلّه الوحيد الذي يجسّد الثنائيّة المتصارعة في ترسيمها الحادّ السابق المعروف منذ 10 سنوات: 8 و 14 آذار.

ففي حين تتقاطع خطوط الفريقين في طرابلس وزغرتا والبترون وعكّار، باستثناء بشرّي المحسومة الانتماء، تقدّم الكورة صورة نمطيّة كاملة عن المواجهة بينهما. هذا ما يحصل في معظم البلدات التي لم ينجح فيها التوافق، خصوصاً في بلدتين – رمزين، كوسبا وكفرعقّا، حيث المواجهة مكتملة بين الطرفين، “القوّات” و”المستقبل” مع تعاطف عوني من جهة، و”القوميّين” و”المردة” من جهة أُخرى. وهذا ينسحب على أكثر من 20 بلدة في الكورة لم تتم فيها التوافقات.

ويكتمل الصراع العمودي بين الجبهتين في بلدة صغيرة، بزيزا، بسبب تنوّعها الطائفي، فينخرط فيها “حزب الله” بحكم وجود عائلات شيعيّة من أبنائها، ويكمّل عقد تحالف “8 آذار” مع القوميّين والمردة ضدّ عائلاتها الأصيلة ذات التوجّه اللبناني التاريخي الصافي.

ليالي الشمال ليست حزينة هذه المرّة، بل ضاحكة ومنعشة، ورسائله ربيعيّة نقيّة، بلون أرزه.