شادي علاء الدين: السعودية الجديدة ولبنان العتيق/راجح الخوري: القنطار اغتيل في أحضان روسيا

282

السعودية الجديدة ولبنان العتيق
شادي علاء الدين/العرب/26 كانون الأول/15

نحيا زمنا سعوديا جديدا تخلت فيه السعودية عن السلمية التي كانت السمة الأبرز لممارستها السياسية، وركنت إلى الخيار الحربي تحت عنوان عام يتعلق بقيادة الحرب السنية على الإرهاب. أبرز النتائج المتوقعة من هذا التحول السعودي أنه يُخرجُ الإرهاب من حصريته السنية، ويصوب على الإرهاب الشيعي ويستهدفه. هذه السعودية الجديدة لم تنتج لبنانا جديدا بل ساهمت في إعادة إنتاج لبنان العتيق، لبنان الإقطاع المتشكل من ثنائية الموارنة والسنة، كما عبر عن ذلك بوضوح الرئيس المنتظر سليمان فرنجية مؤخرا في سياق حديث تلفزيوني.

لبنان السنة والموارنة يأتي في لحظة فقد فيها كل من هذين المكونين الدور الذي كان يمنحه خصوصية، تجعل من إمساكه بمفاصل القرار في لبنان سياقا طبيعيا لا يمكن إنكاره ولا دحض الوقائع المرتبطة به. الموارنة كانوا في لحظة ما يمثلون الجسر الذي يربط لبنان بالعالم، والوجه الحضاري والنخبوي الذي يعطي للبنان خصوصية ويمنحه حضورا دوليا. موارنة اليوم تحولوا إلى جزء ملحق بالقوى الإسلامية، وباتوا مجرد تلوين سياسي، وفقدوا حضورهم النخبوي وخصوصا بعد أن بات جزءا كبيرا من الحضور المسيحي الماروني في لبنان، مؤيدا لنظام الأسد الذي ينكل بالسوريين المنسوبين إلى السنة. من هنا لا تكون الرقصة الثنائية المارونية – السنية التي يتم تصميم خطواتها حاليا رقصة حبيبين بل مصافحة عدوين. سليمان فرنجية الإقطاعي القادم إلى كرسي الرئاسة تحت ظلال السعودية الجديدة المحاربة ليس امتدادا للنظام السوري، ولا رئيس تسوية مقبولة من السنة والشيعة، بل هو رئيس نهاية المسيحيين واحتدام المعركة بين السنة والشيعة. هذه المعركة هي المعركة الأساسية وفي سبيلها يهون كل شيء، وتتم التضحية بالتحالفات. هذه الحقيقة دفعت بالعماد ميشال عون وسمير جعجع إلى التكتل تحت عنوان مسيحي، وقد تجلى حضورها بقوة في ما أعلنه قيادي في تيار المستقبل، حول نية التيار الأزرق في الاستمرار في السعي إلى إنجاح تسوية انتخاب فرنجية، حتى لو رشحت القوات اللبنانية العماد عون. لم يعد أحد يحاول تلوين صيغته الطائفية بالتحايلات الوطنية المتعلقة بالتحالف مع الطوائف الأخرى.

ربما بدأ الزمن السني القادم على لبنان والمنطقة يرخي بظلاله. إخراج المسيحيين من معادلة الحكم والسلطة والشراكة في لبنان ليس سوى أول الغيث. يمكن استشفاف جدية النية في السير قدما في استكمال معالم هذا الزمان في ردة فعل حزب الله على اغتيال سمير القنطار بغارة إسرائيلية.

لغة التهديد والوعيد غابت، وغاب الملف الرئاسي عن خطاب نصر الله بعد الاغتيال، حيث كان أبرز ما فيه هو الحديث عن أن العقوبات الأميركية لا تطال الحزب في لبنان ولا تؤثر عليه، لأن أمواله لا تمر عبر المصارف اللبنانية. نصر الله يتوجه بهذا الكلام حصريا إلى الجمهور الشيعي الذي بدأ يستشعر الخطر الوجودي القادم والذي يرتدي وجها سنيا واضحا، ويمثل التأويل الحقيقي لمعنى وأهداف الحلف السعودي ضد الإرهاب غير الداعشي. يمكن رسم ملامح تسنن لبنان في اللحظة التي تم فيها الإفراج عن العسكريين لدى جبهة النصرة التي منحت صفة الناطق الرسمي باسم اللاجئين السوريين، ما حول انتسابهم من الهوية السورية إلى المذهبية السنية. من هنا باتت سوريتهم ممتنعة، ولم يعد تعريفهم ممكنا إلا انطلاقا من سنية ارتضى الجميع أن يترك لجبهة النصرة مهمة الوصاية عليها والنطق باسمها.

كانت الشبكة الحقوقية التي طالبت النصرة بمنحها اللاجئين مقابل الإفراج عن العسكريين إعلانا عن مولد دولة النصرة السنية في لبنان، التي تضم اللاجئين السوريين سواء ارتضوا بذلك أو لم يرتضوا، لأن لا مرجعية لهم سواها. حال السوريين صار مماثلا لحال الطوائف اللبنانية المخطوفة من قبل القيادات التي تم تلزيم طوائفها إليها رغما أنف أفرادها، الذين باتوا لا يملكون سواها كمرجعية يعودون إليها في تدبير أي شأن من شؤون حياتهم. هكذا بات حال اللاجئين السوريين في لبنان الذين لزّموا للنصرة مماثلا لحال التلزيم التي تطبع بنية السلطة عند الطوائف اللبنانية. من هنا يمكن القول إنهم باتوا بهذا المعنى لبنانيين عبر التلزيم، وسنة عبر نوعية التلزيم. سنية النصرة مرشحة في أفق التحولات الكبرى المتسارعة للتحول من صيغة الطرف الإرهابي إلى طرف، ليس فقط خارج توصيف الإرهاب، ولكن إلى طرف محارب للإرهاب. هكذا يمكن أن نقرأ في تسليم قرار اللاجئين إلى النصرة، الذي جاء قبل الإعلان عن نشوء الحلف السعودي السني ضد الإرهاب، أنها ستكون جزءا من هذا الحلف الذي سيحارب داعش وحزب الله في آن واحد. هذا هو لبنان السني الذي تُركّبُ ملامحه الآن، ويبدو أن هناك نهاية معلنة لتلك الصبغة الليبرالية التي كان تيار المستقبل يحاول من خلال تبنيها صناعة ماركة سنية مضاربة، يمكنها أن تنمو في بيئة سنية دون أن تنغلق على ذاتها داخل هوية سنية مغلقة. لم تعد هذه الليبرالية مقبولة ولا حتى ممكنة. المساومة لا تجري بين ليبراليين وطوائف أخرى، بل بين السنة الذين يحيون نشوة الصعود السعودي الحربي، وبين الشيعة المهزومين في سوريا، والذين يريدون التصرف كمنتصرين، والمسيحيين الذين غادروا دورهم وصودر حضورهم، وكانوا مساهمين فعالين في إنجاح عملية المصادرة القاسية التي جرت في حقهم. أبرز علامات المشاركة المسيحية في مصادرة القرار المسيحي تكمن في طبيعة النقاش الدائر حاليا، حيث لا ينكر أحد من المرشحين الأبرز للرئاسة ،أي فرنجية وعون، نسبه الأسدي في السياسة وربما في الأخلاق كذلك، ولكن النقاش يدور حول طبيعة هذا النسب وتفاوت درجاته بين الأخوّة والتأييد. لبنان العائد إلى إقطاع لا تبدو شروطه منجزة محاصر بمفاعيل الحرب الدولية على الارهاب، والحلف السني الذي تقوده السعودية ضد الإرهاب يحيا داخل شروط حرب أهلية منجزة. لبنان العتيق العائد يمتلك كامل نظام الأحقاد العتيقة، ولكنه لا يمتلك أجهزة الضبط القديمة نفسها ولا ظروف إنتاج التسويات، لأنه لا يمكن للتسويات أن تنجح داخل فضاء التجاهل، والإقصاء والهزيمة. السنة يهجمون حاليا، الشيعة يحاولون تركيب خطاب نصر رئاسي لمداراة هزيمتهم في الميدان السوري، والمسيحيون بلا دور، والدروز يحاولون منذ فترة الالتحاق بنسب سني تجنبا للمجزرة، فهل يمكن لهذا الوضع أن ينتج تسوية؟ التسويات قادمة على أجنحة المجزرة، والمجزرة اسم واحد لمعان واسعة تشمل الرئاسة والحروب المتكاثرة ضد الإرهاب، والبنى التي تعرّف الجماعات من خلالها عن نفسها، والتي تحضر فيها مفردة التسوية كنوع من الورد الذي لا ينمو ويتنفس ويحيا إلا بين الجثث.

 

 

القنطار اغتيل في أحضان روسيا؟
راجح الخوري/الشرق الأوسط/26 كانون الأول/15

عندما أعلن فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) الماضي عن بداية تدخله العسكري في سوريا، وبدأ بإرسال مقاتلاته الحديثة إلى منطقة اللاذقية، ثم عندما بادر إلى التحدي داعيًا الأميركيين إلى إخلاء الفضاء السوري في خلال ساعة، وطالبًا إنشاء غرفة عمليات للتنسيق لتلافي أي صدام قد يتم جوًا بين المقاتلات الروسية ومقاتلات التحالف الدول ضد الإرهاب، ظهر في بعض الصحف العربية وخصوصًا اللبنانية منها عدد من المقالات والتصريحات، أدلى بها مسؤولون، أجمعت على التبشير والاستبشار بأن زمن العربدة الإسرائيلية الجوية فوق الأراضي السورية قد انتهى. كان معروفًا في ذلك الحين أن العدو الإسرائيلي غالبًا ما ينفذ عمليات قصف يقول إنها استهدفت قوافل تحاول نقل أسلحة وصواريخ إيرانية من سوريا إلى حزب الله في جنوب لبنان، كذلك تركزت عمليات إسرائيل في شكل ملحوظ على التصدي لمنع قيام جبهة الجولان وجعلها تمثل امتدادًا لجبهة الجنوب اللبناني. وظهرت تحليلات كثيرة في الصحف الإسرائيلية والغربية تقول إن الإيرانيين وحزب الله يسعون إلى إقامة هذه الجبهة ردًا على عمليات القصف التي كانت إسرائيل تنفذها لتدمير ما قيل إنه شحنات من الصواريخ الإيرانية المرسلة إلى حزب الله، وهكذا عندما قتل جهاد مغنية (ابن عماد مغنية الذي كان قد اغتيل في كفرسوسة في دمشق) وعدد من الضباط الإيرانيين في منطقة القنيطرة إثر غارة إسرائيلية، قالت إسرائيل إن العملية جاءت ردًا على محاولات لتفعيل جبهة الجولان. الآن مع اغتيال سمير القنطار الذي كان عميد الأسرى لمدة ثلاثين عامًا في سجون العدو الإسرائيلي، بدا مرة جديدة أن إسرائيل مصممة على منع تفعيل جبهة الجولان، فقد قيل إن القنطار حل مكان جهاد مغنية في هذه المهمة، مع رهان أساسي على أنه كدرزي يمكن أن يلعب دورًا مؤثرًا في المحيط الدرزي في تلك المنطقة. وعندما يكتب رون بن يشاي في «يديعوت أحرونوت» أن لإسرائيل حسابًا دمويًا طويلاً مع القنطار يعود إلى يوم كان في السادسة عشرة من عمره، لكن من الواضح أن استهدافه مع رفاقه لم يكن أساسًا بسبب أفعالهم في الماضي، بل بسبب احتمال الضرر الذي يمكن أن يلحقوه مستقبلاً بإسرائيل، فذلك قد يعني أنه كان فعلاً يعمل على تفعيل جبهة الجولان! والآن هل كثير إذا قلنا إن سمير القنطار اغتيل في أحضان روسيا، وإن رد فعل بشار الأسد كان مثيرًا للاستغراب عندما اندفعت وسائل إعلامه إلى القول إن القنطار قتل «نتيجة قصف صاروخي إرهابي» في محاولة مكشوفة لتخفيف الحرج عن بوتين الذي ينسّق في الصغيرة والكبيرة مع بنيامين نتنياهو فوق سوريا؟ لا، ليس كثيرًا على الإطلاق، فمن الواضح أن المقاتلات الإسرائيلية دكّت المبنى الذي كان فيه مع رفاقه، ولا معنى لمخاتلة النظام السوري في الإيحاء أيضًا أن القصف الإسرائيلي المحتمل أطلق من خارج الفضاء السوري، لا معنى لكل هذه الترهات، وخصوصًا في ظل تلميح عسكريين يرتبطون بعلاقات وثيقة مع قادة الجيش والاستخبارات في إسرائيل، إلى وجود تواطؤ روسي ساعد في نجاح عملية الاغتيال يوم الأحد الماضي. من الواضح أن المبنى الذي جرى تدميره يقع في منطقة حيوية في محيط العاصمة دمشق، التي تنتشر فوقها مظلة دفاع جوي روسية حديثة، حيث يوجد مركزها صواريخ «إس إس 400» ترتبط برادار حديث يغطي أجزاء واسعة من إسرائيل، بما يعني أنه حتى لو كانت القذائف أطلقت من خارج الفضاء السوري لكان في وسع الصواريخ الروسية التصدي لها.

وإذا كان العدو الإسرائيلي التزم الصمت حيال العملية المثيرة، في حين غرقت صحفه بالترحيب بها، فإن ذلك لم يمنع من الإشارة ضمنًا إلى دور روسي مُفترض، وهو ما يدفع المرء إلى أن يتذكر أن موسكو سبق أن تجاهلت ثلاث عمليات قصف على الأقل نفذها سلاح الجو الإسرائيلي ولم يُعلن عنها رسميًا، ضد قوافل للأسلحة والصواريخ، التي قيل في حينه إنها كانت تعدّ ليتم شحنها إلى حزب الله في لبنان. عندما نزل فلاديمير بوتين بقضّه وقضيضه في سوريا على طريقة «الأمر لي»، لم يقع المحللون في بيروت وحدها في الافتراض أن زمن العربدة الجوية الإسرائيلية في الفضاء السوري انتهى، المحللون في تل أبيب وبينهم عاموس هرئيل كتب في صحيفة «هآرتس» أن السماء السورية ستكون عصية بعد اليوم على سلاح الجو الإسرائيلي. لكن المفاجأة التي لم يقدر أحد حجمها وخطورتها، تمثلت في كلمتين وردتا في تصريح فلاديمير بوتين بعد استقباله بنيامين نتنياهو في موسكو في 12 أكتوبر (تشرين الأول)، أي بعد عشرة أيام من النزول الروسي في سوريا، حيث قال بالحرف: «إن موسكو تعترف بالمصالح الإسرائيلية المشروعة في سوريا». فهل عمليات القصف وآخرها تلك التي استهدفت سمير القنطار ورفاقه الستة من هذه المصالح الإسرائيلية المشروعة في سوريا؟! إذا كانت موسكو على علم بالغارة الإسرائيلية التي اغتالت القنطار، وهذا مؤكد فعلاً، فتلك مصيبة بالنسبة إلى الذين استبشروا بإمكان إغلاق الفضاء السوري أمام إسرائيل، وإذا لم تكن على علم، وهذا مستبعد، فليس كثيرًا إذا افترضنا أن نظام «إس إس 400» الحديث هو مجرد خردة، وهذا أمر لن يقبل به بوتين قطعًا. ولهذا ليس كثيرًا القول إن نتنياهو اغتال القنطار في أحضان روسيا، الذي لن يكون بالضرورة منزعجًا من هذه الجريمة قياسًا بحساباته البعيدة المدى في سوريا! في هذا السياق تحديدًا يجب أن نتذكر أنه منذ بداية الأزمة السورية تكرر دمشق وتل أبيب وموسكو ما معناه أن بقاء الأسد في السلطة يمثل مصلحة إسرائيلية، ولعل من المستلزمات الحيوية للحفاظ على هذه المصلحة مثلاً أن لا تتحول هضبة الجولان إلى جبهة جديدة يفتتحها الإيرانيون ويجعلون منها امتدادًا طبيعيًا لجبهة الجنوب اللبناني، ولأن سمير القنطار كان يعمل بعد جهاد مغنية على تفعيل هذه الجبهة تمت تسوية الحساب الإسرائيلي القديم معه. لقد اغتيل القنطار وسط تعمية النظام السوري الذي ربط العملية بقصف إرهابي لم يحدده، ووسط صمت روسي صارخ وتعامٍ رسمي إسرائيلي فصيح جدًا، وكل هذا يمثل في الواقع رسالة صريحة من بوتين إلى الإيرانيين: لقد بات الأمر لنا في سوريا!