عبدالوهاب بدرخان: روسيا وإيران لتغيير مسار فيينا بعد صدمة الرياض/طارق الحميد: العراق هو أزمة المنطقة/هدى الحسيني: ما دفع روسيا إلى المتوسط أبعد من سوريا

236

روسيا وإيران لتغيير مسار فيينا … بعد «صدمة» الرياض
عبدالوهاب بدرخان/الحياة/17 كانون الأول/15
هل بدأت روسيا وإيران عملية منهجية لإسقاط مسار فيينا لإنهاء الأزمة في سورية، بعدما أحبطتا مسار جنيف قبله؟ المؤكّد أن لديهما أسباباً، خصوصاً روسيا التي تعتبر أن الأطراف الأخرى الجالسة إلى الطاولة لم تغيّر موقفها من نظام بشار الأسد، أي أنها لم تفهم بعد مغزى التدخل الروسي أو لا تريد الاعتراف بالتغيير الذي طرأ على موازين القوى داخلياً لمصلحة النظام. أما إيران فكانت ولا تزال رافضة صيغة جنيف لـ «حكم انتقالي»، والفارق بينها وبين روسيا أن الأخيرة تقبل تكتيكياً البحث في «الانتقال» كطريقة جدلية لتسويق مفهومها لـ «بقاء الأسد». منذ عشية مؤتمر الرياض للمعارضة، بدأت موسكو تطلق إشارات اعتراضية متتالية تلقتها واشنطن بالإعلان فجأة عن زيارة جون كيري روسيا. كانت بداية الاعتراضات على نقل لقاء «مجموعة فيينا» إلى نيويورك، وتواصلت باستعجال الحصول على قائمة «التنظيمات الإرهابية» التي كلّف الأردن بإعدادها، ثم برفض الصفة التمثيلية للمعارضين المدعوين إلى الرياض، وكان آخرها تساؤل سيرغي لافروف لماذا ترفض واشنطن إشراك «نظام الأسد» في الحرب على «داعش»… كل ذلك يشي بأحد أمرين: إمّا أن الروس يرون أن الخطوات التمهيدية لتطبيق «خريطة فيينا» لا تسير على النحو الذي يناسبهم، وإما أنهم يريدون مساومة الأميركيين على شروط جديدة لاستمرارهم في تبنّي هذه «الخريطة». وقد مهّدوا للمساومة أولاً بالتصعيد المفتعل للتوتر مع تركيا، ثم بتكثيف القصف على مناطق المعارضة، وكذلك بغضّ النظر عن العمليات الوحشية التي يقدم عليها النظام في منطقة الغوطة.
غضبت موسكو وطهران لأن مؤتمر الرياض استبعد «المعارضين» المزيفين الموالين لهما أو للنظام. لذلك، أجمعت الأطراف المتضررة من المؤتمر على ذريعة واحدة لتبرير غياب عملائها، وهي أن المؤتمرين، أو بعضاً منهم، «إرهابيون». فالخارجية الروسية قالت أن قسماً «كبيراً» من المعارضين السوريين قاطعوا «لأنهم رفضوا الجلوس إلى الطاولة نفسها مع متطرفين وإرهابيين». أما نائب وزير الخارجية الإيراني فقال أن «مجموعات إرهابية على صلة بداعش تشارك في هذا الاجتماع». وبالطبع، قال الأسد أنه يرفض التفاوض مع «جماعات إرهابية» إلا بعد «تغيير منهجها والتخلي عن سلاحها». وإذ قدّمت تصريحات «أبو محمد الجولاني»، زعيم «جبهة النصرة»، مساندة للنظام والإيرانيين، بتهجّمه على ممثلي الفصائل المقاتلة الذين قال أنهم لا يستطيعون تنفيذ ما يلتزمونه، فإن هذه المساندة ملتبسة لأنها تبعد شبهة الإرهاب عن تلك الفصائل. ولكي تكتمل الصورة فإن رئيس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي صالح مسلم، وهو أحد المستبعدين، اختار اللغة نفسها لتوكيد المحور الذي ينتمي إليه ولم يوفّر أي سبب يدعو إلى تخطئة استبعاده، إذ قال أن «الهدف الأساسي للمؤتمر كان إضفاء شرعية على منظمات وفصائل مشتقّة من تنظيم القاعدة». واعتبر أن كيانات أخرى عربية وكردية وتركمانية «معروفة بمعارضتها للنظام» استُبعدت عمداً لأنها لا تدعم مواقف الأطراف الخارجية ولا تلبي أجنداتها، وكان الأجدى أن يذهب بالصراحة إلى أقصاها للقول أن حزبه وتلك «الكيانات» غُيّبت لأنها تدعم أجندة إيران، وبما أن إيران تدعم النظام وتعتبره «خطاً أحمر» (وفقاً لعلي أكبر ولايتي مستشار المرشد)، فهذا يعني أن تلك «الكيانات» ملتزمة هذا «الخط»، ولو دُعيت إلى الرياض لوجب فتح المؤتمر لعدد لا يُحصى من «المعارضين»، ولما أمكن التوافق على شيء. ولأن مؤتمر الرياض كان لحظة حاسمة لدسّ مَن صنّعتهم استخبارات روسيا وإيران ونظام الأسد في «خريطة الحل السياسي»، ولا وجود لهم على الأرض، فإن غيابهم شكّل خسارة لمن استثمروا فيهم منذ زمن. وللتخفيف من الخسارة جرى ترتيب ذلك «المؤتمر» في المالكية، إحدى مناطق سيطرة قوات حزب «الاتحاد» الكردي، وكان بين أولوياته مناقشة «مسألة الفيديرالية الديموقراطية»… هذا يدفع بالخيارات إلى ما هو أبعد من «خريطة فيينا»، بل يرمي إلى توجيه «الحل السياسي» نحو هدف كان لا يزال محور تفكير النظام وإيران، فالفيديرالية هو الاسم الآخر للتجزئة والتفتيت واالتقسيم. وجاءت روسيا الآن لدعم هذا التوجّه، بدليل خدماتها الجويّة لعمليات «التطهير العرقي» الذي تنفّذها قوات النظام ضد التركمان بعد التطهير المذهبي للسنّة، مواكبة للتطهير العرقي الذي أقدم عليه حزب «الاتحاد» للعرب في محيط تل أبيض ويواصله حالياً بتهجير التركمان. وليس مصادفةً أن يتزامن ذلك مع استكمال إفراغ حمص من سكانها السنّة. وكلّها عمليات لا بد من التذكير بأنها تكرّر السيناريوات الإسرائيلية لاقتلاع السكان الفلسطينيين. وهكذا، فإن «مؤتمر المالكية» لم يكن للردّ على مؤتمر الرياض فحسب، بل خصوصاً لخدمة أغراض التحالف الأسدي – الإيراني بالردّ على أولى الثوابت التي أجمعت عليها المعارضة في الرياض، وهي «الوحدة أرضاً وشعباً».
واقع الأمر أن روسيا وإيران لا تكتفيان بأن تتمثّلا بوفد النظام في أي مفاوضات مزمعة، بل تتضامنان مع هذا النظام في السعي إلى الاستحواذ على حصة مهمة في وفد المعارضة، وطالما أنهما لم تحصلا عليها، فقد وجهتا سهام النقد إلى مؤتمر الرياض بأنه استضاف «إرهابيين». وتلك ذريعة دعائية أصبحت مستهلكة، لا يدحضها سوى أن «إرهاب نظام الأسد» فاقع البروز في بديهيات صورته وتكوينه وممارساته، ولم يضف إليه تحالفه مع روسيا وإيران سوى «شرعنة» هذا الإرهاب، وهما المشهورتان بترهيب معارضيهما، أما ما نقص من تلك «الشرعية» فاستكمله النظام من وحشية «داعش»، حتى أصبح قادراً على تخيير المجتمع الدولي بين إرهاب «دولة الأسد» وإرهاب «دولة البغدادي». والأكيد أن روسيا وإيران والنظام يريدون مفاوضات بين وفدين متطابقين، ففي أي عقل يمكن أن يستقيم ذلك؟ فقط في العقل الذي سبق للإسرائيليين أن عبروا عنه بسعيهم إلى فرض تسوية على الفلسطينيين تقوم على «موازين القوى العسكرية»، والروس والإيرانيون يتمثّلون بهذا النهج المستمدّ من كل ما يعنيه الاحتلال من استبداد وعدوانية. فكما أن الإسرائيليين يتوقعون من المفاوض الفلسطيني الرضوخ لإملاءاتهم، كذلك يريد الروس والإيرانيون من المعارض المفاوض أن يبارك بقاء النظام ويكتفي بما يعرضه عليه.
لذلك، يوافق سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف ظاهرياً على بيانات فيينا التي تقول أن مرجعية الحل السياسي هي بيان «جنيف – 1»، أما خارج الاجتماعات فيتمسّك الروسي بـ «حكومة وحدة وطنية» نافياً أي صفة «انتقالية» للحل المنشود وللمفاوضات بمجملها، بل شاطباً البند الأول من «جنيف – 1» وهو إقامة «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويفسّر الأسد والإيرانيون الكلام الروسي بأنه يعني استمرار النظام مع حكومة مطعّمة بمعارضين حدّدوا أعدادهم وأسماءهم وحقائبهم مسبقاً. وإذا لم ينجح هذا الخيار، وهو لن يمرّ بأي حال، فإنهم يعتبرون أن الحسم العسكري عاد متاحاً بوجود الحليف الروسي الذي لا تبدي الولايات المتحدة أي إرادة أو رغبة في مواجهته. بالطبع، هناك أسباب كثيرة للاعتقاد بأن أميركا غير مستعدة لدعم من يرغب من حلفائها الإقليميين في خوض مواجهة طويلة الأمد مع الروس، لأنها غير موافقة عموماً على النتيجة المحتملة لصراع كهذا، وكانت غير مقتنعة بدور عسكري للمعارضة وازدادت اقتناعاً بعد التدخّل الروسي. فأقصى ما تتمناه هو إقناع روسيا بأن تكون لديها استجابة واقعية لمتطلبات حل سياسي «معقول ومتوازن» يمكن الضغط على المعارضة وداعميها لقبوله. لكن، كلما اقتربت واشنطن من لحظة مفصلية في الشأن السوري، متوقّعة أن تلاقيها موسكو في منتصف الطريق، رفعت الأخيرة ورقة أوكرانيا والعقوبات، أي «اعطوا هنا لتأخذوا هناك». ولأنها ترفض أن «تعطي» في أوكرانيا، فإنها لن «تأخذ» في سورية. لذا، بدت مشوّشة ومرتبكة، إذ لم يفصل سوى ساعات بين بيان للخارجية الأميركية يرحّب بنتائج مؤتمر الرياض، وبين إعلان جون كيري أن لديه «مشكلتين» في تلك النتائج. فهل كان يتصوّر مثلاً أن تقرّر المعارضة الموافقة على حل سياسي «بوجود الأسد وزمرته»، أم كان يتوقّع التزاماً أقل بـ «حكم انتقالي» (بيان جنيف – 1) وقبولاً أكثر بـ «حكومة وحدة وطنية» (بيان فيينا). لو كان هذا هو المطلوب لما أمكن أصلاً عقد مؤتمر الرياض.

 العراق هو أزمة المنطقة
طارق الحميد/الشرق الأوسط/17 كانون الأول/15
أزمة هذه المنطقة مع الإرهاب المتفجر هي العراق، وليست «القاعدة» بالأمس، ولا تنظيم «داعش» اليوم، وذلك منذ سقوط نظام صدام حسين. لماذا نقول ذلك؟ مع إعلان السعودية عن تشكيل تحالف دولي بقيادتها، وبمشاركة أربعة وثلاثين دولة إسلامية لمحاربة الإرهاب، ناشد وزير الدفاع الأميركي العرب، وتحديدًا السعودية، والخليج، ضرورة تقديم مساهمات عسكرية أكبر ضد «داعش»، قائلاً إن حجم التنظيم المتطرف قد تنامى «إلى أجزاء أخرى من العالم ومنها أراضينا.. لكن دحرهم هنا في سوريا والعراق ضروري، ونحن بحاجة إلى تسريع هذا الأمر». والحقيقة أن «داعش» تنامى، وتمدد، تحت أنظار المجتمع الدولي، وتحديدًا أميركا، وكانت بداية التنظيم من العراق، ونتيجة أخطاء أميركية متراكمة هناك، ومنذ إسقاط نظام صدام، وحل الجيش، وتنظيم البعث، بشكل سطحي، رغم كل النصائح، وتحديدًا من السعوديين. وكذلك نتيجة الانسحاب الأميركي المتسرع من العراق، والسماح لإيران ببسط نفوذها هناك، وأسوأ تلك المراحل يوم توافقت واشنطن مع طهران على السماح لنوري المالكي بالبقاء رئيس وزراء.  اليوم عرف المجتمع الدولي أن قوة «داعش» المالية هي من النفط العراقي، وجل قوته القتالية من جيش صدام السابق، وبعض من أبناء سنّة العراق الذين تنكر لهم الأميركيون، وقبلهم نظام المالكي، وذلك بعد أن حاربوا، أي السنة، «القاعدة» في الأنبار، من خلال مجالس الصحوات. واليوم عرف العالم أن تطرف حكومة بغداد المركزية ضد السنة، وطائفية الجيش العراقي، هما اللذان قادا لظهور «داعش»، الذي يحتل ثلث العراق، ونصف سوريا التي تعدّ نقطة تمدد ونفوذ لـ«داعش» أكثر من كونها مركزًا رئيسيًا، فالعراق هو الأهم، كونه مصدر التمويل؛ النفط، ومصدر التجنيد والحشد. ولذا، فإن الخطوة الرئيسية لإطفاء جذوة التطرف والإرهاب بالمنطقة الآن، هي في إصلاح النظام السياسي العراقي، وذلك من خلال احتواء كل مكوناته، ولو بتسليح العشائر السنية ما دامت بغداد تماطل، مثلاً، في تكوين الحرس الوطني العراقي!
الإصلاح السياسي بالعراق يعني أن فرص نجاح مكافحة الإرهاب في المنطقة ستكون كبيرة، وأسرع وتيرة، وستكون نقطة التحول، حيث تتم محاصرة الأزمة السورية بنطاقها الجغرافي، وهو ما سيمكن الجيش السوري الحر من تولي السيطرة على المناطق التي يحتلها «داعش» الآن، مما يخفض من منسوب الطائفية المخيف بالمنطقة، ويدفع للحل السياسي في سوريا. إغلاق الحدود العراقية مع سوريا، وتفرغ بغداد لحل مشكلاتها جديًا، سيمنعان التجنيد والتطرف بسوريا، سنيًا وشيعيًا، كما أن الحل السياسي بالعراق سيقلص من النفوذ الإيراني هناك. وعليه، ففي حال تفهم الأميركيين أن العراق هو الأزمة، فحينها يكونون قد ساعدوا أنفسهم، والمنطقة، والمجتمع الدولي، وبالطبع سيساهمون بتسريع حل الأزمة السورية، وقبل هذا وذاك سيساهمون جديًا في محاصرة حريق التطرف، والإرهاب. ابدأ من العراق، وسينطفئ في سوريا، وتسقط ورقة الأسد و«داعش»، ونفوز بعراق أفضل للجميع.

 
ما دفع روسيا إلى المتوسط أبعد من سوريا!
هدى الحسيني/الشرق الأوسط/17 كانون الأول/15
مع التدخل العسكري الروسي في سوريا نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي تحولت روسيا إلى لاعب أساسي، إنْ لم يكن اللاعب الأول في الشرق الأوسط. زادت خسائر إيران وحزب الله في سوريا مع هذا التدخل، فاضطرت الأولى – رغم نفيها – إلى مراجعة عدد حرسها المنتشرين على جبهات القتال في سوريا، أما حزب الله فازدادت عرقلته على الساحة اللبنانية ليغطي على ما يتعرض له داخل سوريا. أما تركيا فكان رد فعلها الأول إسقاط طائرة «سوخوي» روسية، وقد يمتد انتقام الروس ليضرب علاقات أنقرة بالدول التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا، مع تجنب المواجهة العسكرية.
وسط هذا التوتر رأى زبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، أن هذه الأحداث قد تؤدي إلى تقارب أميركي – روسي يدفع إلى احتواء «مفيد» وواسع للعنف الإقليمي.  في حديث إلى الموقع الأميركي «بوليتيكو»، في 27 من الشهر الماضي، قال بريجنسكي عن سوريا: «لا توجد مصلحة وطنية كبرى لروسيا في بقاء بشار الأسد في الحكم إلى ما لا نهاية، كما لا توجد مصلحة وطنية أميركية في إجباره على الرحيل فورًا، ثم هناك مصلحة مشتركة بتجنب مواجهة كبرى روسية – أميركية». رأى بريجنسكي أن الحظ لعب دوره، لأن تركيا هي من أسقطت الطائرة الروسية وليس أميركا، ولأن قدرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هضم ذلك كانت ستكون أقل بكثير، وعبّر عن سعادته بأن مثل هذا الحادث لم يقع في جمهوريات البلطيق، حيث الميل الروسي للرد سيكون أسرع، ولا قدرة لدول البلطيق على المواجهة، عندها فإن ضرورة وجود استجابة قوية من الولايات المتحدة سيكون بديهيًا. من تحليلات بريجنسكي يُفهم أن الحلف الأطلسي لن يدخل في حرب من أجل تركيا، وأن الروس سيكتفون بالرد على مواجهاتها بطلقات نارية (كما حصل يوم الأحد بين بارجة روسية وسفينة تركية حاولت الاقتراب منها في بحر إيجة) أو بعقوبات اقتصادية.  لكن ماذا يريد الرئيس الروسي؟  يقول لي خبير غربي متخصص في الشأن الروسي إن «رؤية فلاديمير بوتين هي أكثر عالمية مما تعتقد أوروبا وأميركا، وأبعد كثيرًا من الصراع في سوريا». يرى أن اللاعب الأساسي في الشرق الأوسط اليوم هو روسيا التي ترسل مزيدًا من السفن والطائرات إلى سوريا، ويتوقع أن يوسع الروس القتال في سوريا.  يقول إن «الاشتباك مع تركيا وقع بسبب القصف الروسي المستمر على القرى القريبة من الحدود التركية – السورية. وأثبت القصف أن روسيا لا تركز هجماتها على تنظيم داعش، كما تعلن، لكنها تعمل بشكل منتظم على إزالة الضغط العسكري الذي يشكله مختلف المجموعات التي تقاتل نظام الأسد، بهدف التوصل إلى حل سياسي جديد في سوريا. لأوروبا مصلحة كبرى في التوصل إلى نوع من الحل؛ تريد وضع حد للحرب الأهلية هناك، على أمل وقف تدفق اللاجئين الذين سيغرقون القارة».
وكانت تقارير أشارت أخيرًا إلى أن ممر «أعزاز» صار مسرح حرب، حيث تكثفت المعارك في تلك المنطقة في الأسبوعين الأخيرين. وتشير التطورات إلى هجوم كردي قوي بدعم من الطيران الروسي يتم التحضير له من جهة الغرب، بالتنسيق مع استعدادات الجيش السوري والميليشيات اللبنانية والإيرانية والسورية المتحالفة على مشارف حلب. ولا يبدو أن روسيا عازمة على اتخاذ إجراءات ضد «داعش» الذي يدفع بقواته إلى المنطقة من الشمال. وقد تجد تركيا نفسها في ورطة إذا ما شعرت أن ممر «أعزاز» سيسقط، فهو آخر منفذ وممر للمعارضة السورية المسلحة عبر تركيا.  يقول محدثي الخبير في الشأن الروسي إن «الغرب يقرأ خطأ عقل بوتين، فرؤية الرئيس الروسي أبعد وأكثر عالمية من الصراع في روسيا. فالصراع هناك هو مجرد مظاهرة للتحركات العسكرية التي حققتها روسيا في السنوات الأخيرة، بما في ذلك إطلاق صواريخ (كروز) من السفن الصغيرة في بحر قزوين، والاستثمارات الضخمة في الصواريخ العابرة للقارات، وحتى في خزانات مجهزة بأنظمة حماية فعالة». يشرح: «بدأ الروس في السنوات الأخيرة يعتقدون أن الولايات المتحدة تعمل على تغيير النظام في الصين وروسيا، وعلى إضعاف الصين اقتصاديًا، من وجهة نظرهم، يخشى الأميركيون من أن تقوض الصين وروسيا تفوقهم العالمي، ولهذا غيّر بوتين الاستراتيجية الروسية».
أول تحرك له لكبح النفوذ الأميركي كان من خلال الحرب في جورجيا، ثم اتخذ قرارًا بأن الحلف الأطلسي لن يتقدم شرقًا من بولندا، ثم قام بحملته ضد أوكرانيا. يضيف: «كل هذه التحركات متشابكة. وفي الواقع منذ عام 2013 وروسيا في سباق تسلح ضخم، وتتابع باهتمام كبير التحركات الأميركية لوضع صواريخ حرارية نووية في أوروبا».  كرس الروس جهدًا كبيرًا للرد على الهيمنة الأميركية، قاموا مثلاً ببناء غواصات جديدة، وصواريخ استراتيجية، والعام الماضي صدّرت روسيا طائرات أكثر من أميركا. وتنتج هذا العام 240 طائرة ومروحية. قررت روسيا الرد على تفوق الولايات المتحدة بحلول عام 2018، وهي مستمرة في خطتها. من هنا، فإن التدخل في سوريا هو جزء من صورة عالمية واسعة جدًا. يقول محدثي إن «الروس يطورون أنظمة صاروخية للدفاع، وفوجئ الأميركيون بأن الروس ليسوا متأخرين عنهم في أي مجال، فهم على وشك تقديم الصواريخ التي يمكن أن تصل سرعتها إلى 11 ألف ميل في الساعة، ومداها غير محدد، ويمكن إطلاقها من أي مكان». لكن أعود مع محدثي إلى الشرق الأوسط ودور روسيا والاحتكاك مع تركيا، فيقول: «لنأخذ إسرائيل، فإنها تتابع تحركات الجيش المصري في سيناء ضد (داعش)». أيضًا، فإن الضغوط على «داعش» في العراق إذا ما تضاعفت قد تدفعه من هناك إلى الحدود الأردنية، وهذا أمر مقلق جدًا لإسرائيل، «إنما سيناريو مستبعد»، وكان لإسقاط تركيا الطائرة الروسية تأثير فوري على إسرائيل، إذ كان الحافز لإيصال الأنظمة الروسية المتطورة، بما فيها نظام الدفاع الصاروخي «إس – 300» إلى سوريا، فهذا سيقلل من تفوق الجيش الإسرائيلي في المنطقة، ولا يمكن بالتالي لسلاح الجو الإسرائيلي الاستمرار في طلعاته من دون الأخذ في الاعتبار الوجود الروسي في الأراضي السورية.
لكن، كيف يتعلق كل هذا بما يجري في سوريا؟ يقول محدثي: «بالنسبة إلى الطيران وصلت القدرة العسكرية الروسية الجديدة إلى مرحلة النضج. ثم إن الروس يصرون على إقامة مرافئ قبالة الشواطئ السورية.. هم استغلوا عجز الولايات المتحدة، وحقيقة أن موجة اللاجئين إلى أوروبا فرضت توقعات لدى كثير من الدول بأن روسيا قادرة على إصلاح الأمور. وصل الروس إلى تقييم من خلال الواقع الحالي بأن الأميركيين سيقبلون بأي حل يفرضونه على سوريا. ويبدو أن تقييمهم مبرر، لذلك لا يمكن فهم ما يدفع بوتين في سوريا من دون معرفة الصورة الكبرى».
رغم تعقيد هذا الطرح فإنه يبدو مبسطًا جدًا، كأن الاستراتيجية الروسية لن تواجه حائطًا مسدودًا أو عراقيل. هناك دول كثيرة استثمرت كثيرًا من هيبتها ومصداقيتها في سوريا، ثم من قال إن روسيا قادرة على فرض الحل الذي تراه مناسبًا في سوريا. كتب باتريك كوكبرن يوم الأحد الماضي مقالاً في صحيفة «الإندبندنت» اللندنية، قال فيه: «أصبح الصراع في سوريا والعراق في القرن الواحد والعشرين ما كانت عليه حروب البلقان في القرن العشرين. ومن ناحية العنف المتفجر على نطاق دولي فإن عام 2016 قد يكون لنا عام 1914، أي عام اشتعال الحرب العالمية الأولى»!
فهل يسود تحليل بريجنسكي أم سوداوية كوكبرن؟