عبدالوهاب بدرخان: المعارضة في مواجهة تواطؤ أميركا وروسيا وإيران مع الأسد/غسان شربل: حسناً أنهم ماتوا باكراً/حسان حيدر وغسان شربل: دي ميستورا يستقوي على المعارضة بالجنون الروسي

367

المعارضة في مواجهة تواطؤ أميركا وروسيا وإيران مع الأسد
عبدالوهاب بدرخان/الحياة/04 شباط/16

لن يتّضح مسار «جنيف 3» قبل أسابيع وربما شهور. هناك مَن يتوقعون استمرار التجاذب إلى نهاية آذار (مارس) المقبل، ليبدأ التفاوض الفعلي على «العملية السياسية». لكن، قبل ذلك، لا بدّ من إنجاز ملموس في المقدمات الضرورية التي طلبتها المعارضة، أكانت «إجراءات بناء ثقة» كما تسمّى، أو تنفيذاً للمادتين 12 و13 من القرار الدولي 2254 في شأن الأوضاع الإنسانية. لعل في الحديث عن فشل مؤكّد لهذه الجولة تسرّعاً، وليس صحيحاً أن النجاح رهن أداء المعارضة والنظام واستعداداتهما، بل إنه يتوقف على إخضاع تفاهمات أميركا وروسيا لشيء من «الواقعية» كي تتبنّى حلّاً منصفاً ومتوازناً للشعب السوري ومكوّناته بدل «مشروع حل» مستحيل يبقي النظام برأسه وإجرامه وإرهابه ويحمل بذور فشله في ذاته. في سورية أو في سواها، والعراق شاهد، لا يستقيم حل سياسي إذا بني على موازين قوى عسكرية فحسب، وإذا كانت الدولة/ النظام طرفاً معتدياً على الشعب كطرف آخر، وبالأخص إذا أُريد إنقاذ هذا النظام واستبداده ووحشيته وبراميله بدعم من قوى خارجية. هذا «حلٌّ» لن يكون، ولا يمكن فرضه فرضاً على الشعب السوري، أياً تكن الضغوط، بل إن المبالغة في الضغط تنتج العكس تماماً، وتجربة افغانستان موجودة ومتفاعلة. فالحديث هنا عن بلد واحد وليس عن بلدين متحاربين بينهما حدود، وحتّى اختزال الصراع، على سطحيته، بوجود «معتدلين» و «متطرّفين/ إرهابيين»، لا يسوّغ حلّاً لمصلحة مصدر الإرهاب ومصنعه، إلا إذا نسي الأميركيون فجأة أن النظام لم يكن فقط ماكينة تعذيب وقمع بل لم يُعرف إلا بكونه «آلة قتل».
طالما أن الولايات المتحدة وروسيا تؤكدان تواطؤهما مع النظام وإيران ضد الشعب السوري، وطالما أن «أمم ستيفان دي ميستورا المتحدة» شريكة أصيلة في هذا التواطؤ، لا تمكن المراهنة على أي مفاوضات. لقد ذهبت هذه الأطراف بعيداً جداً في التحايل على حقائق الصراع. فواشنطن لم تتردد في القول أنها استوحت «النقاط الأربع» الإيرانية التي طُرحت في العام 2014 ثم «معدّلة» في 2015، وهي كانت لتكون مفيدة و «حسنة النيّة» لو عُرضت على النظام في 2011 عندما اعتبرت طهران أن الاحتجاجات الشعبية انما هي «مؤامرة» على «محور المقاومة والممانعة» ولا بدّ من مواجهتها بالحديد والنار وبقنّاصة «حزب الله» لاصطياد المتظاهرين السلميين. ولا تقترح هذه النقاط شيئاً آخر غير بقاء بشار الأسد ونظامه ومنظومة شبيحته وميليشيات حليفه الإيراني. أما موسكو فكانت على تنسيق دائم مع طهران، وعلى «تفاهم» مستمر مع واشنطن، وعلى دعم متواصل للنظام تحول الآن إلى تدخل/ احتلال عسكري. لم تهتم بأي حوار مع المعارضة إلا لكي يُسمعها سيرغي لافروف مواقف وإملاءات من نمط ما سُمع أخيراً من جون كيري. لم تفطن الدولتان العظميان إلى أن حل المسألة السورية لا يكون بتسليم البلد إلى إيران على غرار ما حصل اعتباطاً للعراق، فهذه تدّعي «حقّاً» ليس لها في سورية ولا يمكن أن يكون، لا بسبب تركيبتها السكانية فحسب بل للاعتبارات الاقليمية والجيو – سياسية. وقد برهنت إيران بتدخلها في سورية ما سبق أن برهنته بهيمنتها العراق ومصادرة حكومته، وليس فيه ما يؤهلها لأن تكون عامل تطبيع سلمياً، أو طرفاً في محاربة إرهاب استدعته استدعاءً إلى سورية، أو شريكاً في حلول سياسية، طالما أن أجندتها التخريبية انكشفت إلى هذا الحد في خمسة بلدان عربية على الأقل. لكن مَن قال أن الروس جاؤوا إلى سورية بقصد محاربة الإرهاب، أو لإحلال السلام والوئام. جاؤوا أولاً وأخيراً لتحصيل أوراق إضافية في مساوماتهم مع الأميركيين في شأن ملفات أخرى، وبما أن أميركا والدول الغربية لا تريد الرضوخ لمطالب روسيا وإرضاءها على حساب مصالحها في اوروبا، فإنها تفضّل تعويضها في سورية.
بعدما أحبط نظام الأسد «الحل السوري» ثم «الحل العربي» ثم مرحلتين من التدويل مع كوفي أنان والأخضر الابراهيمي، بقي له «الحل الروسي- الإيراني- الأميركي»، كما تبلور سرّاً في كواليس لقاءات فيينا (النووية ثم السورية) أو على هامشها. ففي واجهة المشهد وخلفيته، كان واضحاً أن ورقة «داعش» التي زرعها النظام وحليفه الإيراني، مرفقة بموجات اللاجئين، ماضية في إثبات مفعولها الدولي، وأن ورقة «الإقليم الكردي» أفلحت في إرباك تركيا قبل أن يلجمها التصعيد الروسي. وقد يكون «الشريك الأميركي» أنجز دوره المرسوم عندما جهر بانقلابه على «بيان جنيف» فأحدث بلبلة لا هدف لها سوى إشغال المعارضة والدول الداعمة لها عما هو حاصل فعلاً على الأرض حيث تتداخل الأدوار في شمال سورية: مطار رميلان للأميركيين ومطار في القامشلي للروس، قوات كردية- عربية تقاتل «داعش» وتطهير عرقي كردي لبلدات وقرى عربية، بالإضافة إلى إشراف روسي- أسدي على تطهير عرقي للتركمان من مواطنهم التاريخية، تقدّم لقوات النظام في جبهة الجنوب بعد أمر أميركي بقطع الإمدادات العسكرية عن قوات المعارضة…
واقع الأمر أن الأطراف الأربعة (روسيا وأميركا وإيران والنظام) التقت أخيراً بفضل «داعش». وفي شهادات لقادة من فصائل المعارضة المقاتلة ما يؤكّد ذلك. فهذا أحدهم من «الفرقة 13» قال أنهم تلقوا عام 2014 أسلحة من الأميركيين مع شرطين: عدم محاربة «داعش»، وعدم محاربة قوات النظام إلا في المناطق التي تُحَدّد لهم. وهذا آخر سلفي تلقّى سلاحاً من الأميركيين مع اقتراب «داعش» من دير الزور واشتُرط عليه أيضاً عدم القتال ضد التنظيم. وهذا ثالث من «الجيش الحر» كان شاهد عيان على قيام النظام بتسليم الرقة إلى «داعش»، وكان مشاركاً في خطط توحيد فصائل «الجيش الحر» إلى أن تيقن بأن الأميركيين اعتمدوا على أطراف أخرى لإحباط كل المساعي. وهذا رابع يروي أن عين العرب/ كوباني كانت ملاذاً للسوريين الهاربين من مناطق القتال، وكانت آمنة، لكنه وهو العسكري الخبير بالمنطقة لم يفهم لماذا هاجم «داعش» المدينة رغم الوضوح المسبق بأنه لن يتمكّن من ضمّها إلى سيطرته، لذا يرجّح أن يكون التنظيم استجاب تعليمات من جهات استخبارية يرتبط بها وقد أسفرت العملية عن إبراز دور «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي وزعيمه صالح مسلم الذي لم يقطع الصلة مع النظام وإيران.
وكما ساهم «داعش» في التواطؤ الرباعي، تحوّل دي ميستورا من مبعوث للأمم المتحدة إلى مروّج لسياسات تمييع قضية المعارضة وتلميع صورة النظام، إلى حدّ السماح لدمشق بتنقيح تقرير عن الوضع الإنساني وإلغاء أي إشارة فيه إلى الحصارات أو البراميل المتفجّرة، بل التغطية على بلوغ الخطر حدّ المجاعة قبل شهور في مضايا والمعضّمية وداريّا. وإذا كانت القاعدة أن يعمل أي مبعوث أممي في إطار توافق الدول الكبرى، فإن دي ميستورا تجاهل باكراً «بيان جنيف» الوارد في القرار 2118 وراح يعمل وفقاً لرغبات موسكو وواشنطن وطهران، لكن مسؤوليته وواجبه يلزمانه باحترام حد أدنى من مبادئ الأمم المتحدة، وبالحياد والنزاهة حيال الشعب وقضيته. كان حريّاً به أن ينبّه العواصم التي توجّه مهمته إلى أن القرار 2254 ينص على إجراءات «فوق التفاوض» (وقف القصف ورفع الحصارات وإيصال المساعدات وإطلاق المعتقلين)، ولا بد من تلبيتها كي يمكن دخول العملية التفاوضية. لكنه لم يفعل، ويُتوقّع منه أن يكون بالغ السلبية تجاه المعارضة في سعيها إلى تحسين شروط التفاوض قبل الشروع به أو الانسحاب منه. ذاك أن سلوك دي ميستورا، منذ تكليفه، كان متعايشاً دائماً مع جرائم النظام وابتزازاته، وبالتالي فإن استمراره على هذا النهج سيجعل منه مشكلة وليس عنصراً مسهّلاً. سبق لدي ميستورا أن لمس انعدام الثقة بينه وبين قيادة «الائتلاف» التي تمنّعت عن مقابلته، وها هي الهيئة العليا للمفاوضات أبلغته عدم رغبتها في الالتقاء باثنين من مساعديه. كان لافتاً أنه عندما قام بـ «زيارة مجاملة» لوفد المعارضة، بعد وصوله إلى جنيف لم يكن برفقة نائبه رمزي عزالدين رمزي الذي فضّل زيارة وفد النظام.

حسناً أنهم ماتوا باكراً
غسان شربل/الحياة/04 شباط/16
أهربُ أحياناً من مهنتي. منذ اندلاع «الربيع العربي» تحولتُ حفّاراً للقبور. أجمع يومياً الجثث الوافدة من الشرق الأوسط الرهيب وأواريها في صفحات «الحياة». وحين أسافر بحثاً عن خبر أو نافذة أرجع مثخناً بهدير الانهيارات وبكاء الخرائط. تلازمني عادة سيئة قديمة. أتوهّم أن الهروب إلى المكتبات يساعد أو يفيد أو يعزّي. ذهبتُ إلى مكتبة جرير في الرياض. وكان همّي التعرُّف إلى نتاج الأصوات الجديدة. فجأة شاهدتُ على الرف المجاور صُوَراً ودواوين لأربعة من المقيمين في الذاكرة. محمد مهدي الجواهري. نزار قباني. محمد الماغوط. ومحمود درويش. أفسدَتْ الصُّوَر رحلتي. انتابني شعور غير لطيف. وجدتُني أقول في نفسي حسناً أنهم ماتوا. وخجلت قليلاً بشعور من هذا النوع. البديهي أن أقول ليتهم عاشوا أكثر. أعمارهم تفني أعمارنا ومخيلاتنا. ورحم الأمة بخيل أصلاً. لا يفاجئنا بقامات من هذا النوع إلا في فترات متباعدة وربما لهذا السبب نشعر أمام الزمن أننا عُزَّل إلاّ من المتنبّي. نعتبره نجمة عابرة للقرون التي تغتال العناوين والأسماء. ونرى ديوانه درّة المكتبة ونحمله معنا حين تستدعينا المنافي.
حسناً أنهم ماتوا.
لا نُبلَ في هذا الشعور ولا رقّة. لكنني عزيزي القارئ، أتحدَّث عن رجال عرفتُهم وقرأتُهم. ولعلّني في داخلي أردتُ أن أنقذهم من ذُلِّ الإقامة في مستنقع الانحدار العربي. انحدار لا يَعِدُ بغير المزيد من الانحدار. عدتُ إلى الفندق فلاحقتْني الصُّوَر. تَصَوَّر عزيزي القارئ، أن يُستدعى الجواهري العظيم، مرتكب العمارات ووريثها، ليمثُل أمام محكمة «داعش». وأن يرى لدى دخوله المحكمة رأس الماغوط مقطوعاً وصاحب الرأس يواصل ضحكة عالية تشبه الصهيل. تصوَّر أن يُسأل الجواهري عن جرائمه، عن الأبيات التي اقتحمت النوافذ والجدران وتسلَّلتْ إلى الذاكرة والألسن. تصوَّر عزيزي القارئ، الجواهري جالساً على شفير دجلة في بغداد العباسيين. تصوَّرْهُ يرى بغداد تتلوّى على لحن النزاع الشيعي – السنّي. تصوَّرْهُ يستمع إلى الأنباء عن استباحات «داعش». والارتكابات في المقدادية بعد طرد التنظيم. وحلم أهل الأنبار بالإقليم. وحلم الأكراد بالطلاق. لا يصلح الجواهري لزمن الطوائف والخنادق. أتخيّلَهُ يرمي بنفسه في النهر للاختباء خجلاً في أعماقه. تصوَّر عزيزي القارئ، الماغوط يمثُل أمام محكمة «داعش». ويسأله القاضي عما قاله الصحافي في المقهى الدمشقي: «لا تسقط في الأمل. الخيار أمامنا معروف: إما أبو نجمة (الضابط) وإما أبو لحية (الإرهابي) وكلاهما يغذّي الآخر. الأول يسرق كرامتك وربما أظافرك أو أسنانك. والثاني يسرق أبسط حقوقك ويحوّلك كتلة من الظلام». وأغلب الظن أن الماغوط كان سيموت لأسباب أخرى أيضاً. من رؤية القتل الطائفي والتهجير. من ارتكابات مَنْ وفدوا بحجّة دعم المعارضة واغتالوها. وارتكابات البراميل والسيارات المفخّخة. من هذا الخيار المدمِّر بين «أبو نجمة» و «أبو لحية». وتصوَّر عزيزي القارئ، نزار قباني يتابع بأناقة روحه وأسلوبه ومن بيروت الموحِشة أخبار سورية الممزّقة والمدمّرة بشراً وحجراً. ودمشق التي غادرها الياسمين. وبغداد الذبيحة الكئيبة المفلسة. أغلب الظن أنه كان سيستدعي قصيدة «متى يُعلنون وفاة العرب؟» ليضيف سطوراً لاهبة قبل أن يُبحر في قوارب الموت. وتصوّر محمود درويش يرى بنيامين نتانياهو يتابع بالمنظار اندحار الدول والعواصم العربية. ينتصر من دون أن يطلق رصاصة. ويسمعه يقول إن ما فعلته إسرائيل بالفلسطينيين أقل بكثير مما يفعله العربي بالعربي. أغلب الظن أن قلبه كان سينفجر أو سيسلّم نفسه متعمّداً لسيّاف «داعش». حسناً أنهم ماتوا باكراً. نجوا من مستنقعات الذُّل الشاسعة. من حقول الظلام المديدة. وحقول الوحل والدَّم. من هذا الانحدار السريع الهائل المتواصل. حسناً أنهم لم يعاينوا فضيحة الموصل. وحلب. وبغداد. ودمشق. وطرابلس. وصنعاء. حسناً أن نزار لم يشاهد الإيزيديات سبايا يُبعنَ في الأسواق. ما هذا الانحطاط؟ ما هذا الانحدار؟ يذهب صحافي إلى المكتبة ليتعزّى ثم يجد نفسه يهنّئ مَنْ توارى قبل الزمن العربي الحالي. زمن الذليل الواقف في الصَّف الطويل.

دي ميستورا يستقوي على المعارضة بالجنون الروسي
حسان حيدر/غسان شربل/الحياة/04 شباط/16
منذ بدأ «الوسيط» الدولي ستيفان دي ميستورا مهمته في منتصف 2014 لوضع تصور للتسوية في سورية، انطلق من معطى نظري يصر على التمسك به في محادثات «جنيف-3» الحالية، في حال انطلاقها فعلاً واستمرارها، وهو أن نظام بشار الأسد، على رغم كل جرائمه، ما زال يعتبر في مفهوم الأمم المتحدة الطرف «الشرعي» المعترف به دولياً، فيما المعارضة خاضعة لتقييم مستمر حول شرعيتها ومن يمثلها. وانعكس هذا الموقف في رغبة دي ميستورا الدائمة في ضم ممثلين عن تنظيمات وهيئات قريبة من النظام إلى المفاوضات، وفي محاولاته المتكررة للالتفاف على بيان «جنيف 1»، وهو ما نجح فيه من خلال صيغة قرار مجلس الأمن الرقم 2254 نتيجة تساهل أميركي وصل إلى حد التواطؤ مع الموقف الروسي. وعندما باءت محاولاته الأخيرة للتشكيك في صحة تمثيل هيئة المفاوضات المنبثقة من مؤتمر الرياض، لجأ إلى اعتماد من ترفضهم المعارضة «مستشارين» له ودعاهم إلى جنيف بصفتهم هذه.
لكن مع انكشاف عدم جدية وفد النظام في جنيف وتذرعه برفض «الشروط المسبقة» للتهرب من المطالب الإنسانية التي تشدد المعارضة على تنفيذها قبل أي تفاوض، استنجد «الوسيط» الدولي علناً بالحليف الروسي لنظام الأسد، وقال في تصريح إلى «بي بي سي» أن المفاوضات لن تصبح جدية «ما لم تحصل تغييرات ملموسة على الأرض في سورية بينما نحن نتباحث». وكان يمكن لتصريحه أن يحتمل التأويل الإيجابي، كأن يفهم منه مثلاً أنه يقصد إجراءات ترسي بعض الثقة بين الطرفين «لأنها حالياً تقارب الصفر» على حد تعبيره. لكن تزامنه مع وصول حملة القصف الروسي على مناطق المعارضة، وخصوصاً في حلب، إلى حد الجنون (نحو مائتي غارة في يوم واحد)، وتسببها في نزوح عشرات آلاف المدنيين، وصولاً إلى تمكين الجيش النظامي والميليشيات الموالية له من تحقيق تقدم يهدد بعزل المدينة، يؤكد أن دي ميستورا المستقوي بجنون موسكو، يقصد تعديلاً في ميزان القوى على الأرض يسمح له بفرض شروط النظام على الوفد المعارض. تذكّر حملة القصف الجوي الروسي على حلب وسواها بالعدوان الإسرائيلي على لبنان في 1982 عندما حاصر جيش العدو العاصمة بيروت وقسمها إلى مربعات باشر في تدميرها واحداً تلو الآخر فوق رؤوس المدنيين للضغط على منظمة التحرير الفلسطينية وإجبارها على الخروج، الذي تلته استباحة الإسرائيليين المدينة. فهل هذه هي التغييرات التي ينتظرها دي ميستورا؟ وهل كثير أن تطالب المعارضة بوقف القصف على المدنيين كي لا تبدو أنها تقفز فوق دماء شعبها وتفاوض من ضعف؟ ولعل توصيف وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند للموقف الروسي هو الأدق، عندما اتهم موسكو بأنها «تستخدم عملية السلام ورقة توت تخفي وراءها محاولة لتقديم نصر عسكري من نوع ما للأسد يتمثل في إقامة دويلة علوية في شمال غربي سورية». يتهرب دي ميستورا من الدعوة إلى وقف الغارات، وهي أقل واجباته كممثل للأمم المتحدة، ويستخدم بدلاً من ذلك التهويل بالانهيار الكامل للمفاوضات التي يعتبرها «فرصة أخيرة»، للضغط على المعارضة. لكن هل يفترض أن يكون ثمن استمرار المفاوضات إخضاع المعارضين وإجبارهم على التنازل تحت ضغط المذابح؟ الجواب سلبي على الأرجح، على رغم أن ذهاب الوفد المعارض إلى جنيف انطوى على إيجابيات أهمها فضح دور روسيا التي تحاول أن تظهر بمظهر الشريك في رعاية المفاوضات فيما هي طرف متورط في قتل المدنيين.